الأمم المتحدة وقواعد اللعبة الجديدة..!
“المدارنت”..
«هذا الشيء…» منذ أن أطلق الجنرال ديغول هذه العبارة على منظمة الأمم المتحدة، باتت المقولة معروفة لدى أجيال من الفرنسيين، كما اكتسبت صدى دوليا في الوقت نفسه ما جعلها تطفو على السطح دوريا في مراكز البحث وفي الأوساط الصحافية وببساطة على الألسن كلما أثير موضوع الملف الأممي.
عندما سأل الصحافي السويسري داريوس روشبان، المعروف بجرأة أسئلته، رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دو فيلبان، ما إذا كانت المنظمة مجرد «شيء»، كان من السهل على فيلبان – وروشبان يعلم ذلك – أن يذكّر بوزن خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2003 وهو يشرح الموقف الفرنسي الرافض لتدخل عسكري جديد في العراق.
نعم.. كان لذلك الخطاب وقع وأثر بالغان على المجتمع الدولي وعلى الرأي العام العربي خاصة. لكن أسهل أن تأتي إلى منبر الجمعية العامة لتشرح أسباب قرار قوة عظمى تمثلها وتديرها، من أن تمسك بذراع قيادات تنفذ أجندتها الخاصة، لا في مصلحة وطنها خلافا لما تدعي، بل في مصلحة…مصالحها.
سنشهد ملفات ظلت معلقة منذ أزمنة غابرة
وقد دخلنا عهدًا تزن فيه موازين الأمم
ثقلا غير ثقلها بموازين الماضي
بدأت أصوات تتعالى للدعوة إلى زيادة عدد الدول الأعضاء الدائمين في مجلس أمن الأمم المتحدة، والفكرة الأساسية هنا أن تكون افريقيا ممثلة.. ولكن طال أمد الانتظار، إذ ليس المطروح مجرد أن تكون افريقيا ممثلة كما ورد بهذه الصيغة الخجولة الداعية إلى «تعيين» الدول الافريقية أحد أعضائها «للترشح». صحيح، هذه بداية، لكن من غير المنطقي أن يظل الموضوع عالقا منذ عام 1945، تاريخ نشأة المنظمة! إلا أن الأكثر إثارة للدهشة عشر سنوات بعد نشأة المنظمة، سنة 1955، أن يغيب عن مؤتمر مثل مؤتمر بان دونغ، صوت دول عدم الانحياز وباكورة الهوية الدولية للدول النامية، ترشيح عضوية أحد أعضائها لمجلس الأمن.
أكثر من أي وقت مضى، تمثل الظرفية الدولية فرصة ذهبية لتحقيق إصلاح عادل للمنظمة الأممية. خلال العقدين الأخيرين، فرض صوت الجنوب نفسه، فبتنا نتداول مصطلح «الجنوب العالمي» (Global South)ولا بد هنا من التذكير بأن المصطلح يعود إلى الثمانينيات، حين عرف هذا الواقع الجيوسياسي فترة مخاض ظلت مرتكزة على مفارقة أن تكون معدلات نموها قياسية، مقابل مؤشرات تنمية بشرية ضعيفة للغاية. لكن الأزمنة تغيرت. وحذار لغرب يتوقع أن تهيمن شبكة قراءته للواقع الجيوسياسي، من دون أن يتسع المجال، المجال نفسه لقراءة مختلفة، وربما مناقضة، كالقراءة الروسية أو الصينية، أو قراءة دول مجموعة البريكس، وأيضا الدول العربية. ليس فقط المشهد الجيوسياسي هو الذي تغير، بل تغيرت معه الأوراق والمفاتيح وبكل ضرورة ستتغير الحلول.
هل يتحدث الغرب مثلا عن خطط ومشاريع سياسية ينفذها نتنياهو لخير بلاده؟ لا أبدا! بكل بساطة لأنها غير موجودة، لكن يفضل ألا يقولها. هل يتحدث الغرب عن خطط ومشاريع سياسية يتم تنفيذها لصالح أوكرانيا؟ أكثر ما نشهده أنه كلما يتناول الغرب ملف انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي يعجز عن تحقيق إجماع في الموضوع. هل استمر الغرب في الإبقاء على شعرة معاوية بينه وبين إيران في بلورة اتفاقية فينا؟ كلا.. فقد ضربها ترامب عرض الحائط، وفرنسا التي طمحت إلى استعادة زمام قيادة الملف بقيت على صمتها الخجول منذ ذلك الحين أو بالكاد..
سنشهد عاجلاً أم آجلا ملفات حاسمة ظلت معلقة منذ أزمنة غابرة تتغير مقاربتها بمفعول الأزمنة الراهنة، فقد دخلنا عهدا تزن فيه موازين الأمم ثقلا غير ثقلها بموازين الماضي. هنا، توفر الخريطة الجيوسياسية الجديدة فرصة لا تعوض لتوليد آليات إصلاح جديدة تفرض مزيدا من العدالة في المقاربات الأساسية للسياستين الدولية والإقليمية التي لا تنفصلان، ما يحتم أن تؤدي إعادة رسم خريطة التوازنات إلى مراجعة قواعد اللعبة الجديدة التي لا تقبل الاصطفاف، ألا وهي قواعد القوة الناعمة.