تربية وثقافة
الـصّـبـيـّــــة نـضـــــال..
خاص “المدارنت”..
مرحلة المراهقة مرحلة فوضى وتغييرات عارِمَة، لكن نِضال لم تكُن تلك المُراهِقَة العنيدة، هذه المرَة الأولى، التي تعاند أباها أديب وتُنفّذ رغبتها في استقبال المولودة الجديدة، لحظة الولادة أثارت فضولها.
رافقت أديب إلى المستشفى، تسللت جانبه كقطةٍ صغيرةٍ يتملّكها الرُعب، دخلا من الممر الخلفي، أيّ من باب الطوارئ، واتجها نحو قسم العمليات، مَشت نِضال وهي تخبئ وجهها بدفتر مذكراتها، تحسبًا لانتباه رجال الأمن الذين غفَلوا عن سؤالِها “كم عمرك”.
تنقلت خلف أبيها وعيناها تسرقان النظر نحو خطوط بشرية، رأت ما لم ترَه من قبل، وسمعَتْ أصواتًا لم تسمعها قط، رأت شابًا شاحب الوجه، يحمله والده أو ربما قريبه إلى قسم الأشعّة، فأقصت نظرها عنهما، حتى ظهرت أمامها صبيَة تجرّ عربة الحقن الوريدي خلفها، راحت نِضال تطرح الاحتمالات في عقلها، “وقع وانرضت قدمه، أو رُبما تعرض لحادث سير، على الأغلب تعرض لحادث سير!؟”، على الرُغم من كُلّ الإحتمالات التي نضعها نصب أعيننا، يبقى هناك احتمال غير متوقع يبدّل معالم كُل شيء.
أُغلِق باب الأشعّة، واختفت الصبية، فأسرعت نِضال كي تلحق والدها، من دون أن ينتبه لها أحدٌ، الموظفون مشغولون بالعمل، والزائرون مشغولون بالمرضى، جلسَ أديب بكامل ثقله على المقعد المعدني ذي الدوائر الصغيرة بحجم ثغرات الحياة، راح أديب يتصفح “فيديوهات الفيسبوك” المُضحِكة التي لا يمل من مشاهدتها.
نصف ساعة، وشعرت نِضال بالملل، رائحة الإنتظار كريهة، وقع نظرها ناحية سلة مهملات في زاوية الممر، أتت بها إلى جانب الباب الخشبي العريض، وقفت عليها لتعلو بِضعَة أمتار، حاولت أن تقف بخفّة وتُراقب ما يحدُث، رأت مجموعة أشخاص يرتدون زيًا أخضرَ اللون ويتنقلون كما يتنقل الدم في الشرايين،
اتجهت نحو والدِها المنهمك بمشاهدة “فيديوهات” تملي عليه الضخك مرغمًا، سألَتْه: “لماذا كل شيء هنا أخضر يا أبي؟”، ابتسم بعمق هذه المرَة، وأجابها ببلادَته المعهودة “غرفة عمليات يا أبي، تريدينها باللون الزهري مثلًا!” طلب منها أن تتوقف عن أسئلتها الغبية وتمكث جانبه وإلّا…!
أتاه اتصالٌ هاتفيٌ من سمير، زميله في العمل،.. استغلّت نِضال اللّحظة وعادت لتقف قرب ناصية الباب، تراقبُ عن كثبٍ ما يحدثُ داخلَ غرفة الإنتظارِ، التي تفصلُها بِضعَة أمتار عن غرفةِ العمليات، والقلق يتملّكها، هو القلق يشاركُنا النفس الأول ووحده من يقطع أنفاسنا الأخيرة.
مكثت نِضال على السلة “البلاستيكية”، الى جانب الباب العريض، لعلّ المسافة التي تبعدها عن غرفة العمليات تتقلّص، اقتربت منها امرأةٌ أربعينيةٌ تُدعى سلمى، طلبت منها أن تدعو لزوجها بالشفاء ثُم قدمت لها قطعة حلوى.
فرحت بقطعة الحلوى، أو ربما بطلب سلمى، عادةً حين نطلبُ من المراهقين أمرًا، يفرحون ويشعرون بأنهم قادرون على حمل أعباء الحياة! إلا أنّ حلو المذاقِ لم يُخرس قلقها، قالت لها بارتباك وهي تنظر حولها: “رجال أمن المستشفى يقربونك؟”
شردَتْ سلمى قليلًا قبل أن تتفوّه بأي حرف، تذكرت أنّ زوجها عامل صيانة في المستشفى، لكنه الآن في غرفة العمليات تحت تأثير البنج، توسعت حدقة عينيها متسائلة: “لا.. لماذا؟!”
همست نِضال في أذنها: “بقي لي سنتين حتى أبلغ الخامسة عشرة من العمر، دخلت سرًا إلى هُنا…”فابتسمت سلمى ابتسامة لم يعهدها وجهُها من قبل، وأخبرتها بأنّها ستحفظُ السّر، تمنت لو كان باستطاعتها إخبار هذه المُراهقة عن سرّ شقائها هي وزوجها، لو كان باستطاعتها أن تُخبِر كُل من تصادفه بأنها لا تريد من الحياة سوى طفل، يملأها غِبطةً وشقاوةً، كانت منهمكة في فهم أسباب الحرمانِ والعطاءِ، لكن لقضاءِ الوقت أكملَت الحديث قائلةً لها: “نسيت أن أسألك..ما اسمك؟”…
لم يتح الوقت لنِضال أن تجيبها، حيث أنهى أديب اتصاله مع زميله، وانهال عليها بالتوبيخ، وألزمها بالجلوس من دون أي حركةٍ إضافيةٍ، جلست من فمٍ ساكتٍ، وخبأت وجهها بمجلد المذكرات، دونت الكلمات هذه المرَة من حبر عينيها.
اقتربت منهما سلمى، ساعية الى أخذ الموافقة من أبيها كي تصحَبها إلى صالةِ الاستراحة، لم يبدِ أديب أي ردة فعل، حركت نِضال حاجبيها الى الأعلى، من دون أن تتحرك من مكانِها خجلًا مما بدرَ من والدِها أمام الملأ، ومن دون أن تدرك أنّ ما من أحد لاحظ ما حدث سوى سلمَى.
تركزت أنظارُ الجميعِ نحو ذاك الباب الخشبي الكبير، هذه اللحظة تعادل حياة الموجودين بأكملها، كان طبيبُ التخدير، فتح الباب ليطمئن ذوي المرضى، كلٌ على حدة، “أستاذ أديب المولودة بخير لكن كريمتك لا تزال تحت المُراقبة..”.
خفق قلب نِضال خفقةً لا تشبه الباقيات، رمت المُجلّد من يدِها وصرخت بكامل قواها.. حينها شعرت سلمى بدوارٍ طفيفٍ، قبل أن تسأل الطبيب عن حال زوجها.
قال أحد المهتمين بالفيزياء، أنّ الضوء يصل أسرع من الصوت، لكن هذه المرة صوت نِضال كان أسرع من الضوء، حيث حضر رجال الأمن فجأةً إلى قسم العمليات، وكأنهم هبطوا من السقف، طالبين منها أن تفصح عن إسمِها وتخبرهم كيف دخلت إلى هُنا.. أجابتهم والقلق جليًا في صوتها: “أصدقائي في المدرسة يضحكون على اسمي، أرجوكم لا تفعلوا… هاك أبي ينتظر ولي العهد الذي لن يأتي، ونحن ندفع ثمن ذلك أسماءَنا… إسمي نِضال..
دخلت إلى هُنا من باب الطوارئ”.. ثُم تلقفتها الأذرعُ قبل أن تهوي أرضًا.