ألمانيا.. إبتزاز الضحية!
“المدارنت”..
في إحدى زياراتي الى ألمانيا، التقيت بصديقي أمنون، وهو مثقف يهودي كبير، واهتمامه هو الدراسات التاريخية اليهودية.
كنا نمشي وسط شوارع برلين ونحن نحاذر أن ندوس على الشعارات اليهودية التي ملأتها. وفجأة نظر إليّ أمنون وقال: «كأننا نمشي في بلد هو ضحية الداء النازي». أي أن ألمانيا صارت موئلاً للفكرة الصهيونية التي كانت تتوسع في كل يوم.
يومها لم يخطر في بالنا أن تصل الأمور إلى الحد الذي وصلت إليه، أي أن تتحول ألمانيا فعلاً إلى ضاحية إسرائيلية.
لكن هذا حصل في الأسبوع الماضي حين أصدرت الحكومة الألمانية مجموعة قوانين دكتاتورية تفرض على المتقدمين للجنسية تأييد حق “إسرائيل” في الوجود وحماية الحياة اليهودية. وجاءت التعديلات بحجة مواجهة «ثقل التاريخ» الذي ألقى على ألمانيا عبء قتل ستة ملايين يهودي.
وما فعلته ألمانيا هو أنها ألقت هذا العبء على أكتاف المهاجرين والفلسطينيين، كما أنها تبرأت من جريمتها من خلال النسيان. فالهولوكوست صار أكبر نُصْب للنسيان في التاريخ.
ماذا يقول هؤلاء المجانين الذين يحكمون ألمانيا؟
هل حولوا ألمانيا إلى مستعمرة “إسرائيلية”؟
تغيير شروط نيل الجنسية الألمانية وتغيير شروط الإقامة في ألمانيا، فضيحة بكل المقاييس.
فجأة انقلبت الأشياء رأساً على عقب، بينما كان ممنوعاً الاحتفاظ بجنسيتين، صار الأمر مسموحاً لأحباب “إسرائيل”. وتم إلغاء عقبة اللغة وتوفر الدخل من شروط نيل الجنسية للعمال. وجرى تقليص مدة نيل الجنسية من ثماني سنوات إلى خمس سنوات وربما ثلاث سنوات في حال التفوق العلمي أو المهني.
سياسة مزدوجة المعايير بكل معنى الكلمة، هدفها فقط إعلاء الشأن الإسرائيلي والصهيوني في ألمانيا.
إنها مقايضة رخيصة بين العصا والجزرة، يضربونك وتستسلم ثم يعطونك جزرة كي يصبح استسلامك شرعياً.
كراهية الفلسطينيين والعرب وصلت إلى أعلى ذُراها، بحيث صار ذهاب أي مواطن عربي لألمانيا شكلاً من أشكال التطبيع.
أستطيع الآن أن أتخيل ذلك المشهد البحري المروع الذي قاد عشرات المهاجرين السوريين إلى حتفهم في البحر.
هل ذهبنا لنغرق دفاعاً عن “إسرائيل”؟
أم ذهبنا للموت من أجل قهر اللاسامية؟
ما هذه اللاسامية المرعبة التي تجعل حتى المدافعين عن اليهود، كشعب له الحق في الحياة، يصنفون اليوم كَلا/ سَاميّين؟
كما أرى أمامي آلاف المهاجرين يمشون في غابات أوروبا بحثاً عن الجنة الألمانية التي وعدتهم بها السيدة ميركل.
ولم أجد في حياتي قمعاً ووحشية تضاهيان مقتلة الغابات، كما أرى أمامي الذل واليأس في تجمعات اللاجئين الذين وعدتهم رئيسة الحكومة الألمانية السابقة بالتجنيس.
كانت ألمانيا في حاجة إلى يد عاملة رخيصة، فاستوردت آلاف السوريين، وعندما انتهت هذه الحاجة لم يعد السوري يساوي شيئاً.
هذا هو الغرب.
بقايا ديمقراطية كاذبة وحفلة قتل ونصب وابتزاز.
والطريف أن قرارات صدرت عن مجلس النواب الأمريكي بمنع تداول أرقام الإصابات والضحايا في غزة، الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية التي تعد الجهة الرسمية الوحيدة التي تتبع إحصائيات الوفيات في غزة. وجاء ذلك رغم إعلان الأمم المتحدة أنها أرقام يعتمد عليها.
يعتقدون أنهم آلهة وأن تصويتهم في برلمانهم يغير الكون، وهذا مجرد ادعاء فارغ يشبه اتهام ترامب لبايدن بأنه ليس سوى «فلسطيني رديء».
صاروا يوزعون جنسيتنا التي قرروا محوها من الخريطة على بعضهم بعضاً بسخرية رخيصة، كأننا أصبحنا سلعة في أيديهم.
تذكرت رواية الكاتب الألماني غونتر غراس «طبل الصفيح»، حيث قدم للألمان اقتراحاً لا ينسى.
اقترح إنشاء بار للبكاء اسمه «بار البصل».
وبار البصل هذا يخدم عدة أهداف: يسمح للألماني الشاعر بالذنب من وقائع الهولوكوست أن يندم ويبكي، كما يقدم له تطهراً من جرائمه.
صحيح أن اقتراح غونتر غراس يحمل قليلاً من السينيكية، لكنه يقدم حلاً أخلاقياً للألمان.
كان اقتراحي أن تعميم «بار البصل» هو الحل، لكن الألمان أطاحوا بهذا الحل وقرروا العودة إلى الصفر الهولوكوستي عبر هذه القوانين الجديدة.
لاحظوا الفرق بين الحضارة والبربرية. صحيح أن غراس تعرض لحملة شنيعة إثر اعترافه أنه في شبابه المبكر مر في تنظيم الشبيبة النازي، لكن من الواضح أن هذا لم يترك أثراً.
الأثر الأساسي هو البصل.
على الألمان العودة إلى بار البصل كي يكتشفوا أنفسهم من جديد.