القانون الدولي أم قانون ترامب؟!
“المدارنت”..
في يوم تنصيبه رئيسا أصدر ترامب 100 مرسوم رئاسي بصيغة أوامر تنفيذية أغلبها خاص بالشأن الداخلي والبعض منها متعلق بالعلاقات الدولية، ومنها 78 مرسوما يلغي بها أوامر سبق وإن أقرتها إدارة بايدن، ومن أبرز ما شمل الأمم المتحدة ومنظماتها، أمر الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ.
أما الأوامر الأخرى الخاصة بالعلاقات الدولية، فكان أبرزها، الوقف المؤقت، مدة تسعين يوما، لمساعدات التنمية الخارجية، حتى يتسنى للجهاز الحكومي الجديد، ربط أي دعم خارجي بالمردود الذي يأتي من خلال توافقه مع نهج أمريكا أولا، ثم أمر آخر يعيد تصنيف كوبا على لائحة الإرهاب، وآخر يلغي العقوبات المقرة بحق عدد من مستوطني الضفة الغربية المدانين بأعمال عنف بحق الفلسطينيين، وإذا أخذنا منطوق قانون قديم كانت إدارة ترامب الأولى قد أقرته، ويقضي بانسحاب أمريكا من أي منظمة أممية تضم فلسطين بصفتها عضوا كاملا، كما حصل مع اليونسكو، حيث انسحبت أمريكا وإسرائيل وقتها احتجاجا على قبولها فلسطين بصفة كاملة العضوية، والذي جمدته إدارة بايدن حتى عام 2025، فإن إعادة الحياة له ستكون متوقعة مع الزخم الذي كرسه قرار الكونغرس بمعاقبة محكمة الجنايات الدولية!
الأمم المتحدة هي المقرر الأول لحيثيات وسريان مفعول القانون الدولي، وعدم احترامه والالتزام به، يعني عدم احترام ميثاقها، والالتزام بمقرراتها، وقد عودتنا الإدارات الأمريكية المتعاقبة عموما على الأنانية والانتقائية وازدواج المعايير، وسعيها الدائب للهيمنة على العالم ومقدراته وفي تطبيقاتها وتفسيراتها المغالطة لمقررات واختصاصات الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية والمتخصصة، فالتهديد المتواتر بتوظيف القوة العسكرية، والمحاصرة والمقاطعة الاقتصادية غير الشرعية للكثير من دول العالم ذات السيادة والحصانة الدولية، هو كذلك خرق فاضح للقانون الدولي المتعلق بمعالجة النزاعات الدولية، كما حصل مع حروبها على دول الهند الصينية، وغرينادا، وحروب احتلال أفغانستان، والعراق، وحصار كوبا وفنزويلا، والتدخل الخشن والناعم بشؤون الدول الأخرى، كما حصل مع نيكاراغوا وتشيلي، ومعظم بلدان العالم التي لا تخضع لأجندتها، حتى العاملون في منظمة الأمم المتحدة ومديروها لم يسلموا من سياسة الابتزاز الأمريكي، ولم يكن مقتل الأمين العام للأمم المتحدة بالحادث المدبر لسقوط طائرته، داغ همرشولد.
وقبله باتريس لومومبا الزعيم الوطني للكونغو الذي طالب بطرد المستعمرين من افريقيا، إلا عينة من التخادم الاستخباري الأمريكي مع عساكر الاحتكارات الغربية، البلجيكية والبريطانية، للتخلص من الحقائق الفاضحة للإبادة العنصرية لثوار افريقيا أيام ذروة الحرب الباردة، أيام جون كندي ونيكيتا خروشوف، واليوم يكرر التاريخ نفسه وهذه المرة بتجاهل مطالبات الأمم المتحدة والتهديد المبطن لمسؤوليها، واتهامهم بمعاداة السامية وابتزاز أدوارهم بالمقاطعة وخفض التمويل، وهذا ما تفعله إسرائيل بدعم أمريكي مع أنطونيو غوتيريش، والأونروا واليونسكو ومنظمة الصحة العالمية ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية !
لزمرة الأوليغارشية الأمريكية المتطلعة لعالم لا يتسيده إلا التريليونيون المتطلعون للعب دور الآلهة، التي يقودها ترامب، طابعها الخاص الذي يميزها عن الإدارات الأمريكية السابقة، وربما اللاحقة أيضا، وذلك في مديات استعدادها لخرق القانون الدولي جملة وتفصيلا، وعدم استغراقها في المحاذير التي تراعي الشكليات والبروتوكولات واللغة الدبلوماسية كما جرت العادة، على افتراض أن يقين التكافؤ والمساواة والعدل يبقى نسبيا في بورصات وأسواق العرض والطلب، التي غمرت كل الأشياء في عالمنا، حتى صار التشيؤ دينا للعصر وقيمته الأخلاقية العليا، وإن بدون أخلاق، مادام الخروج عن المألوف، بحد ذاته قيمة مضافة لأرباح استثمارات القوة واحتكارها وإجهاض محاولات المتطلعين للمنافسة !
ترامب في رئاسته الأولى خرق القانون الدولي عندما أقر ضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية، وخرقه عندما اعترف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل ونقل السفارة من تل أبيب الى القدس، ويمهد لخرقه مجددا بقوله إن مساحة إسرائيل صغيرة، وإن لها حقوقا توراتية في الضفة الغربية، وفي صفقته الصفيقة التي وصفت بصفقة القرن، تجسيد لاستعداد وعزم على خرق كبير قادم يستبيح به أراضي الضفة بضم تدريجي للسيادة الإسرائيلية.
أما ما قالته محكمة العدل الدولية أو قرارات الأمم المتحدة التي تمثل إرادة الشرعية الأممية، فإنها حسب ترامب، مجردة من الأمر الواقع الذي يصوغه منطق فائض القوة مقابل عجزها في الطرف المقابل، وهنا فارق ترامب عن سابقيه، حيث المباشرة والسرعة، وبما يتلاءم مع إيقاع «بزنز» التشيؤ، وبنفس الطريقة تتلخص الكيفية التي استطاع بها استحلاب 600 مليار دولار من المملكة السعودية بمجرد اتصال هاتفي، ومن ثم استدراكه لمضاعفة المبلغ أو جعله رقما كاملا وبلا كسور، فالتريليون قيمة مضافة، أنجزها من يتقن لغة المتاجرة بالقوة الابتزازية حتى من دون تكلفة تذكر.