التعقٌل.. ومصداقية منهج تفكٌر الأضداد.. الجزء “1 ـ 2”
خاص “المدارنت”..
الأضداد أصل من أصول الفطرة الإنسانية، لقوله تعالى: “وعلٌم آدم الأسماء كلها..”، إذن فهي من مسلمات وبديهيات المعارف البشرية، حيث تتمثل رمزيتها بقولنا: الدنيا والآخرة، الخير والشر ،العدل والظلم … الخ. وهذا ما صدر عن خالق عظيم، الذي من صفاته، العدل، وقوله تعالى: “وما ربك بظلٌام للعبيد..”.
مع بيان ضرورة اتباع خطوات الارادة الالهية، إذ بها يؤمن الإنسان آمنه وامانه والانتصار لكل الاوجاع والآلام، اي تحقق العدالة الانسانية، أما من يعارض ذلك، فإنه الضد له، بحيث كل نوع منهما انما يتبع منهجه الفكري الخاص الذي يميٌزه عن الآخر، ثم يعمل بكل ما يملك لتطبيقه وتحقيقه، وهذا ما يدفع بالأمر إلى ديمومة الصراع بين كلا الطرفين، اي بين الضدين، ذاهبون الى بيان فضل مثل هذه البديهيات، إذ أن.. الضدٌ يظهر حسنه الضدُ.
الأضداد دائمة الصراع، إلى أن يتم غلبة احد طرفيها، فإن أنتج الخيرية العامة والمنفعة المشتركة، فهذا يعني انتصار الارادة الإلهية داخل منتجات الفكر العملي اليقيني لدى عامة الناس، نتيجة الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان، أما اذا كانت الغلبة للفردية والمنفعة الخاصة، فيعني انتصار الشيطنة الابليسية، وهذا ذهاب إلى التفلٌت عن مركزية الحق والاتجاه نحو التلوٌن لأساليب ملتوية مضللة، اي الذهاب لتحقيق المذهب البرغماتي النفعي، وهذا ما يذهب إليه اهل البرغماتية الغربية، كغطاء ليبرروا ما يحققون ومما يهدفون إليه من سيطرة ونفوذ وتغليب أهواء التعدي والتجاوز، لكل ما يسمى فطرة ومسلمات، عن طريق استعارة مصطلحات ومسميات، غربية أو شرقية، لا تشبه ما ينتجه منهجنا الحق، انطلاقا مما توجهٌه لغتنا العربية، والنابعة من فطرة ما اوجدته إرادة السماء داخل ذواتنا وداخل مجتمعنا، والتي من سماتها البديهية، الحرية والعدالة، وكل ما ينتجه منهجنا الحق من قيم وأخلاق.
وهكذا، يتصدر قانون صراع الأضداد مناهج التفكر، التي تعكس صور ما يعمل ويذهب إليه اهل الحق، (قوى الثورة اللبنانية) نحو تحقيق الوجه الايماني منه، اي ما يمثٌل تحقيق أدنى الحقوق الإنسانية التي تحفظ الكرامة، بينما يتجه اهل الشر والضلال (المنظومة السياسية)، إلى تبرير وجودها المتسلط والناهب للثروات العامة، مختبئة خلف مصطلحات الأكثرية والديموقراطية، غير ابهة لما ينتجه الجهل والغباء.
.. وهذا ما تتلمسه خلال الممارسات العملية، بين هذين الطرفين، حيث نرى الفعل وردات الفعل، حيث الساحات تشهد لقوى الثورة، رقي الموقف وسمو التحركات، مع دقة الملاحظة في تطبيق منهجها الفكري الناضج، حيث هبط ما يقابله من منهج تفكير الاستخفاف واللامبالاة، اضف الى أسلوب التجبٌر والاستعلاء، وهذا تأكيد لمنهج التجاهل والتضليل والاستغباء، وكان حقوق ذلك الشعب، وعلو صراخه، وأمين وجعه، لهو يحيا خارج عالم تلك المنظومة السياسية، وإذا شعروا بوجودهم، الى حين، فينظرون إليهم كعبيد ملزمين أتباعهم، اضف الى أنهم مبرر لوجود زعامتهم.
يعتمد منهج تفكر اهل اغتصاب السلطة، نظريات ومبادئ غربية أو شرقية، وبشكلها المعلب، من أهمها، نظرية “صراع البقاء”، أو ما يسمى عمليا: “البقاء للاقوى”، يعني وجوب والتزام “القوة”، وهذا ما ذهب إليه البرغماتي النفعي، الذي يقوم أصلا على أن الغاية تبرر الوسيلة، ضاربين عرض الحائط ما حملته الشرائع السماوية عموماً، والنصّ القرآني بخاصة، التي تؤكد فطريتها في تحقيق العدالة الانسانية مع وجوب عدم الاعتداء، ثم الأخذ بضرورة اكتشاف الحقيقة، ثم تطبيق قوانينها ومبادئها التي هي السبيل إلى أصول السعادة والرفاه، والنموّ والتطور، مع الأخذ بما أقرته من اختلاف الرأي، إلى جانب حرية المعتقد، شرط تحقيق العدالة الانسانية، من خلال تطبيق وتنفيذ مبدأ: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
الله سبحانه يدفع عن قوم بقوم آخرين، إذ العمل الإصلاحي وتثبيت العدالة الانسانية، انما يتأتى جرٌاء نضال وتضحية فئة من رجال مصلحين، آخذين بحكمة الله وقوانينه، أما عكس ذلك، من مظالم وخراب، انما ينتج عمٌا تسببه تلك الفءة الباغية، تحقيقا لاهواءها ونزواتها، التي خرجت عن السويّ من قيم وأخلاق، وبهذا فلله الحكم والحكمة والحجة على خلقه، جرٌاء ما يمارسونه من أفعال واعمال. ومن الجهة المعاكسة، يتبين لنا أن معيار وجود اهل الحق والايمان، انما يتجسد فيما يسمى (التقوى)، استنادا الى قوله تعالى:
“يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، أن اكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير”. الحجرات/13. اضف الى حديث الرسول (ص): “لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى…”.
وهذا النصّ يبين أن دفع الناس بعضهم ببعض، وكذلك الاختلاف، إنما هي سنن إلهية فطرية، نذكر: “… ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين”. البقرة/151.
” الذين أخرجوا من ديارهم بغير الحق … ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع
وبيع وصلوات ومساجد …..” الحج /40.
“ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، …” آل عمران/105.
“وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ” يونس/19.
فالخير كل الخير في وجوب التزام النصوص السماوية وتطبيقها فعلا، عملا لا قولا، “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون… “وهكذا فالنصوص الإلهية تفرض وجود فئةر- فردا أو جماعة – أن تتصدى لكل أعمال النهب والتخريب والمظالم والأذى، كما وتفرض الأخذ على ايادي من يعملون بها، تنفيذا لمبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ومن يتمسك بالمناصب السلطوية ويتخلى عن كل قيم وفضائل، يصيبه عقابه تعالى عما اقترفت أفكاره ويداه من أعمال وأفعال ومواقف. فيا معشر اهل السلطة والنفوذ، عودوا الى ربكم وخافوا عقابه آخذين بسننه تعالى.
لقد فشل منهج تفكر المنظومة السياسية اللبنانية، – اسالوها الحرب الأهلية – كونها تبني جلّ نشاطها النظري والعملي، على وجودها الطفيلي، الذي توالد نتيجة منهج لأفكار لا تشبه فكر مجتمعاتنا اللبنانية العربية، حيث انحصر شغلها الشاغل في إقحام جماهيرها البريئة داخل دوًامة من المناظرات والجدل، كي تظهر مدى تفوقها على جماهيرها، “اي تظهر حاجة الجماهير إليها”، على الرغم من أن العكس هو الصحيح، لأن تلك المنظومة السياسية، انما تتجه بجدلها العقيم وأساليبه الملتوية، باعتماد ألفاظ فارغة تحوم حول موضوعات واهية، شاءكة مضللة، متناقضة بل معدومة الحلول، في حين تزج جماهيرها الشعبية داخل اتون العوز والآلام، فها هم (الجماهير)، ينادون بعيش كريم مع ضرورة تأمين عمل شريف، يؤمن حاجات الأسر، أطفال وعجائز، بأدنى الحقوق، اضافة الى استمرار العمل في تحقيق مصير بلادنا لبنان، من حرية وسيادة، تعمها عدالة انسانية. لقد تجلى هدف المنظومة السياسية اللبنانية، رغم ما تكسبه من منافع خاصة، إلى الذهاب للسيطرة على الطبيعة واخضاعها لاغراضهم العملية، غير ابهين لما ينعكس من موت للحياة الاجتماعية والاقتصادية، فحولت شعبنا اللبناني إلى موت إلى عدم، فافتقد اقل مقومات الحياة، وهذه الحالة، أنتجت وولدت، انتفاضة شعبية وثورة وطنية، ممزقة نسيج الخوف، دافنة كل المعتقدات العصبية التعصبية، منطلقة نحو أفق الحرية والاستقلال ،نحو منارة السيادة الوطنية.
هنا ننطلق من دلالة من أجل البيان والتوضيح، نذهب الى الدلالة اللفظية لكلمة (العقل) هذه الكلمة التي تعتبر الأقوى ارتباطا بكلمة (الله)، من حيث انها تحمل سمة النعمة الكبرى التي كرّم الله بها الإنسان على ممن خلق، كما وأن من خلالها يمكن للإنسان، الكاءن المخلوق، العالِم الحكيم، الاستدلال على وجودية الخالق، انطلاقا من تدبر آياته تعالى جرّاء النظر السليم الدقيق، فيما يحيط به من واقع متحرك، محكم، إلى ما تنتهي إليه قدراته الفكرية السويّة نحو دلالة حسّية، للحركة والرؤية والاستهداء.
الفعل (عَقَلَ)، يعني قدرة الإنسان للإمساك بفكره السليم، وسيطرته على بصيرته اليقظة، متأثر بما يحيط به من واقع متحرك، هذا الفعل يمكنه من استكشاف الحقيقة وتميزها، ثم التزوّد بالمعرفة الحقة، من أجل بيان ظواهر السنن والقوانين العلمية المتعلقة بما يدور حوله، ثم إدراكها. هذا يعني صدق تعقلها، اي صدق الإمساك الذهني بها، كي يسجلها في وعيه وفي حافظته، حتى يهتدي إلى السّوي من مناهج تفكيره مع الوضوح إلى طرق أساليبه. هذه هي صدقية التعقّل، التي تدلل على وحدة العقل السوي بفطرته، المحصنة بكمالها، اليقظة ببصيرتها، هذا الذي يدفع العقل لتحقيق الغاية الإنسانية، من ازدهار ورخاء وتقدم وعمران.
أن المعرفة العقلية هي المعرفة الحقة، من حيث انها تحمل مبادئ فطرية سابقة عن كل تجربة، لأنها موصوفة بخصال ثلاث هي: اولا، انها معرفة مطلقة، اي ثابتة لا تتبدل ولا تتغير. ثانيا، انها ضرورية، اي تفرض نفسها بشكل واضح وحتمي. ثالثا، انها كلية،اي عامة ومشتركة بين جميع الناس. وعليه فالمعرفة العقلية انما تمثل نموذجا للمعرفة الإيمانية اليقينية التي انتجها صدق التعقّل.
وهكذا، إن غاية المعرفة الحقة التي يطلبها الإنسان العاقل، انما تتجسد بالكشف عن الحقيقة التي هي وحدة كاملة غير قابلة للتجزئة، بل يستحيل، كما أنها ليست معطى جاهز نهائي، انما هي عملية داءمة التشكل وباستمرار، لذلك يجب النظر إليها من خلال نموّها وتطورها، باعتبارها مظهر من مظاهر علاقة الإنسان بنفسه، بأخيه الانسان، بالعالم الخارجي، بخالقه العظيم، هذه العلائق انما تنتج ديمومة من سلاسل التكيّف التي لا تنقطع إلا بانقطاع الحياة.
هذا التكيف، ما هو الا حركة دورية مسترسلة، على أن يتم تشكلها جراء وجود عنصرين أساسيين، هما: الاستيعاب، ثم التوافق أو التلاؤم، والذي يتشكّل من خلالهما مجال فاعلية الإنسان العادل، جراء تعامله وتفاعله مع الطرف الآخر، أو ما يقابله كضدّ.