مقالات

السنوار.. القائد الثائر والمعادلة الصعبة!

“المدارنت”..
في أواسط تسعينيات القرن الفائت، التقيت في العاصمة الأردنية عمان، قياديًا من حركة «حماس» (هو اليوم عضو بارز في المكتب السياسي للحركة)، نشرت وقتها خلاصة كلامه في صحيفة «العربي» القاهرية، وركزت بالذات على تصور تنظيمي كان يناقش وقتها في دوائر «حماس» الداخلية، عنوانه الرئيسي كان الفصل التام بين الجناح السياسي والجناح العسكري، ربما على سبيل الاستفادة من تجربة الحركة الجمهورية الأيرلندية، والفصل التنظيمي بين الجيش الجمهوري الأيرلندي والجناح السياسي (حزب شين فين)، وهي قصة طويلة ملهمة في تاريخ تحرر الأيرلنديين جنوبا وشمالا من الهيمنة البريطانية الطاغية.

وبقية القصة (الحمساوية) معروفة نسبيا، مع تطور الجناح العسكرى لحركة حماس من تجربة تنظيم (المجاهدون الفلسطينيون) إلى (كتائب الشهيد عز الدين القسام)، وكانت التسمية الأخيرة استلهاما لاستشهاد الشيخ الأزهري السوري عز الدين القسـام على أرض فلسطيـن.
وبعد نحو ثلاثين سنة من حديث مهموم دار حول مائدة الكاتب الصحافي فهد الريماوي، جرت عبرها مياه كثيرة في نهر حركة «حماس»، وسالت دماء زكية لقادة كبار ومؤسسين، لن يكون آخرهم الشهيد بإذن الله إسماعيل هنية، وكان واحدا من أذكى وألمع وأصدق رموز الجناح السياسي لحركة «حماس»، وكان الجناح العسكري لحركة «حماس» على الموعد، وكان رده في الميدان بليغا، ثم كان الرد الأكبر لحماس كلها، وبكامل طاقاتها العسكرية والسياسية، وجرى الإجماع على اختيار القائد يحيى السنوار رئيسا جديدا للمكتب السياسي خلفا للشهيد هنية.
جاء اختيار السنوار كامل الأوصاف بطعم المفاجأة، وفيه معنى التسليم بالقيادة الكلية الواقعية القائمة من سنوات، فشخصية السنوار تجمع المعاني القيادية السياسية والعسكرية جميعا، وله التجربة الأطول بين القادة في سجون الاحتلال، قضى 23 سنة في الأسر، تعلم خلالها وأجاد لغة العدو (العبرية)، وقرأ كل مذكرات قادة العدو، ودرس نفسية “الإسرائيليين” وطرق تفكيرهم، وشارك من سجنه في مفاوضات صفقة جلعاد شاليط.
كان السنوار زعيما لأسرى «حماس»، وأفرج عنه في الصفقة ضمن أكثر من ألف سجين فلسطيني، وكان محكوما عليه بالسجن المؤبد لأربع مرات، كانت تهمته الأبرز تأسيسه لنواة «مجد» جهاز مخابرات «حماس»، وعرف عنه تعقبه الاستئصالي لعملاء الموساد والشاباك في غزة بالذات، وكراهته لكلام السياسة الكبير الكثير، وتفضيله العمل في صمت، وبعد خروجه من السجن أواخر 2011، واصل العمل بدأب وإتقان ورفض كامل للحلول الوسطى، وكانت تجربة نشاطه الطلابي المبكرة زادا وتزكية لاسمه، وجرى انتخابه عضوا بالمكتب السياسي لحركة «حماس» في إقليم غزة، وأوكلت إليه مهمة محورية بعد استشهاد القيادي العسكري البارز أحمد الجعبري، كان مسؤولا عن الربط بين النشاط السياسي للحركة والنشاط العسكري في «كتائب القسام»، ولعب دورا جوهريا في حرب غزة الثالثة عام 2014، دفعه في ما بعد إلى دور قيادي أعلى، وجرى اختياره لأول مرة رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس في إقليم غزة عام 2017، الذي جرت فيه تعديلات على وثائق «حماس»، مالت إلى التخفف من إرث الالتزام التنظيمي مع جماعة «الإخوان»، وبلورة صيغة «حماس» كحركة تحرير وطني فلسطيني.
وفي عام 2021، جرت إعادة انتخابه للموقع التنظيمي البارز ذاته، وكانت حرب «سيف القدس» أواسط 2021 مصهرا هائلا لتكوينات «حماس»، تطور فيه وضع غزة كقاعدة مقاومة محررة ومحاصرة معا، ونجح السنوار في تعظيم دور «الغرفة المشتركة» لفصائل المقاومة المسلحة، وبدا أن الرجل يعد علنا وسرا لانتقال أعظم، لم يحلم به مؤسسو الحركة الأوائل، إلى أن كانت المفاجأة المذهلة صباح السابع من أكتوبر عام 2023، حين عبرت قوات نخبة «حماس» وأخواتها من فلسطين إلى فلسطين، وبرز تفوقها العسكري والاستخباراتي على جيش الاحتلال وتحصيناته التكنولوجية الفائقة، كان زلزال السابع من أكتوبر محطما للأصنام كلها، ومعبرا لحركات المقاومة الفلسطينية إلى عصر جديد، تفجرت فيه مواهب وطاقات جيل جديد من القادة العسكريين والعلميين، صمد ويصمد في أطول وأعنف حرب مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأفشل الحملة العسكرية الأمريكية/ الإسرائيلية، لإفناء غزة والشعب الفلسطيني.
كان الفضل منسوبا ولا يزال إلى جسارة وذكاء السنوار وصحبه المغامرين الواثقين في قيادة «حماس» وأخواتها، الذين بنوا وطوروا مدن أنفاق كاملة متعددة الطبقات، ولم يضيعوا دقيقة واحدة عبر سنوات من العمل العبقري، وبناء مصانع السلاح تحت الأرض وفوقها، وخاضوا ولا يزالون نزالا شرسا على مدى عشرة شهور إلى اليوم، ولم تقتلعهم عواصف حرب الإبادة الجماعية المجنونة، ولا شلت عقولهم عن حسن التدبير والتصرف، وأبدعوا في تكتيكات حرب غير متناظرة، لا يملكون فيها واحدا على المليون مما بحوزة العدو الأمريكي/ “الإسرائيلي”، من أحدث الدبابات والطائرات وقنابل الفتك الجماعي وأرقى التكنولوجيات الحربية، ومن دون أن يفزع السنوار وصحبه، الذين جمعوا حس الشهادة إلى مزايا التخطيط الاحترافي في إدارة المعارك والكمائن المركبة، وكانت النتيجة إلى الآن هي ما يعرفه كل منصف، بل يعترف به العدو بنفسه، «معهد دراسات الحرب» ـ الأمريكي ـ مثلا، اعترف في تقرير أخير عن حرب «غزة»، أن «حماس» استطاعت إعادة تأهيل وتنظيم أغلب كتائبها، واستفادت من تكتيكات حرب العصابات وفنونها ومجموعاتها الأصغر، وصارت تفاجئ الجيش “الإسرائيلي”
بضرباتها وكمائنها المعدة بإتقان.
ومن دون أن تفقد قوات «حماس» مزايا القيادة والتحكم والسيطرة المركزية، في حين اعترفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية في تقرير عسكري، أن جيش الاحتلال خسر أكثر من عشرة آلاف ضابط وجندي بين قتيل وجريح، وأن أكثر من ألف ضابط وجندي “إسرائيلي” يضافون إلى قوائم إعادة التأهيل الطبي كل شهر، والأرقام المذكورة تشي بوطأة خسائر العدو العسكرية من القتلى والمصابين والمعاقين، رغم أن الأعداد لا تشمل القتلى والجرحى من المرتزقة الأجانب في ميادين القتال، فوق إعطاب ونسف الآلاف من الدبابات وناقلات الجند المدرعة الإسرائيلية في غزة، التي يدمرها العدو بشرا وحجر وشجرا، لكنه لا يفلت من عقاب المقاتلين تحت كل حجر وعند كل فتحة نفق أو ركام جدار.
وقد لا يسوغ أن ينسب الإنجاز القتالي لكتائب القسام وأخواتها إلى شخص واحد، بل إلى جيل كامل من القادة والشهداء، كان لدور يحيى السنوار النصيب الأوفر في تكوينه وإعداده لأيام النزال الإعجازي، وخلال رحلة الشهور العشرة الأخيرة، كان العدو في واشنطن وتل أبيب، وعلى منصات جماعة إسرائيل في محطات تلفزيون عربية للأسف، يروج وينسج قصصا ملفقة عن خلافات قيادة «حماس» السياسية مع السنوار، وتتهم الأخير بإعاقة ما تسمى مفاوضات التهدئة، إلى أن صدمت المنابر الملوثة بالإجماع «الحمساوي» على اختيار السنوار قائدا أعلى لحركة «حماس» بكل أقاليمها، وهو ما أسقط الخرافات المصنوعة بالضربة القاضية، فالإجماع على السنوار متصل بأولويات اللحظة الحساسة، ولا صوت يعلو في «حماس» على أصوات المقاتلين والشهداء في حرب غزة، ولا دور للجناح السياسي إلا في التعبير عن نبض المقاومة وجلال البطولات والدماء، ولا قيمة لمشاهد صورة لا تعكس الواقع الأنصع، والسنوار من سنوات كان القائد الأبرز، واختياره قائدا رسميا تسليم بحقائق الواقع، ليس فقط على أرض غزة بمقاومتها وصمودها وعذابات شعبها الأسطورية، بل في الضفة الغربية أيضا، التي تتحول في الكثير من مدنها ومخيماتها وقراها إلى توائم مستنسخة من ملاحم غزة، ما يعنى تكثيف الضغط المقاوم في ميادين القتال، وبما يغير الموازين على الأرض، ويعكس نفسه في منابر السياسة وعلى موائد التفاوض، ويملي المواقف الصلبة التي لا تقبل تفريطا في حقوق، فلا يفل الحديد إلا الحديد واستنزاف العدو، وأوراق التفاوض كلها في ميادين القتال، التي تتسع جنوب كيان الاحتلال وفي وسطه وإلى شماله الجغرافي بالسجال الدموي مع «حزب الله»، ولا تفكيك لاختناق غزة، إلا بالتوسع في ميادين القتال فيها وخارجها، وبقيادة السنوار الذي لا يهاب موتا، بل ينتظر أوان الشهادة في أي وقت، ولا يعبأ بخطط العدو الأمريكي “الإسرائيلي”، الزاعقة بأولوية اغتياله، فهم يعتبرونه الرقم الأصعب في المعادلة الفلسطينية كلها، وحتى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأسوأ من نتنياهو، يعترف بمكانة السنوار، ويناشده أن يسهل التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، بينما السنوار جاهز بشروطه الحاسمة، وأهمها الوقف الكلي لحرب الإبادة والانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة، وهو ما يعرفه الوسطاء والأعداء عن صلابة «حماس» بقيادة السنوار واقعيا ثم رسميا، فسيرة الرجل توحي بأنه لا شيء مستحيل التحقق في ماضي الأيام وقابلها القريب.

المصدر: د. عبد الحليم قنديل/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى