تربية وثقافة
“العصافير لا تكترث بما يحدث”..!
خاص “المدارنت”..
وقّع الشاعر اليمني عبد الغني المخلافي، ديوانه “العصافير لا تكترث بما يحدث”..! الصادر عن دار المثقف عبر منصة المنتدى العربي للسينما والمسرح في زووم، والتي ينظم لقاءاتها الدكتور حميد العقبي.
المخلافي ليس كاتباً، بل هو وثّاب خيّال، يقفز من فراغ إلى فراغ عبر أخيلة، تجعل المتلقي يستحضر تلك اللحظات السيريكية المتقنة فوق حبال خيم الفرق النادرة التي زارت قرانا قبل الحرب.
لديوانه كثير من العفوية والسلاسة التي تجعل القارىء، لا يخاف من النصّ. بل يدمنه، يعيده؛ ليستمتع، لا ليفهم، فالمخلافي لا يكتب الفلسفة والأفكار المركبة التي تحتاج إلى متمرس في فكفكة الصوة الشعرية وتحليل دلالاتها.
إنه ببساطة شاعر يضخ المشاعر في قرائه، يطير، يحلق بهم، يبكي على أكتافهم، يشكو لضمائرهم، يرقص في مخيلاتهم، يطارد معهم قطعان الليل، ويهش على عتمها بعصاه الجمالية.
يُسيل سواقي العذوبة، يوجه هواء الانتشاء، ويبعثر أصوات الحنين، كل ذلك يفعله بغية إسكات ضجيج البنادق في رؤوس الذين يفرون من الحرب. يحاول إسكات المدافع بضحك الأطفال، بشقشقة العصافير، بالحب، بالارتقاء في الفوق، بعيداً عن دخان المعارك وغبارها.
لا يترك وسيلة من وسائل الجمال والصورة في رحلته الشعرية إلا ويجربها، دون أن يوفّق إلى النجاة من الأنين والحزن.
يدافع بجيش من المؤنسات مدعياً أنه “يعرف من أين يسهل الغوص لاصطياد الانفراج”، يعي الشاعر في ديوانه معنى العزلة، لذا يجالسها في كل ما حوله، مبتعداً عن المواجع التي أقامتها الحرب في عقول الناس وكلامهم، تلك المواجع التي تهيج فيه رغبة الفرار من ملاقاة الأصحاب والأقارب لخشيته على الحالة الشعرية التي تجتاحه، غير أنه لا يفلح في مقاصده، فيستحضر أحبته إلى عالمه الجواني، ويقيمهم فيه، يتحدث إليهم، يصغي، يحاول صنع عالم من عوالم شعراء وكتاب كالماغوط ورياض الصالح الحسين وديستوفيسكي، ورامبو، كما في قصيدة وميض خافت، بعنوانها ذي الدلالة على اضمحلال الأمل، وابتعاد فرص الخلاص والنجاة.
“وحدهم الأطفال لا يزالوا يضحكون وسط اللهب، والعصافير لا تكترث لما يحدث حولها”، صورتان تتوازيان في فعل الحياة والإصرار على التمسك ببقايا النجاة.
لكنه يوقظ القارىء على حقيقة سوداوية في “منفى آخر ” أخر قصائد ديوانه “العصافير لا تكترث بما يحدث”، ليصدمه بمشهدية العصافير المشنوقة، وأغصان الأشجار التي قحلت، وما عاد فيها من التفرعات ما يسمح بإقامة الأعشاش بينها، فكل شيء قد انهار و”الوطن إلى الوراء”، على حد قوله.
لذا يلجأ إلى جده، التاريخ، محاولاً التعكز عليه، لعله يعبر مسافة ما تبقى من ألم، يحاول الاحتماء بالماضي، على الرغم من إيغاله في الفرار إلى مدن يبنيها في خياله الطفولي، لكنه يدرك أن مكياج المغالطة، لا يمكنه إخفاء وجه الحقيقة.
لذلك يختم ديوانه بواحدة من تلك الأماني الخالدة، التي لا زالت تؤرق الإنسان منذ جلجامش إلى المخلافي، فيقول:
كان عليّ – إلي حيث
يسكن الشعر أن أعبرَ
بعد انتظاري
لجلسة تأجلت كثيراً
بعد المواعيد المتعثرة بالحرب
والمسافات المحفوفة بالخوف
تجتاحني في ليلة هذه المدينة
فكرة الغمادرة
أفتش في الأرجاء
عن مخرج صغير منه أفر
نحو دروب روّضت أقدامي
غداً سامضي
صوب عوالم مجهولة
رحلة انطلاق أخرى
كان بودي أن أتكىء إليك طويلاً
أفتح بين يديك
خزائن أوجاعي المكدسة.