الضمير الأخلاقي ضرورة عالمية!
“المدارنت”..
مع بروز التحديات العالمية المتنوعة، ومن أخطرها اشتعال الصراعات والحروب تتجلى أهمية الحديث عن الضمير الأخلاقي، الذي قد يخفت صوته بل قد يضيع لدى البعض وسط جلبة تلك الآلات المرعبة ودوي القذائف والصواريخ، إلى جانب تحديات الجوع والأوبئة والتحديات المناخية وغيرها التي تواجه الجنس البشري، وتتطلب من المجتمع الإنساني بأسره التحلي بالقيم الأخلاقية التي يتسلحون بها لإطفاء النيران المستعرة والتغلب على التحديات المختلفة.
إن من أهم المضامين الضرورية التي ينبغي أن تشكل الضمير الأخلاقي الحي قيمة الرحمة، التي يتعاطف بها الناس، ويحسن بعضهم إلى بعض، ويكف بعضهم عن إيذاء بعض، فلا تكون القلوب قاسية متحجرة، ولا العواطف جامدة باردة، وعندما تنزع الرحمة من القلوب تعشعش فيها الشقاوة والظلام، فلا يطرف لأصحابها جفن إذا ما اعتدوا أو جرحوا أو قتلوا أو سرقوا، والرحمة من أعظم الخصال التي وهبها الله تعالى لمخلوقاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة».
وحينما تنتشر هذه الخصلة أعني الرحمة بين الأنام تضعف مشاعر الانتقام والحقد والكراهية والغيرة والحسد، فكم أدت هذه المشاعر السلبية بصاحبها إلى الإضرار بالآخر، وجرحه معنوياً أو مادياً، وكم نرى من حروب وصراعات تدفع فيها الأحقاد والرغبة بالانتقام إلى التنكيل بالآخرين أحياء وأمواتاً، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، فما أحوج العالم اليوم إلى الرحمة، ليسود فيه السلام والاستقرار، ويعم الرخاء والازدهار.
ومن أهم مظاهر الضمير الأخلاقي الحي عالمياً التكافل والتعاون، وجمع الجهود المشتركة لمواجهة التحديات العالمية، سواء كانت تحديات الجوع أو الفقر أو الأمراض أو التغيرات المناخية أو الاقتصادية أو غيرها، فكم من هذه التحديات تعصف ببعض المجتمعات، حتى لا يجد بعضهم قوت يومه أو دواء يتعالج به أو لحافاً يتدثر به أو مأوى يأوي إليه، فيحتاج الضعيف إلى إعانة القوي، والفقير إلى مساعدة الغني، والمحتاج إلى معونة المستكفي، ومنها تحديات عامة لا تعرف حدوداً جغرافية، ولا تخص أحداً، بل تواجه الجميع بلا تمييز، كحال الأوبئة العامة والتحديات الاقتصادية والمناخية ونحوها، فإذا لم يتكاتف أصحاب هذه السفينة مادت بهم الأمواج عاتية ضارية، ولربما أغرقتهم، ولقد ضربت دولة الإمارات أروع الأمثلة في التضامن الإنساني مع المنكوبين والمحتاجين في كل مكان، وكانت خير سند للمجتمع العالمي في مواجهة أمثال هذه التحديات، حتى أصبحت قدوة للجميع ونموذجاً يحتذى به، فهي دولة إنسانية وتكافل ورحمة، وهكذا ينبغي على الدول أن تحذو حذوها، في تغليب المصالح العامة التي تكفل الاستقرار والرخاء للجميع.
ومن مظاهر الضمير الأخلاقي الحي الصدق والأمانة والعدل والإنصاف وعدم ازدواجية المكاييل وترك الأنانية والظلم والغش والخداع، ولقد رأينا فيما يجري من أحداث اليوم وقبله سقوط كثير من هذه القيم، وخاصة ممن كانوا يرفعون ألوية حقوق الإنسان والحريات، ويبشرون بها ويسوقونها على أنها أرقى ما وصل إليه الإنسان في الحضارة الحديثة، وإذا بها كبيت العنكبوت تتهاوى أمام الاختبارات والتحديات الحقيقية، ليظهر الفرق بين الشعارات البراقة والواقع الفعلي، فقد رأينا تهاوي هذه القيم في أزمة كورونا، التي كشفت عن مشكلات أخلاقية عميقة لدى بعض الدول والمجتمعات، حتى تنكَّر الجار لجاره، وانكفأ كلٌّ على نفسه، ثم أظهرت أحداث غزة وما صاحبها من جرائم ومجازر أن حقوق الإنسان والحريات التي ترنم بها البعض ليل نهار وصدعوا مجتمعاتنا بها لم تكن سوى خطابات رنانة، للتفاخر والاستقواء والتسلط على الآخرين، حتى أصبح سلب الإنسان أعظم حق له وهو حقه في الحياة مبرراً دون أي عناء، مما يكشف عن معضلة أخلاقية، تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة للنفس من المتشدقين بمثل هذه الشعارات.
إن الضمير الأخلاقي الحي والواعي ضرورة عالمية، لبناء أسس حضارية راقية، لا تقوم فقط على الشعارات الرنانة التي لا تتجاوز الحناجر والأوراق، بل على قيم راسخة في الوجدان والضمائر، تتجلى آثارها الإيجابية واقعاً فعلياً في التحديات والأزمات.