محليات سياسية

النائب د. جرادي.. الإنسانية دينه والوطنية ديدنه

النائب د. جرادي الى اليسار والزميل وليد الخطيب

خاص “المدارنت”..
التقيناه في مكتبه في مستشفى بيروت التخصصي للعيون والأنف والحنجرة، بعد أنهى يومه الحافل بالعمليات الجراحية والكشف على عيون مرضاه الذين يقصدونه من كل حدب وصوب ومن كلّ فجّ عميق، وبحكم مهنته، يرى أنّ معالجة البصيرة يجب أن تكون قبل معالجة البصر، وأنّ الرؤية يجب أن تكون بعين القلب والعقل قبل أن تكون بالعين المجرّدة. إنّه النائب د. الياس جرادي، ابن بلدة إبل السقي الجنوبية، التي شكّلت أرضها طبعه الطيب ومعدنه الأصيل، ولفحت شمسها جبينه ليصبح مرآتها ويبقى في علوّها أشمّ العِرْنين.
يعتبر جرادي الإنسانية فوق كلّ شيء والوطنية قيمة أساسية من قيمها لا بدّ من وجودها ليبقى الإنسان واعتباره وهويّته وليبقى سيّد الحياة والأشياء فيها. هدفه الحفاظ على بلده كيانًا موحّدًا مستقلًّا ومزدهرًا، له قيمته السياسية وقيمته الحضارية وقيمته البشرية… ولو تطلّب ذلك منه تقديم نفسه قربانًا على مذبحه.
ليس هدفنا هنا كيل المديح للنائب جرادي، وإن كان أهلًا لذلك، بحكم معرفتنا به وبحكم ما رأينا منه على جميع الصعد، خصوصًا الإنساني في تعامله مع الناس ووقوفه إلى جانبهم والسعي في خدمتهم، لأنّه يؤمن بأنّ قيمة الإنسان تكمن في خدمة مجتمعه وأنّ السعادة تكمن في العطاء لا في الأخذ، بل هدفنا هو نقل النقاش الذي دار بيننا بدقّة وأمانة وموضوعية للرأي العامّ.
كان المقرّر أن أزوره زيارة ودّية، وأن يكون لقائي به لقاءً عاديًّا بحكم الصداقة التي تجمعني به، ولم يلبث أن تحوّل اللقاء إلى لقاء صحافي بامتياز، وإلى حوار حول أمور كثيرة، كان أهمّها الحرب الدائرة فلسطين وفي جنوب لبنان.
بدأت كلامي معه بأنّ الناس الذين انتخبوه وعلّقوا عليه آمالًا كبيرة يشعرون بخيبة أمل من تصريحاته التي تدافع عن فريق لبناني في حربه مع “إسرائيل”، وكأنّه يعطي هذا الفريق صكّ براءة عن كلّ تجاوزاته في الداخل، وعن كونه جزءًا أساسيًّا في التسبب في ما وصل إليه البلد… هم الذين آمنوا به وآمنوا بمشروعه واعتبروا وجوده خشبة الخلاص والنجاة التي بها سيفتح باب التغيير وسيخرجون من النفق المظلم الذي كانوا فيه ولم يروا في آخره نورًا فاستحوذ عليهم اليأس وتركهم فرائس المجهول والضياع، واستسلموا للحقيقة المرة بأن لبنان ليس لأبنائه بل لسلطة حاكمة فاسدة ولأتباعها وأزلامها.
والحق يُقال أنّ النائب جرادي مستمع جيّد، ويتقبّل النقد بصدر رحب، هو الذي دعا أبناء منطقته بعد سنة من انتخابه لمحاسبته على تقصيره إن هو فعل. فأجاب بهدوئه المعتاد وبدماثة خلقه، أنّه ليس مع أي فريق سياسي في الداخل اللبناني، وفي الوقت نفسه ما من فريق هو عدوّ له، ولكن كل مَن يحارب “إسرائيل” هو معه إلى أن تنتهي الحرب وتضع أوزارها وينجلي غبارها. أمّا في هذه اللحظة الحسّاسة، فهو يعتبر قتال “إسرائيل” واجب إنساني قبل أن يكون وطنيًّا. خصوصًا أنّ هذا الكيان يرتكب الفظائع في حق الإنسانية في غزّة وفي لبنان.
لست في معرض الدفاع عن دكتور الإنسانيّة – خصوصًا أنني أنا أحد المستائين من تصريحاته ومن دفاعه عن الفريق المعني في الحرب التي يخوضها، باعتبار أن الدفاع عن الوطن ليس استنسابيًّا، بمعنى أنني أتغاضى عن الفساد داخل البلد، وأتركه للجميع ينهش فيه بحجة الطائفية البغيضة وأتحالف معهم، فتكون النتيجة دماره ودمار مؤسساته، ثم أتنطّح للدفاع عن البلد وعن أهله ضد العدو الخارجي – ولكن واجبي كمحاور أن أنقل الحوار كما هو من دون زيادة أو نقصان، فالمجالس دائمًا بالأمانات، وهذه أمانة ويجب أن أكون أمينًا في نقلها.
مبدأ التغيير، الذي كان يسعى إليه اللبنانيون الذين انتخبوا جرادي، رأوه متجسّدًا فيه. هو الذي حمل على عاتقه شعار فتح باب تصحيح المشهد السياسي والمشهد الاقتصادي والمشهد الاجتماعي والمشهد الاستشفائي… في الواقع اللبناني المرير، بعيدًا من الشعبوية ومن إنكار وجود مجموعة كبيرة في المجتمع اللبناني مؤمنة بالعمل المقاوم – كما يسمّيه – وبحقيقته الجيو/ سياسية، مع عدم التخلّي عن إيجاد حلول لمشكلات اللبنانيّين، التي هي في الواقع معضلات، فالمشاكل غالبًا ما نجد حلًّا لها. أمّا المعضلة مهما صغرت فحلّها صعب للغاية.
وقد اعتبر جرادي أنّنا جميعًا في المجتمع اللبناني على اختلاف تلاوينه وأطيافه وأفكاره وانتماءاته، يجب علينا أن نساند “المقاومة” – مع تحفظي الشخصي على هذه التسمية – في حربها مع “إسرائيل”، على الأقل في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان، للحفاظ على ما تبقّى منه، على أمل أن تزول هذه الغمّة ونتجاوز هذه المحنة، ونعيد بناء ما تهدّم ووصل ما انقطع…
وعلى الرغم من تجاربه المهنية والشخصية الغنية والناجحة، فقد اعتبر أنّ موقعه الحقيقي بين الناس قبل أن يكون في مجلس النواب أو في أي مكان آخر. ودخوله المعترك السياسي إنما كان لخدمة أهله ومواطنيه ومجتمعه بعد عجز الطبقة السياسية عن فهم معاناة الناس لمعالجتها، وغرقت في استعراضات وعراضات فارغة لا تُقدّم ولا تؤخّر في تخفيف المعاناة الإنسانية في لبنان التي هي من صنع هذه الطبقة بكل تلاوينها.
لقد فهم د. جرادي النسيج اللبناني المعقّد فهمًا فكريًّا صحيحًا. فعمل على التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يحتاج إليه اللبنانيون. هذا الفهم نابع من معرفته بمخاوف اللبنانيين عمومًا والجنوبيين خصوصًا، الذين يُقدّرون “المقاومة” كثيرًا باعتبارها رد الفعل الطبيعي لمنع العدوان والاعتداء على أراضيهم وحياتهم ومجتمعهم، فلم ينضمّ إلى الجوقة المطالبة بـ”نزع سلاح المقاومة”، معتبرًا أن هذا الموضوع شائك ولا يُحلّ إلا بالحوار والتواصل والالتفاف حول القضايا الوطنية، والأهم من هذا كله، محاولة بناء جسور الثقة لردم الهوّة الكبيرة بين اللبنانيّين.
وقال ابنُ بلدة إبل السقي الجنوبية، أنا أؤمن بفكرة “المقاومة” لتحرير الإنسانية أولًا ولتحرير الأرض ثانيًا، ولتوطيد فكرة المواطنة والدفاع عن الأرض وبناء مجتمع متكافل ومتضامن وإنشاء اقتصاد يكفل حقوق جميع الناس لا الطبقتين المالية والسياسية، فأنا لي علاقة وطيدة ومصلحة ومستقبل في هذا الوطن أريد أن أحميها، وأريد لأولادي أن ينتموا لهذا الوطن في الهوية والهوى. وقد قلت لك في مقابلة معك سابقًا، عندما يكون المرء شابًّا يسعى ويركض ليعمل لنفسه ويحقّق ما يصبو إليه، ولكن بعد أن يصبح مسؤولًا، فإن البطولة تكمن في أن يعمل ليقدّم لغيره، لأن العمل لنفسه ما عاد مجديًا وليس له معنًى. فقيمة الإنسان الحقيقية في مدى تأثيره إيجابًا في الآخرين. لهذا، اخترت الخروج من “منطقة الأمان” الشخصية – في أميركا – والمواجهة لتحقيق قيمتي كإنسان من خلال التضحية من أجل الغير.
لذا، فإن واجبي الأخلاقي والإنساني والوطني في هذه الفترة العصيبة، يحتّم عليّ أن أكون حيث يجب، فلا مكان للحياد في إنقاذ الوطن من أطماع “إسرائيل” في أرض لبنان ومياهه ونفطه، ومن الطائفية والزبائنية اللتين كرّستهما منظومة متشابكة من السياسيين والمصارف والأحزاب.
إضافة إلى ما ذكرت، أنا أقاتل على جبهات عدة، منها جبهة البتّ في قضية تفجير المرفأ، وجبهة “التوطين”، وجبهة التغيير “الديموغرافي” وتغيير هوية الوطن، وجبهة إعادة أموال المودعين، والوقوف ضد الأطماع الخارجية والداخلية… لبناء وطن قادر على حماية نفسه وإعادة إحياء مؤسسات الدولة كافّة… أضف إلى ذلك، أنا جاهز لتبنّي فكرتكم في خلق آلية لمساعدة أهلنا وأبنائنا اجتماعيًّا… بما نستطيع، وإيجاد فسحة ثقافية توعوية لهم للتلاقي والحوار لنبذ الِفرقة ولتقبّل الآخر في الوطن؛ فأولًا وأخيرًا نحن أبناء وطن واحد ويجب علينا جميعًا أن نتخلّى عن خلافاتنا الفئوية والطائفية والحزبية وأن نعيش معًا بسلام وأمان.
وأخيرًا، اعتبر جرادي أن حماية لبنان واللبنانيين و”المقاومة” – كل من يقاوم دولة الاحتلال – تكمن في القضاء على الفساد والمحسوبيات والزبائنية، وفي ترسيخ العدالة الاجتماعية والاقتصادية والوقوف إلى جانب الناس في قضاياهم الحياتية والمعيشية والإنسانية… وأنا سأكون معهم وإلى جانبهم وعند حسن ظنّهم بي، ولن أخذلهم أو أكسر قلوبهم، وإلّا سيكون وجودي بينهم وجودًا هزيلًا لا قيمة له. وإذا لم أستطع أن أقدّم شيئًا، فيكفيني فخرًا أن يكون لي شرف المحاولة. بالتالي، ليس من طبعي أن أصفّق للباطل إذا لم أستطع أن أنتصر للحقّ!

حاوره وليد الخطيب
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى