“المدارنت”..
النهج والفكر السياسي في مقولة رئيس الوزراء الإنجليزي ونستون تشرشل، إبان الحرب العالمية الثانية «إن المصلحة الوطنية هي البوصلة التي يجب أن توجهنا في كل خطوة نخطوها، لأنها تتجاوز كل المصالح الشخصية أو الحزبية».
هذا يعطينا مؤشراً واضحاً وجلياً للبوصلة الاستراتيجية للدول التي ترفع من منسوب قوتها وتوازنها المحسوب، ضمن سياق توازن القوى في كل مرحلة من المراحل الواعية بتركيبة الصراع العالمي الموجود في المنطقة، ومن دون إغفال تنامي قوى الجوار الجيوسياسي والاقتصادي المتحالف.
القضية الفلسطينية التي تعد من أهم القضايا المركزية في منطقة الشرق الأوسط منذ عقود، خاصة منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، وهي القضية التي ارتبطت تاريخياً بصراعات إقليمية ودولية كبيرة خلال السنوات الطويلة الماضية، انخرطت فيها القوى العالمية المهيمنة، انطلاقاً من المزيد من النفوذ والوفرة في إدارة الأزمات ضمن حزام مصالحها الاستراتيجية، ومع صيرورة الزمن، تبنت عدة دول مواقف مختلفة تجاه هذه القضية، انطلاقاً من مصالحها الوطنية والاستراتيجية وعقيدتها القومية كمسار ناجع لهذا الانخراط.
من بين أهم هذه الدول تبرز إيران وتركيا لاعبتين رئيسيتين في تشكل وتبلور السياسة الإقليمية المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، مأخوذة بالموروث التاريخي لحراك تلك الدولتين في المنطقة العربية.
تعتبر إيران القضية الفلسطينية مساراً يتسق مع فلسفتها الثورية المناهضة للغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وهما الشريكان الأكثر تفاعلاً وتناغماً في الأهداف الوطنية المتبادلة تاريخياً وحاضراً.
من الواضح أن التفاعل الإيراني في هذه القضية يتقاطع مع عدة ملفات، أهمها التفاوض في الملف النووي مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والذي من شأنه أن يخفف الضغط الدولي حول ذلك، أو يجعلها تتفاوض من موقع قوة متجددة، وإعادة توزيع الأحمال عليها من الدول الغربية، خاصة في ظل الضغط الغربي والأمريكي تحديداً على إيران ودورها في المنطقة.
تفاعل إيران مع القضية الفلسطينية أقرب ما يكون محاولة لتحقيق حالة من الكسب المتأني من النقاط في حدود الاشتباك مع بؤرة أزمة الشرق الأوسط، المتمثل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما نراه في الوقت الحاضر من إدارة الاشتباك العملياتي مع إسرائيل، حيث تحاول إيران الاستفادة من الصراع إلى أقصى درجة ممكنة في خدمة مشروعها الكبير في المنطقة.
إذا انتقلنا إلى الجانب الآخر، فإننا سنجد أن تعاطي الجمهورية التركية مع القضية الفلسطينية ينطلق من منظور مختلف وزاوية استراتيجية مغايرة، فخلال حكم حزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب أردوغان، شهدت تركيا تحولاً في سياستها الخارجية، حيث أصبحت أكثر دعماً للفلسطينيين على الصعيد الدبلوماسي، مع عدم إغفال مصالحها الوطنية الاقتصادية والاستراتيجية مع إسرائيل، والتي تحاول الموازنة بينهما بشكل كبير.
حافظت تركيا على علاقات متوازنة مع كل من إسرائيل والفلسطينيين، ففي حين أنها انتقدت إسرائيل بشدة في مناسبات عدة، خاصة بعد الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية عام 2010، على سبيل المثال، فإنها استمرت في تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري معها، وكذلك الحال خلال بداية الحرب في غزة.
من الناحية الاقتصادية، تلعب إسرائيل دوراً مهماً في تعزيز التجارة التركية، خاصة في مجالات التكنولوجيا والزراعة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب إلى ما يصل إلى 7 مليارات دولار، إضافة إلى ذلك، تُعد تركيا مركزاً لعبور الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى الأسواق الأوروبية، وهو ما يعزز من مكانتها الاقتصادية والجيوسياسية، ويجعلها خياراً مهماً لإسرائيل وغيرها في المنطقة.
أما من الناحية الديبلوماسية، فإن الجمهورية التركية تسعى إلى تقديم نفسها كقوة إقليمية طموحة تستطيع التوسط في النزاعات الدولية والإقليمية المختلفة، وهو ما يتيح لها تحقيق نفوذ أكبر في المحافل الدولية والإقليمية، حيث يسهم هذا الدعم المعلن للفلسطينيين في خدمة هذا الهدف، كما أنه يعزز شعبية تركيا بين الشعوب العربية والإسلامية.
من الناحية الاستراتيجية، فإن الجمهورية التركية تسعى إلى توسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، حيث تُعد القضية الفلسطينية وسيلة مهمة وضرورية لتعزيز حضورها الكبير في المنطقة، لكن من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل أو الغرب بشكل خاص، ومبدأ التخادم مبدأ يندرج تحت المظلة والمصلحة الوطنية المشروعة من وجهة النظر التركية، والتي تسوقها أنقرة باعتبارها تعمل على حماية المصالح التركية، كما هو الحال مع مصالح الفلسطينيين.
وكما هو في السياسة الدولية والإقليمية، فإننا نخلص من ذلك إلى أن كلاً من إيران وتركيا، تتعاملان مع القضية الفلسطينية من منطلقات مختلفة، لكن ما يجمعهما هدف مشترك واحد، والذي يتمثل في تحقيق مصلحتهما الوطنية في الأساس، فإيران تتفاعل مع القضية الفلسطينية كفرصة لتعزيز طموحها في المنطقة ومواجهة خصومها، بينما تستخدم تركيا القضية كوسيلة لتعزيز صورتها كقوة إقليمية مؤثرة ولاعب لا غنى عنه، دون التضحية بعلاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية.
يُظهر هذا النهج انسجاماً واضحاً مع استراتيجيات البلدين الأوسع في المنطقة، دون أن نغفل حالة التخادم الاستراتيجي مع القوى الناشئة في المنطقة.
مقالات