الإنسان خلية الإنسانية الأولى.. (الجزء 1)

خاص “المدارنت”..
يتوق الإنسان الفرد، دائما، إلى الحرية والعمل، بعيدا عن اجواء القسر والقهر والتهديد، كما أنه، يحرص وباستمرار على حفظ كرامته، إضافة إلى أنه يحب العمل الصادر عن ذاته، برغبة وشوق، فيحبّذه ويدفعه إلى الخلق والابداع. لذلك نتوجه إلى ضرورة التركيز على هذه المفاهيم، ثم الأخذ والاهتمام بالوسائل الكفيلة بإطلاق عجلة الطاقات الفردية الكامنة، وذلك عن طريق خلق الأجواء الملائمة التي تعزز النشاط والرغبة في العمل، ضمن مناخ من الثقة والمبادرة والتعاون والاحترام المتبادل. والعلاقات المحببة والمستحبة، إنما تمثل إثارة دوافع العاملين الفاعلين والمنتظمين داخل أي مؤسسة كانت، من أجل تحقيق أعلى كفاية واعلى فاعلية في الأداء العملي، والتي تنسحب تلك الجودة على كافة عناصر المؤسسة المكونة لها، مهما كانت مناصبهم ومسؤولياتهم. حيث يُيستنتج أن كفاية الأداء وجودتها إنما ترتبط بنوعية العلاقات السائدة، بين أفراد تلك المؤسسة نفسها.
إذن الإنسانية وعوامل تفاعلها هي الأساس الجوهري التي تقوم عليه المنظومة السوية للافراد الذين هم بشر (من لحم ودم). أي كتلة من الأحاسيس والمشاعر، وليسوا تروسا تحركهم بعض من قوى تلك المنظومة، داخليا أو خارجيا، وهكذا تتمثل الأفراد بما يملكونه من عواطف واحاسيس، ومن قيم و ميول واحتياجات. فالانسانية من أهم عوامل ركائز المؤسسة أو المنظومة، وايضا، من أهم السّمات المميزة لشخصية القائد القدوة، بخاصة، بما يتعلق بعملية البناء والتكوين الفردي، انطلاقا من مؤسسة الأسرة ثم تليها منظومة التربية والتعليم، كمحور جوهري في صلاح وإصلاح الجميع: فردًا، أسرة، مدرسة، وطنًا وأمة..
إذا تأملنا جيدًا، الماضي البعيد، لوجدنا علوما كثيرة، من ضمنها علم إداري منظم ومتسق، يتميز بقواعده واصوله، ويقوم على أسس من الإنسانية، في التربية والتوجيه، إنه علم الإدارة في التشريع الإسلامي، الذي استسقى مبادئه وأصوله من النصوص القرآنية، ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، فقد نظم الأمور الدينية والدنيوية، ولم يترك صغيرة أو كبيرة إلا احصاها، ونظمها أروع تنظيم، أضف إلى ذلك، فقد وجه الإنسانية إلى وجوب اتباع القيم المثلى، قولا وعملا، مع التأكيد على ضرورة التخلق بالخلق الحسن، ثم الأخذ والاهتمام بالعمل المنظم والمتقن، وايضا، هذه السنة الشريفة تبين مدى الأخذ بالأحكام الدالة على الاهتمام بشؤون الرعية وإحقاق الحق والإنصاف ونصرة المظلوم
والتي تطال كل فرد منها دون تميز أو تمايز. لقوله (ص): “كلكم راع.. وكلكم مسؤول عن الرعية..”. وهكذا فإن المنظومة المؤسساتية في الاسلام، إنما تقوم على أسس ومبادئ سامية، استمدت قوتها وشرعيتها من الكتاب والسنة النبوية.
لم تكن الإنسانية وعلائقها البشرية، مجرد وسيلة تتباهى بها، إنما هي الهدف بحد ذاتها، من أجل بناء هيكل راسخ اجتماعي متعاون، فعال، من حيث أن الإنسانية تعزز الثقة بالنفس، وتخلق نوعا من الاتزان النفسي، وتقوي المستوى القيمي الاخلاقي، كما وأنها تعتبر من الأدوات الرئيسة للمراقبة والتوجيه، انطلاقا من اعتماد تطبيقها على طبيعة السلوك العام، داخل وخارج المؤسسة (المنظومة)، مما يحقق التفاهم والشعور بالانتماء إلى تلك المؤسسة التي تسهم، وإلى حدّ كبير، في إعادة توجيه السلوك الفردي والجماعي على أسس من الدوافع والأنماط القيادية الفاضلة.
هذا الأمر يلزم أولا.. ضرورة انطلاق تحقق الإنسانية من واقع حقيقي محسوس، لأن التحقق إنما يستند إلى الحياة كما هي واقع ملموس، إذ لا يمكن استنادها على رؤى مثالية ملتصقة دوما بوجود اناس طيبون. صحيح أن في العالم الواقعي، جمال، متعة، طيبة، إلا أن فيه ايضا، قباحة، حقارة، وتعاسة. وعليه، فإن واقع حال المسؤول، في أي مؤسسة، يعمل مع الواقع كما هو، ثم يتوجه به بإضافات وتغيرات نحو الأفضل.
ولما كان الإنسان، يمثل الخلية الأولى للوجود الانساني والاجتماعي، فالمؤسسة هي التي تمثل وتشكل الإطار العام الذي يتفاعل داخله الأفراد والجماعات، ومن هذا الداخل ينطلق قطار علاقاتهم ثم تتحد جهودهم وتتكامل، ومن خلال ذلك، يتوجهون لإشباع دوافعهم وحاجاتهم، حيث تظهر سلوكياتهم وتصرفاتهم، والمهم البارز لذلك الإطار، هو تشكل ما يتم العمل به من أهداف ووسائل ومناهج. وكل ما ينتج عن ذلك، ينعكس ضرورة على حال المجتمع، سلبا أو إيجابا، انطلاقا من مفهوم أن كل مؤسسة هي في الواقع ،مؤسسة اجتماعية إنسانية، تقود المجتمع إلى حالة تغييرية نحو ما هو افضل، وهذا من أبرز أهداف المؤسسات وغاياتها.
يمثل الإنسان، في التصور الإسلامي، قمة الكائنات الحية، افضلها، اكرمها، لما أودعه الله الخالق فيه من مزايا وصفات تميز بها. دل التكريم الإلهي على ما يريده الإسلام لهذا المخلوق، فقد حثه على تدبر النصوص وتقنين القوانين، حتى يعيش ، ذلك الانسان، حياة استمتاع واطمئنان، وسمو إنسانيته فوق مستوى الاحتكاك والصراع والشك. فالمؤمن الحق هو المحسن، والمحسن هو صاحب الضمير والوجدان، أي صاحب الإنسانية بفطرته وسلوكه وتصرفاته وصدقه مع نفسه ثم مع الاخرين. لقوله تعالى: “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة..”، النساء/1.
تأملوا جيدا، كيف أن الله سبحانه وتعالى قد أوجد الإنسانية من نفس واحدة ومنها أنشأ الأزواج كلها، ثم نشرها في الوجود ، رجلا ونساء، وهذا الإنشاء إنما يُعتبر اسمى درجات التشريع الإسلامي لعمارة الارض والاكوان والاستمرار إلى أن يشاء الله. أضف إلى ذلك، إنه تعالى قد الزم الإنسانية بحمل المودة والرحمة والتراحم بين الأزواج، وهذا يعني أن مؤسسة الأسرة جوهر تحقق الإنسانية، كركيزة أساسية للانطلاق إلى ما يليها من مؤسسات. وهذا ما نص عليه القرآن الكريم: “ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”. الروم/21 انظر -الانعام/98.