المسؤولية تكليف وليست تشريفاً
أديب الحاج عمر/“المدارنت”
تسير المسؤولية في التطبيق خلال خطين متوازيين، مستوى الفردية الذاتية، من حيث بناء شخصيتها وصقلها وتهذيبها، ونقلها من انانيتها وفرديتها كي تذوب بالجماعة، إلى مستوى تصبح المصلحة العامة الوطنية كل همّها وأولى أولوياتها.
والخط الثاني، مستوى الجماعة الاجتماعية، الخط الذي تتحقق فيه المصلحة العامة وفق الظروف والآليات الملائمة، بعيداً عما يعرف بالتوافق والتآلف.
منذ الخلق الاول، خلق الإنسان مكلفاً، لحديث الرسول “ص” :”كلكم راع، وكل راع مسؤول عن رعيته”. وهذا يعني ان الإنسان مسؤول عن نفسه، وعن كل ما يصدر عنه من أعمال وأفعال ومواقف، وسيحاسب عليها إيجاباً أو سلباً، نفعاً أو ضرراَ، صواباً أو خطأ.
الإنسان عالم كون بحد ذاته، أضف الى أنه جزء من منظومة العوالم والأكوان، فهو مستقل بفرديته من جهة، ومرتبط بالآخر. فعلى المستوى الفردي الذاتي تتضح المسؤولية بقوله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا”، وعلى مستوى الجماعة تتضح بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
من هنا تتجلى المسؤولية برداء التقوى، الذي هو المعيار الأساسي الذي يحدد معناها ووجودها، انطلاقا من ذاتية الفرد وما يعكسه من مواقف واعمال داخل الجماعة والمجتمع الذي ينتمي إليه، بمعنى آخر، تتجلى المسؤولية بتطبيق أمور الله والانتهاء عما نهى. وكما يقال رأس الحكمة مخافة الله، حدق واستمتع بما يلفتك ممن يخافون الله .
اذا نظرنا حولنا نجد الأتقياء قد أنزووا، ولا حول لهم ولا قوة، وطفى على صفحة المجتمع فئة اللصوص، وأهل النفاق، الهدامون، فوُجدوا حيث لا وفاء ولا اخلاص، أولئك الذين نزعوا عن أنفسهم ما تبقى من فطرية القيم والاخلاق، وتزينوا باثواب الكذب والدجل والاحتيال، غير ابهين خلال وأحوال الشعب والرعية. هؤلاء الذين ينسبون لأنفسهم صفة القيادة في المسؤولية الحرة، تحت عناوين لم ينزل الله بها من سلطان، ولكن حقيقة أمرهم وأحوالهم، أنهم احجار شطرنج، أنهم تُبّع، تحركهم سياسة وايادي أعداء العدالة والقيم، والمميزون بانعدام ألوانهم وعقيدتهم.
وللبيان، فالذين يخططون، ويؤسسون، ويبنون، هم القادة، وليس أولئك الذين أتت بهم أجنحة الظلمة وضبابية المواقف، ليديروا الأزمات، فمن المسؤولين من يدير ومنهم من يقود، والفرق بين المفهومين، وأبعاد معناهما، كالفرق بين الخضوع لما هو واقع ومعايشته، وبين رفضه للواقع ونزعه من القلوب والعقول.
الفعل “قاد، يقود”، يعني، توفير الظروف الملائمة، أي خلقها ثم زرعها في نفوس العنصر البشري العامل، من خلال توجيهه وارشاده، بسقايته بثقافة ضرورة استكشاف الآفاق الجديدة، عن طريق التعلم المستمر، والانصياع لأسلوب المنافسة في الإبداع والابتكار، ووضع المشكلات والأخطاء، تحت مجهر التصحيح والتصويب. وهذا يتطلب عقلاً جمعياً ركيزته “نحن” وليس أنا ولا أحد، أما الفعل”دار، يدير”، يعني السير فيما هو قائم، فيدير المشكلات ويجملها، ويحسنها، من دون علاج ومن دون استئصال العلة، بل يغذيها، معتمداً على تجييش فئاته الشعبية، ويحركها وفق مصالحه الشخصية والذاتية، كما أنه يدير ما هو موجود في إطار حركة سكونية، لا تغيير فيها ولا تبديل، وهذا الأمر يتضمن رضوخاً وسكوناً وموتاً، حيث انعدم السمع والأبصار والافئدة، ولا حياة لمن تنادي.
والإجابة على ما يطرح: هل كل مسؤول يتصرف كقائد؟ إنما تحددها قدرة سيطرته على التجاذبات والصراعات الداخلية بين قواه العقلية وقواه الغريزية الهزلية، وحفل الأوبرا الغزاوية .
فنحن كبشر، صغاراً وكباراً، وفي أي موقع وُجدنا، داخل أو خارج السلطة، أصحاب نفوذ ووصاية، أو اننا مسلوبي تلك المواقع، فكل ما يصدر عنا، انما هو من نتائج ذاك الصراع، ولكي لا نقع في الانحراف، يلزم التمسك بروحية الرسالات السماوية والشريعة الإلهية، التي أكدت بمجملها على العمل الفاضل المتجدد، ودلت على أن كل موجود هو في حالة متغيرة وحركة متبادلة. وعلى سبيل المثال:(الاعتقاد بالموت والحياة). فالخالق العظيم جعل مخلوقاته في حركة دائمة، فكيف لك أيها البشري المخلوق أن تحيا في سكون وجمود؟ بل تحيا الموت ذاته! لقد جعلك الله في صراع ورعاك ومخاصمة، بين عناصر مكوناتك المادية والروحية، بين قواك العقلية وقواك الغريزية الهوائية، وهو الذي أعزكم وكرمك وجعلك سيّد مخلوقاته، ورغم ذلك، تتصرف كفرعون زمانه، وتقول: أنا ربكم الأعلى! لكن الحقيقة لوجود العمل الصالح، ترتبط بوجود قائد، يتحلّى بـ: الإيمان الذي ثمرته العمل الصالح، الانفتاح الموصوف بالقيم والاخلاق والفضيلة، موفقة أقواله وأفعاله، شجاع، كفؤ، ملهم الآخرين ومفطور على تلك الصفات.
وهكذا، فالقائد المسؤول يقود أصحابه وشعبه، في رحلته، نحو آفاق، تسودها الشمولية، الاعتدال، الوضوح، الشفافية، الواقعية، الموضوعية وعدم التناقض، يعني أنه يملك قدرة تطبيق الأنظمة والقوانين، من خلال، التعاون الواعي المتطور، والمشاركة الفعالة، مع التأكيد على الابتكار والإبداع الإنتاجي في صيرورة التقدم والتجديد.
كل ذلك ليس بالأمر الهيّـن والسهـل، فانظـر لأيام إشراق الأمة، فقـد قادها رجال ما زالـوا مضرب مثل لدى أبنائها، وأيام ظلمتها، فقد قادتها أهواء رجالها، فأصبحوا لعنة من لعن تاريخها.
.