“الأوليغارشية” وحكم الأقلية!

خاص “المدارنت”..
” القدر كان طيّباً معي.. لم أكُن مجنوناً ولا أعمى.. سوى أني ما زلت أُريد رؤية الرغيف بسعرٍ أقلّ.. وحياة البشر بسعر أغلى”…
رسول حمزاتوف
… “إن الفراعنة والأباطرة تألهوا؛ لأنهم وجدوا جماهير تخدمهم بلا وعي.. وبلا أدراك”! إن الفساد يطول عمره كلما أنسحب الشرفاء من الميادين وآثروا السلامة.. وسياسة الاختباء.. وتخاذلوا.. حيث إن انعدام السلطة يحدث الفساد، وانعدامها بدرجة مطلقة يحدث الفساد المطلق.. في مقدمته الشهيرة يصف أبن خلدون قبل مئات السنين انهيار المجتمعات، والأمم والدول قائلاً:
“عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف.. وتظهر العجائب وتعم الإشاعة.. ويتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق.. ويعلو صوت الباطل.. ويخفق صوت الحق.. وتظهر على السطح وجوه مريبة.. وتختفي وجوه مؤنسة.. وتشح الأحلام ويموت الأمل.. وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه.. ويصبح الانتماء الى القبيلة أشد التصاقا.. والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان…
يضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء.. والمزايدات على الانتماء.. ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين.. ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة.. وتسري الشائعات عن هروب كبير.. وتحاك الدسائس والمؤامرات.. وتكثر النصائح من القاصي والداني.. وتطرح المبادرات من القريب والبعيد.. ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته.. ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار.. ويتحول الوضع الى مشروعات مهاجرين.. ويتحول الوطن الى محطة سفر.. والمراتع التي نعيش فيها الى حقائب.. والبيوت الى ذكريات والذكريات الى حكايات”.
في بلاد الأرز، سقط لبنان في الضربة الأوليغارشية القاضية على حلبة “الثالوث” المالي العالمي في مصادرة ثروات الشعوب وتحويل بلاد تلك الشعوب إلى خردة معروضة في أسواق الجملة والمفرق.. ثالوث، أو صندوق النقد الدولي.. والبنك الدولي.. ومنظمة التجارة العالمية.. التي ليست سوى أذرع دولة وحكومة “أوليغارشية” رأس المال المالي العميقة الحاكمة والمتحكمة في ثروات هذا العالم ومستقبله.. أوليغارشيا رأس المال المالي التي تسعى دائماً للسيطرة على ثروات هذا العالم دون استثناء..
سقط لبنان على يد أوليغارشيا سلطة الأمر الواقع السياسية مع سبق الإصرار والترصد.. سقط في خزائن أوليغارشيا سلطة المال السياسي ومصارفها وجمعياتها وشركاتها ومؤسساتها.. وأن وأخواتها وشركائها وما ملكت أيمانها.. سقط بالفكر الكاذب.. والشعارات الكاذبة.. أوليغارشيا الحراك الكاذب والكرنفال الكاذب والثورة الكاذبة.. ولون الدم يزور حتي بالتأبين رمادياً.. سقط مضرجاً بجوعه ووجعه على اقدام أوليغارشيا الجوع والتجويع في أسواق المخازن الغذائية ومشتقاتها.. سقط مضرجاً بدمائه على أبواب طوارئ أوليغارشيا ما يسمى مستشفيات.. سقط أمام أوليغارشيا رغيف الخبز وحليب الأطفال وحبة الدواء.. سقط في طوابير أوليغارشيا ذُل تنكة المازوت وتنكة البنزين وقارورة الغاز والغازات.. سقط أمام جشع جمهورية المولدات.. سقط قتيلاً.. بالجرم المشهود… سقط قتيلاً هنا.. يعني بالضبط هنا!
عالم تديره الشركات العالمية الكبرى.. عالم تتحول فيه الدولة الوطنية اي دولة كانت بما فيها أمريكا الى بواب العمارة.. فيما تتحول بعض الدول والحكومات والشعوب الى حراس للمقابر أو المزابل أو مستودعات المواد الأولية ومستوعبات الخردة.. فيما تتحول بعض الجغرافيا الملعونة والغبية مجرد متاريس للموت والحروب.. وشعوبها مجرد وقود وضحايا وجثث تلك الحروب.. زمن الامبريالية، أو “الشركات العليا” في أعلى مراحلها الاستعمارية.. أخطبوط الأوليغارشية الممتدة في كل بلاد الأرض بالتوكيل والوكالة.. وتغولها في كل شيء.. وعلى كل شيء.. من الدماء.. والهواء.. والماء.. والتراب.. وحبة القمح كذلك!
في كتابه الأشهر على الإطلاق “الجمهورية”.. عرّف تلميذ سقراط وابنه الروحي أفلاطون “الأوليغارشية” من جذورها “الأرستقراطية” التي تنتهي بالثورة.. الثورة التي تُنتج الحكم الديموقراطي على أنقاض دولة “القلة” الأوليغارشية المتوحشة في حقيقة منظومتها “النخبوية” العميقة. كما أورد أفلاطون في كتابه “الجمهورية” أن الحكم يكون أرستقراطياً، حيث يكون هناك دستور تحكم بموجبه طبقة حاكمة، ونتيجة الاستئثار بالحكم لفترات طويلة.. يخترق الفساد هذا النظام كنتيجة طبيعية لعدم الالتزام بالأحكام والقوانين الدستورية. كما يمكن تلخيص الأوليغارشية عند أفلاطون بأنها ابنة القلة في المجتمع التي خرجت من رحم النظام الأرستقراطي وقررت التوجه نحو “سرقة” أموال الشعوب، وتحقيق الثروات على حساب تلك الشعوب.. وفي كتابه (السياسة) قسم أفلاطون أنظمة الحكم إلى قسمين؛ قسم داخل حدود القانون، وقسم خارج القانون، حيث يدرج الأوليغارشية ضمن القسم الثاني.. القسم الخارج عن القانون.
يتفق معظم الفلاسفة والمفكرين والنخب ومراكز البحوث والدراسات في العالم تاريخياً إن الأوليغاركية Oligarchy أو الأوليغارشية، مشتقّة من اليونانية، وهي سلطة الأقليّة، بحيث يكون النفوذ محصوراً بفئة صغيرة تستند إلى عصبوية عائلية أو طبقية أو سياسية أو عسكرية. إنها مجموعة قليلة من الناس تحكم دولة أو منظمة أو حزباً أو شركة. وقد عُرِّفَتْ الأوليغارشية أيضاً بأنَّها: «النظام السياسي الذي يمارس السلطة من قِبل مجموعة صغيرة من الأفراد، مؤلّفة من النخبة المثقّفة (الأرستقراطية) أو الأقليَّة المالكة (النخبة الثرية)، أو زمرة عسكرية أو ميليشيوية، ويتم الخلط بينهم في كثير من الأحيان لتشكل الطبقة الحاكمة».
يعتبر أفلاطون أوَّل مفكِّر سياسي ذكر الأوليغارشية التي تعني حكم القلّة، وذلك في كتابه «الجمهورية» كما جاء أعلاه. وجاء أرسطو من بعده، ليعتبر أنَّ الأوليغاركية مسخ غير شرعي من رحم الأرستقراطية، وتنتهي دائماً بحكم الطغيان والاستئثار بالسلطة. كما أعتقد الفيلسوف اليوناني أرسطو إن هناك أربعة أشكال رئيسية للأوليغارشية، هي:
1 . الأوليغارشية المختلطة، أقرب أنواع الأوليغارشية للديمقراطية، منفتحة على الطبقات الأخرى لتشاركها في السلطة، وتحكم باسم القانون.
2 . الأوليغارشية السياسية، المستمدة قوتها وشرعيتها من الأسر والعائلات الغنية، وهي أكثر مدنية من الأوليغارشيات السابقة، حيث يزداد طموح الأسر الغنية في الوصول إلى السلطة، وتفترض حقها في أن تشغل الوظائف الحكومية العليا.
3 . أوليغارشية السلالات المتعددة، حيث يمارس السلطة عدد قليل من العائلات الحاكمة والتي تمارس “حقها” في إدارة جميع وظائف الدولة، حيث تنتقل هذه الوظائف من الأب إلى الابن، ولا تتركز السلطة في يد سلالة واحدة، وهذا هو القانون الذي يضمن الميراث من الامتيازات التي يحصل عليها الحاكم.
4 . الأوليغارشية السلالية، أكثر أنواع الأوليغارشية تطرفاً وتغولاً، وهي مجموعة أقلية في القلة التي تستحوذ على الحكم، لأنها تملك الثروات ورأس المال المالي.. رأس المال السياسي.. ولا تستند في حكمها إلى القانون.
اعتقد الفيلسوف والمؤرخ الروماني بوليب بوجود قانون سياسي تاريخي لنمو الدول وتطورها، وأطلق عليه قانون دورات الحكم؛ استنبطه من رأيه الذي يقول بأن “الحكومات الصّالحة ذات اللون الواحد. إذا استمرت في الحكم فترة طويلة ستصبح فاسدة”. ويلخّص مكيافيللي المصطلح الألوليغارشي في كتابه «المطارحات»، بأنّ الأرستقراطية إذا فسدت تحوّلت إلى الأوليغارشية. ويُستخدم هذا التعبير في العصر الحديث، لوصف الحكومات التي ليس لها رصيد جماهيري، بحيث تعتمد على دوائر التأثير في السلطة، مثل رجال المال والعسكر والعائلات. والتي تتشكّل قيادتها من فئة صغيرة تحتكر أدوات النفوذ، وتحصرها في شلّة متماسكة تتحكم بالقرار المالي والسياسي لكي تحافظ على وجودها الدائم وديمومتها المستمرة.
تُعرّف ويكبيديا في أيامنا هذه الأوليغارشية باللغة الإنكليزية باسم (Oligarchy)، والتي تعود جذورها إلى الكلمة اليونانية (oligarchie)، وهي كلمتين الأولى (oligos) وتعني القلة، والثانية (Arkhe) وتعني القيادة. وعرًف القاموس السياسي الفرنسي الأوليغارشية على أنها: “النظام السياسي الذي تكون فيه القوة ومعظم القوى في أيدي عدد قليل من الأفراد، وبعض العائلات. وعادة ما تكون في بعض الطبقات الاجتماعية أو الطائفية، وقد يكون مصدر قوتهم الثروة، والتقاليد، والقوة العسكرية، والقسوة.. إلخ”. كما جاء في موسوعة لاروس الفرنسية الأوليغارشية على أنها: “النظام السياسي في السلطة التي ينتمي إلى عدد قليل من الأفراد تشكل إما النخبة المثقفة (الأرستقراطية) أو الأقلية المالكة (النخبة الثرية)، وكلاهما يتم الخلط بينهما في كثير من الأحيان”. كما عرّف القاموس البريطاني الأوليغارشية بأنها: “شكل من أشكال الحكم التي تناط من خلاله جميع السلطات في عدد قليل من الأشخاص أو في الطبقة المسيطرة أو في زمرة معينة تتمتع بعلاقات غامضة غير معروفة”.
في حين وصف معجم أكسفورد البريطاني الأوليغارشية بأنها: “مجموعة قليلة من الناس تحكم دول ومنظمات وشركات عالمية كبرى”. كما عُرّفت الأوليغارشية وفق قاموس Merriam بأنها: “الحكومة التي تتألف من مجموعة صغيرة تحكم الناس لأغراض فاسدة وأنانية وسلطوية.. بالإشارة إلى “المافيا” الغير تقليدية في مفهوم السلطة المافياوية السلطوية الحديثة”. وتناولت الموسوعة السياسية العربية الأوليغارشية؛ تحت مسمى الأوليغارشية المالية، بأنها: “فئة اجتماعية تضم كبار المصرفيين والصناعين الذين يسيطرون على اقتصاد وسياسة البلدان المعاصرة، حيث يندمج رأس المال المصرفي برأس المال الصناعي مكوناً رأس المال المالي فيتركز القسم الأكبر من الثروة بأيدي قلة قليلة”.. فعلى سبيل المثال وفق ما أوردت الموسوعة كانت الولايات المتحدة الأمريكية فيها أوليغارشية مالية قبيل الحرب العالمية الثانية، لكن بعد الحرب أصبحت هذه الأوليغارشية متجسدة في الشركات متعددة الجنسيات.. الشركات التي تحولت بدورها في عصر الذكاء الاصطناعي وعالمه الافتراضي إلى إمبراطوريات وممالك ودول تسيطر على كل ما هب ودب على سطح الكوكب البنفسجي الباهت.. كل ما هب ودب على أرضه المريضة.. أرضه المريضة الهشة!
في أحدى أهم فصول مسرحيته الشهيرة (حالة حصار)؛ كتب ألبير كامو: “كنا شعباً.. فأصبحنا حشداً.. كنا نُدْعَى مجاملةً للضيافة.. فأصبحنا نُسْتدعَى سحباً للتحقيق.. كنا نتبادل الخبز واللبن.. واليوم أصبح يُخصص لنا تموين بالبطاقات.. إننا نُدبدب بالأقدام.. ونقول أن أحداً لن يستطيع عمل شيء لأحد وإنه لابد من الانتظار في مكاننا في الصف الذي حُدد لنا.. إيه أيها الألم.. إننا لا ندوس إلا أنفسنا بالأقدام.. وإننا نختنق في هذه المدينة المقفلة.. أه لو هبت الريح”. أأأأأأأأه لو هبت الريح الحقيقية.. ريح التغيير.. والثورة.. الثورة الحقيقية!