“المدارنت”..
تواجه الدول والمجتمعات نمطاً جديداً من الأزمات والمخاطر الدولية، يمكن أن نطلق عليه «الأزمات المركّبةPoly crises»، وهو المفهوم الذي يُنسب إلى المؤرخ الأمريكي آدم توز Adam Tooze، في مقالته المنشورة في صحيفة «فايننشال تايمز» المعنونة بـ«مرحباً إلى عالم الأزمات المركبة Welcome to the world of the Poly crises»، والمنشور في 28 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2022.
قد تكون الأزمات التي تواجهها الدول والمجتمعات متباينة، لكنها تتفاعل فيما بينها بحيث يزيد أثرها المجمّع على مجموع تأثير كل منها منفردة، وإذا أردت أن تجد بلداً أو مجتمعاً يواجه أزمة مركبة نموذجية، فذاك هو لبنان، وما يجعل الأزمات التي تختبرها بلاد الأَرز منذ سنوات محيرة للغاية هو أنه لم يعد من المعقول أن نُرجعها إلى سبب واحد، أو نوجد لها، بالتالي، حلاً واحـداً.
يواجه لبنان حالياً أزمة مركّبة ومتعددة الأبعاد تهدد استقراره ونظام الحكم فيه، فالبلد يفتقر إلى رئيس منذ أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2022، وتديره حكومة تصريف أعمال منذ مايو/ أيار 2022، وذلك ما أدى إلى فراغ مزدوج في سلطته التنفيذية، ويعوق هذا الفراغ القيادي بدرجة كبيرة قدرة لبنان على معالجة فاعلة للتحديات العديدة الماثلة أمامه، ولاسيما أزمتا اللاجئين والطاقة المتفاقمتين.
ما يفاقم الأزمة السياسية في لبنان هو التأجيل المتكرر للانتخابات المحلية، حيث تأجلت للمرة الثالثة إلى الآن، وهذا التأجيل يضعف الديمقراطية والإدارة على المستوى المحلي، ويحرم المواطنين من القدرة على اختيار ممثلين محليين جدد، وهو ما قد يؤدي إلى نقص المساءلة على مستوى البلديات.
وتواصل أزمة اللاجئين استنزاف موارد بلاد الأرز، وإنهاك نسيجه الاجتماعي، حيث يستضيف لبنان نحو 1.5 مليون لاجئ سوري، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الضغط على الخدمات العامة، والمنافسة على الوظائف، وتصاعد التوترات بين كل من المجتمعات المضيفة واللاجئين.
وما يؤجج هذه القضايا وغيرها التوترات الطائفية المستمرة والمتجذرة في النظام السياسي في لبنان. حيث غالباً ما يؤدي هذا الترتيب لتقاسم السلطة بين 18 مجموعة دينية معترف بها رسمياً إلى حالة من الجمود السياسي، ويعرقل إرساء هوية وطنية موحدة.
على المستوى الاقتصادي، يعاني لبنان أزمة اقتصادية خانقة ومتفاقمة، كانت أقسى تجلياتها انقطاع الكهرباء عن عموم البلاد، بما فيها المطار والميناء والسجون، والواقع أن لبنان يعاني أزمة طاقة حادة ومطولة، تتمثل في الانقطاع المتكرر في التيار الكهربائي على مدار العقود الثلاثة الماضية، لكن هذه الحالة تفاقمت بدرجة كبيرة منذ عام 2020، حيث يواجه السكان الآن انقطاعاً تاماً في الكهرباء.
تعود أزمة الكهرباء في لبنان إلى عدة عوامل، منها: مزود الكهرباء الحكومي المعطل والفاسد (كهرباء لبنان)، إلى جانب بنية تحتية متهالكة وخسائر مالية كبيرة، وهو ما يؤدي إلى نقص في الاستثمار في البنية التحتية للشبكة والصيانة، وغياب سياسة وطنية شاملة للطاقة وإطار تنظيمي فعال، والاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري المستورد لتوليد الكهرباء، وذلك ما يجعل البلد عرضة لتقلبات الأسعار والانقطاعات في الإمدادات، وغياب آلية تمويل مستدامة لمشاريع الطاقة المتجددة على نطاق واسع، والأزمة الاقتصادية المدمرة، والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية جرّاء انفجار مرفأ بيروت عام 2020.
يحصل معظم سكان لبنان على بضع ساعات فقط من الكهرباء الحكومية يومياً، وذلك ما يضطرهم إلى الاعتماد على مولدات الديزل الخاصة المكلفة والملوِّثة، وقد أدى ذلك إلى نشوء «مافيا المولدات» التي تسيطر على القطاع، وهو ما يؤدي إلى التسعير التعسفي وزيادة الانبعاثات السامة، وتؤثر الأزمة بدرجة غير المتناسبة في الأسر الأفقر، التي غالباً ما تعجز عن تحمل تكاليف شراء المولدات.
في ظل هذه الظروف، شهد تركيب أنظمة الطاقة الشمسية زيادة كبيرة في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية، وهو ما أُطلق عليه «ثورة الطاقة الشمسية»، فقد زاد عدد شركات تكنولوجيا الطاقة الشمسية من 26 في عام 2001 إلى أكثر من 200 بحلول عام 2019، بيد أن هذا التحول يعتمد على جهود فردية أساساً، وليس على عملية انتقال وطني منسق.
تشمل التطورات الأخيرة إقرار قانون الطاقة المتجددة اللامركزية في ديسمبر/ كانون الأول 2023، الذي يسمح بتجارة الطاقة المتجددة بين الأفراد، وإذا كان هذا يمكن أن يسهم في إضفاء الطابع الديمقراطي على إنتاج الطاقة، غير أنه يهدد أيضاً بتفاقم الفوارق القائمة، حيث تكون المناطق الريفية والأفراد الأكثر ثراءً أكثر قدرة على الاستفادة من نشر الطاقة الشمسية اللامركزية.
وتتفاوت تداعيات هذه التطورات، فبينما يَعِدُ التحول إلى الطاقة الشمسية بالتخفيف نسبياً من حدة الأزمة، غير أنه يظل حلاً غير متوازن وجزئياً أساساً لمشكلة تشمل النظام ككل، وهو ما قد يزيد من عمق الفجوات الاجتماعية والاقتصادية دون معالجة القضايا الأساسية في قطاع الطاقة في لبنان.
كما كانت التطورات الأخيرة على صعيد مواجهة الأزمة السياسية المركّبة محدودة، ولم يُحرز تقدم كبير على صعيد إنهاء الفراغ في السلطة التنفيذية أو معالجة أزمة اللاجئين، وما يزيد من تفاقم تلك الأزمات استمرار تأجيل الانتخابات المحلية وتجذُّر الانقسامات الطائفية.
تُعَد تداعيات هذه القضايا المستمرة خطيرة على حاضر لبنان ومستقبله، حيث يؤدي غياب الإدارة الفعالة على المستويين الوطني والمحلي إلى حرمان لبنان من القدرة على التصدي للتحديات الاقتصادية والاجتماعية الماثلة أمامه، وتزيد أزمة اللاجئين والتوترات الطائفية من التهديد بزعزعة الاستقرار في البلد، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار الإقليمي برمّته.