“أَفْلَحَ إنْ صَدَق”..!
خاص “المدارنت”..
﴿وقفوهم إنهم مسؤولون﴾*، اخترت أن أفتتح الكلام بهذه الآية تحديدًا، لأبيّن أن كلَّ إنسان مسؤولٌ عن تصرّفاته وعن أعماله وعن أقواله وحتى عن نيته. ومعنى مسؤول ليس كما يفهمه الشعب اللبناني وزعماؤه. فهذه الكلمة على وزن “مفعول”. وهذا الوزن في اللغة يدلّ غالبًا على مَن وقع عليه الفعل، وهو يُشتَقّ من الفعل المتعدي – الذي يحتاج إلى مفعول به – كقولنا “مكتوب”، أيّ وقع عليه فعل الكتابة، ومثله “مقروء” و”مسموع”… وقِس على ذلك. ولا يُشتَقّ اسم المفعول من الفعل “جلس” أو “ضحك” أو “نام”… لأن هذه الأفعال لازمة – تكتفي بفاعلها لإتمام المعنى – وهذا كنت شرحته في مقالة قديمة. وقد أردت التذكير به من باب “فذكّر إن نفعت الذكرى”. ولأقول أنّ كل إنسان سيُسأل عن أعماله – أي سيقع عليه فعل السؤال – إن كانت حسنة فنتائجها له، وإن كانت سيئة فتبعاتها عليه.
ورد في الأثر الإسلامي: “كلّكم راعٍ وكلّ راعٍ مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها، والعبد راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته، فكلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته”. و”كلّكم” لفظة تعني الإحاطة والشمول – أي من دون استثناء – وهذا معناه أنّ كل إنسان في موقع المسؤولية – أيًّا كان – يحمل أمانة على عاتقه، ويجب أن يؤدّيها على أحسن وجه.
من هنا، لا يمكن أن ينهض أي مجتمع ويستقر من دون رأس أو حكومة. وجمهوريات لبنان – ولله الحمد – لا رأس فيها منذ زمن، وحكومتها لا فائدة منها – بصرف النظر عن الدور المناط بها في الحرب الدائرة بين “حزب الله” و”إسرائيل” – باعتبارها مستقيلة، فهي قبل أن تستقيل حكمًا، كانت عاجزة عن تحقيق مصالح الناس وتطلعاتهم.
وأصل المشكلة يكمن في أن من يتولّون المسؤولية في لبنان – في معظمهم – لا يهتمّون إلا بمصالحهم الشخصية، وأمورهم الخاصة ومراكزهم ومكاسبهم، أما مصالح الوطن والرعية فليست في حسبانهم. والدليل على ذلك تفتّت الدولة وانهيار مؤسّساتها… وما من أحد يستطيع أن يجادل في هذا، لأن الأمر ببساطة لو كانوا يحبّون وطنهم – كما يدّعون – ويخافون عليه لما كان وصل إلى ما وصل إليه. فالمنطق يقول أنا أحب شخصًا ما، أتنازل له عمّا أراه حقًّا لي، أو أحب مكانًا ما، أهتمّ به من الألف إلى الياء… وبما أن هذا لا يحصل، فمعناه أنا لا أبالي إلا بمصلحتي الشخصية، ولا أهتم إلا بما يعنيني، فالحقّ بَيِّنٌ والباطل بَيِّنٌ، وما دون ذلك غثاء كغثاء السيل.
لقد تردّدت كثيرًا في كتابة هذه المقالة، بسبب الحرب الدائرة في لبنان، والمصائب التي تعصف بنا، وهي من صنع مَن يعتبرون أنفسهم أوصياء على البلد وأهله ومَن يدّعون الدفاع عنه. ولكن تصرفاتهم العشوائية وقراراتهم الاعتباطية هي التي تدعو إلى عدم السكوت عن تجاوزاتهم واستخفافهم بعقول الناس، أقله الذين لا يؤيدونهم، ولا يؤيدون أفكارهم وأفكار أحزابهم وما هم عليه.
لا أشخصن الأمور، وليس لي سابق معرفة بالشخوص المعنيّين، ولكن ما يعنيني في الأمر أنّهم حين يصرّحون، يخرجون على الناس بكامل أناقتهم، ويتكلّمون بدافع الإنسانية وعنها وانطلاقًا منها في التعامل مع اللاجئين والنازحين والهاربين والمقيمين والسائلين والمحتاجين… ولو فعلوا ما فعلوه من دون تصريحات إعلامية انطلاقًا من الحس الإنساني الذي يدّعونه، لما كنت تفوّهت بحرف ولم أنبس ببنت شفة.
لقد أتحفنا أحد الوزراء – وزير الاقتصاد – منذ فترة ليست ببعيدة، بتصريحاته حول جولاته على سفراء الدول العربية والإقليمية، لحشد الدعم الإنساني للنازحين، وطلبِ المساعدات لتأمين الحاجات الضرورية لهم. والأدهى من هذا أنّه أوضح لإحدى الجرائد “أنّ الدور الذي يؤدّيه يعكس التزامه بدعم لبنان في زمن الأزمات”. وأكد “أهمية التواصل مع السفارات كوسيلة للحصول على دعم أكبر”، مشيرًا إلى أن “زياراته ساعدت في تسريع وصول المساعدات وتحديد نوعيتها وفقًا للاحتياجات الفعلية”.
وفي ما يتعلق بارتفاع الأسعار، أشار إلى “وجود تجّار أزمات مستغلين للأوضاع”، موضحًا أن “وزارته تعمل على رصد المخالفات، وضبط الأسعار عبر تقنيات حديثة، بالإضافة إلى إنشاء خلية أزمة لمتابعة الوضع التمويني”. وشدّد على “التزام وزارة الاقتصاد بحماية حقوق المواطنين، وعدم التهاون في مواجهة أي مخالفات تتعلق بتجار الأزمات”…
لله درّك أيها الوزير العظيم، رضي الله عنك وأرضاك. لقد جعلنا كلامك هذا ننسى القرار الرقم 42/ ح ش/ 2024 الذي يتعلق بتعديل القرار الرقم 40/ ح ش تاريخ 18/ 9/ 2024 القاضي بتحديد السعر للخبز اللبناني الأبيض ووزنه. وهو القرار الذي أصدرتَه بعد انتهاء كميات القمح المُعدّ للطحن والمدعوم من قرض البنك الدولي. والذي رفعتَ بموجبه سعر ربطة الخبز 850 غرامًا الحجم الوسط إلى 65,000 ليرة لبنانية في الفرن للمستهلك، وإلى 62,000 ليرة لبنانية من الفرن إلى الموزع، وإلى 70,000 ليرة من الموزع إلى المحال التجارية، وفي المحال التجارية إلى المستهلك إلى 77,000 ليرة لبنانية.
معالي الوزير – عليك السلام – بالله عليك، كيف استطعت جمع النقيضين؟! ألم يكن من الإنسانية تأجيل رفع ربطة سعر الخبز – الخبز تحديدًا – إلى ما بعد الحرب؟ ثمّ، كيف تسعى من أجل مساعدة الناس من جهة، بدافع الإنسانية، وتتخذ قرارًا في الحرب برفع سعر الخبز، من جهة ثانية؟ فهل تتجزّأ الإنسانية في عُرفِك؟!
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقرارات الوزراء العظيمة كثيرة، والمؤكد أنّنا لن نستطيع ذكرها كلها لأنها تحتاج إلى مجلّدات، لكننا سنقف عند قرار وزير التربية الذي أصرّ على بدء العام الدراسي في 4/ 11/ 2024، لجميع الطلاب في لبنان بحجة عدم تضييع السنة الدراسية، وطفق يطلب المساعدات المالية من الدول لإطلاق العام الدراسي، حضوريًّا للقادرين في المناطق البعيدة من الصراع، وعبر النت لغير القادرين.
معالي الوزير، هل تضمن ألّا تُستَهدَف الطرقات أو سيارات أشخاص مستهدفين وهم يتجوّلون بين الناس؟ ثمّ يا معالي الوزير، كم ولي أمرٍ يستطيع أن يؤمّن لكل ولد من أولاده لابتوب أو جهازًا للدراسة من بُعدٍ إذا كان عنده أكثر من ولدين في هذه الأوضاع؟ ولنفرض أنّه أمّن الأجهزة، فأيّ شبكة إنترنت في لبنان تساعد الطلاب، وهي في الأيام العادية غير صالحة للاتصال بين غرفتين في البيت الواحد؟ وإذا تجاوزنا هذه الأمور كلّها، فمن من الطلاب يستطيع التركيز على الدرس، وطائرات الاستطلاع التي تحلق في سماء لبنان على علوٍّ منخفض، توتّر أعصابه وتشغل باله وتمنع دماغه من التركيز. والطائرات الحربية التي تخرق جدار الصوت، تسبّب له تبوّلًا لاإراديًّا وتشلّ أطرافه وتمنعها من الحركة؟…
والطامة الكبرى تكمن في وزارة الصحة، حيث تبيّن أن كل ما نراه في شاشات التلفزة من مؤتمرات ومقابلات وجولات لتأمين الأدوية والعلاج… ليس أكثر من عراضات دعائية وبروباغندا إعلامية.
في معظم مستشفيات العالم العربي الإسلامي، مكتوب على واجهاتها الآية الكريمة ﴿وإذا مرضت فهو يشفين﴾ تفاؤلًا.
أمّا في لبنان فقد تكون الآية الكريمة ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ مناسبة جدًّا لتُكتَب فوق مدخل وزارة الصحة، بسبب ما يحصل في أروقتها ودهاليزها. لا أتكلّم عبثًا ولا من فراغ، بل أتكلم عن أمر شخصيّ جدًّا. والمعاناة كبيرة للحصول على دواء لمرض مستعصٍ. والأرقام الساخنة التي وضعتها الوزارة للتواصل معها تكاد تتجمّد من برودة عدم الردّ.
لن أغوص في التفاصيل، فهي لا تهمّ القارئ في شيء، ولكن ما أقوله يعرفه معظم اللبنانيين، فما بين فلان وعلان والسؤال هنا وهناك… “الطاسة ضايعة”.
بناء على ما أوردناه، يصبح طرح السؤال الآتي مشروعًا، هل تلوح في الأفق استفادة شخصية من الأموال المطلوبة للمساعدة، كما هي الحال في لبنان دائمًا؟
قد يجيبنا المعني بأن كل ما يفعله بدافع الإنسانية. وهنا نقول: “أفلحَ إنْ صَدَق”.
إنّ كلّ الذين يستفيدون من أزمات الناس – وهذا ليس غريبًا ولا جديدًا، خصوصًا في لبنان – يحق عليهم القول:
ولكم ضمائرُ لو أردْتُ شراءَها/ لملَكَتْ أغلاها برُبْعِ ريال
* سورة الصافات، الآية 24.