تربية وثقافة

التعقّل.. رغبة فطرية وأداة تعبير

الحاج عمر

//خاص المدارنت//.. كتب أديب الحاج عمر/ لبنان

 .. الإنسان ذلك المخلوق ـ المجهول المعلوم، يسعى منذ نشأته، وما يزال يسعى الى الارتقاء نحو ما يراه كمالاً وسعادة، مستندا على ما يملكه من قدرات عقلية وعوامل مساعدة، ترتكز في التحليل والتركيب على مُسَلّمات من مقدمات ونتائج، متقدّما بثبات الخطى، مع تسديد وتصحيح، جرّاء تشوّقه الى إدراك الحقيقة الوجودية، التي من خلالها يكون قد عرف حقيقة ذاته، ومنها يرتقي قمّة كماله وسعادته.

لا شك، في أن بذور عملية التعقّل والتفكير البشري بداية، انطلقت من فطرية المحسوس الذي يقدم أحكاما على انها حقائق، ولكن الاختبارات والتجارب تكشف عن ضلالها، فيعاود العقل الى تسديد وتصويب تلك الاحكام، في التحليل والاستقصاء، محاولا إزالة الحجب عن حقيقة أقرب إلى الواقع المنطقي والموضوعية .

تلك العملية تحصل بشكل تلقائي، بدافع ميل الإنسان الفطري إلى معرفة ما يحيط به من ظواهر طبيعية، المتباينة منها والمتعددة، أضف الى ما يشغله عقله بما يتعلق بمشكلات ومسائل تتصل بحياة وعلائق أبناء جلدته، وفي مجموع تلك العملية، يندفع الفضول وحبّ الاطلاع إلى استجلاب كل غامض. وعليه، فقد تَلاحق المفكرون في حفظ وتسجيل نتائج الملاحظات والتجارب، التي أدت الى معرفة أجزاء من أصل المعرفة العامة، وقليل من سبل جوهر الحقيقة، نزولا عند رغبة الإنسان في الكشف عن حقيقة وجوده وجوهره ومصيره، ماديا ومعنويا، إلى جانب الكشف عن مدى ارتباطه بحقيقة وجوهر ومصير الوجود الكلّي لهذه العوالم والاكوان.

هنا تجدر الاشارة، إلى أن كل فرد منا نحن البشر، يمثل فكراً فلسفياً، شاء أو أبى، كوننا نراه يعمل كعاقل، ضمن خطة خاصة به، فيوجه ذاتيته ويسيرها نحو غايته التي يراها محققة جراء أعماله، متأثرا بالتجارب الخاصة، إلى جانب نتائج علاقاته بالبيئة المحيطة، اضف الى كل ما تفرضه التقاليد والأعراف الاجتماعية. وهكذا، فإنه يجهد باحثا عن حقيقة ما يحصل حوله، وعن حقيقة مصدر ذلك ومصيره، متسائلاّ وباستمرار، لماذا؟ ما هذا؟ كيف؟ متى؟.. الخ. فيصيب حينا ويخطئ حينا آخر، وتتوالى المحاولات على سلم المدارك والمعارف.

بعد كل ذلك، نشير إلى أن شرقنا كان ولا يزال مهد التفكير الحضاري، فهذه بلاد مصر، وتلك بلاد ما بين النهرين، حيث شعّت بذور المعرفة الآدمية، ولمع بريق حضارتها الانسانية الأولى، التي توالت عبر التاريخ، حيث أن تاريخ التعقل والتفكر، انما يمثل تاريخ الوجود الآدمي، منذ نشأته ونموّه وتطوّره، إلى جانب تلك العوامل الطبيعية والبيئية المؤثرة في كل تغيير وتبديل، والتي تركت طابعا خاصا، وأثراً بيّناً في ما أنتجه كل مفكّر وعالم .

وإننا إذ نؤكد على أن الحقيقة واحدة لا تتجزأ، كما وهي ثابتة لا تتبدل، والخيرة كل الخيرة، لدى كاشفها وعارفها، العامل بدافع حبّ الخير وإزالة كل ضرر، وللتوضيح والبيان، فالحقيقة تلك، مرتبطة كل الارتباط بالسياق العام الوجودي، أي مرتبط بتاريخ الخلق، والبيئة التي نشأ فيها الإنسان، كما وأنه انعكاس للأفكار السائدة لكل عصر، أضف الى أثر سبل التعقل وأساليب التفكر والتفكير، مع بيان نتائج ذلك داخل المحيط البيئي، وانعكاسه داخل المجتمع الإنساني. كل ذلك نراه في سلاسل مترابطة بعضها ببعض، وأن تفاوتت بالزمان والمكان، والأسلوب والغايات.

وعليه، فإن التفكير العربي ما هو إلاّ فصل من هذا التفكير التاريخي، كما وأنه لبنة أساسية في بناء هذا التقدم العلمي العالمي، فكان العقل المدبر في عرض وحلّ مشكلات التفكير العربي على امتداد العصر الجاهلي، وما بعده. إنه العقل العربي الذي اعتمد اللغة العربية، كأداة تعبير في تدوين ما توصل إليه من معارف وحقائق، وهكذا أثبتت اللغة الفصحى تميّزها في التعبير عما انتجه عقل أهلها، من عقلاء حكماء، الذين صبغها بصبغة الدين القويم، صبغة الإسلام، وإن كانوا من جنسيات متباينة، فقد جمعتهم وحدة اللغة، فصهرتهم بوحدة الدولة ووحدة التاريخ ووحدة المصير. فكانت أمة وسطاً، وكانت خير أمة أخرجت للناس. وعلى هذا البيان، يتّضح الدور المصيري الذي لعبه العرب في خدمة وبناء الفكر الإنساني العالمي الشمولي.

ومما تقدم، نؤكد أن اللغة العربية هي الأداة المعبّرة عما يجول من أفكار في عقول العرب، خاصة أو عامة، وكلّما علا ذوق مستخدمها، أعطت الأفكار بريقاً، وزيّنت الحقائق وضوحا وبيانا، انها لغتنا الفصحى التي تعتبر أهم سمات العرب والعروبة، وقد انتجت بحكم وعقلية مفكريها، ثقافة عربية واحدة، وأيضا هوية عربية واحدة، ومن زمن الوجود البشري، امتلكت امتنا هذه السّمة، ثم تطورت، ومع صبغة الاسلام، علا شأنها وارتقى بما زيّنها به، من قيم وفضائل وأخلاق، دافعة بانطلاق الجماعات العربية في تألقها وتوحدها، متخذة من العروبة والإسلام طريق الانصهار، وبريقا فكريا لكيان عربي ـ إسلامي واحد ومُتجدد. وهكذا غدت اللغة العربية الوعاء الحاوي لثقافة وسطية انسانية، وأصبحت أداة طيعة لمفكري العرب، الذين انتجوا فكراً عابرا للعوالم والقارات، حيث حدد رؤية العالم لقوانين الطبيعة .

إن معرفة اللغة العربية وإتقان قواعدها، من صرف ونحو، ثم حفظها والحفاظ عليها، يعتبر أهم ركيزة لتحصين الهوية والذات والشخصية، فالدفاع عنها فضيلة انسانية، وواجب أخلاقي. إذ يضمن للامة استمرارها، ويحفظ لها مكانتها كينونتها بين الأمم الأخرى. وهذا ما أكده، عالم الاجتماع ابن خلدون بقوله: “إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم”. “مقدمة ابن خلدون” ـ ص، 438 .

ونلفت النظر أخيراً، إلى أنه قد تعاقب على العرب صحوات وغفوات، فكلّما ناموا انتبهوا، وكلّما غفلوا تذكّروا، وكلّما تذكّروا كان لهم صحوة بيانيّة تؤلف بينهم، وكان لهم نهضة تعبيرية تنادي شباب لغتهم، وتجدد أصالة البيان بين القديم والجديد. لذا والحالة التي نعيش، تتطلب وتفرض صحوة بلاغية وعزيمة صلبة، تعمل لبناء مرحلة الشروق في حياة اللغة العربية، آخذة من عمق تاريخها بدائع أشعارها وخطاباتها، وروائع حِكمها وأمثالها، حيث التسابق الفطري الى مكارم الاخلاق، فكان انبثاق الإيمان بدعوة الرسول الأمين، إضافة الى ما نزّل القرآن العربي المبين، جاعلة من أبنائها كما أمتحنهم الله تعالى: “خير أمّة أخرجت للناس”، حاملين بهدي القرآن العظيم، وأسوة الرسول الكريم، وباللغة العربية الفصحى، أمانة الدعوة إلى الواحد الأحد في أنفسهم، وبين أجيالهم، وإلى الشعوب والأمم، وفي كلّ زمان وكلّ مكان.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى