تقديم وعرض لمقالة الدكتور عبد الحسين شعبان.. “يساريتنا الطفولية من بغداد إلى بكين.. الآيديولوجيا والواقع”.. الجزء “1”..

“المدارنت”..
تمثل مقالة الدكتور عبد الحسين شعبان مراجعة مهمة من باحث ومناضل يساري لمسار الشيوعية في منطقتنا، ومن قضايانا، ومن التحولات والانقسامات في المعسكر الشيوعي، والحركة الشيوعية العالمية، والذي تميز بموقف “طفولي” كما يصفه عبد الحسين، أو بموقف “التبعية” لموسكو كما هو على الحقيقة، والتبعية موقف طفولي لأنها تعبير عن مرحلة ما قبل النضج، لكن في حركة الأحزاب والقوى السياسية خصوصا في منطقة كانت تموج بالأحداث والصراعات فإن صفة “الطفولية” لا تكفي لتقرير وتقييم ذلك الموقف، ولما خلفه، أو يخلفه من آثار شديدة الخطورة على حركة المجتمع وقواه المختلفة حيث يمارس هذا الحزب أو ذلك طفولته.
الدكتور شعبان الشيوعي العراقي السابق، والماركسي برؤية جديدة، اتخذ موقف النقد من الماركسية في أوجهها التطبيقية السوفياتية والصينية، وسياساتها الداخلية والدولية، كما انتقد فكر ماركس ذاته واصفا بعض أوجه هذا الفكر مثل موقفه من الدين باعتباره موقفا طوباويا، وفي إصداراته الفكرية فإن كتابه “تحطيم المرايا ـ في الماركسية الاختلاف”، (الدار العربية للعلوم ومنشورات الاحتلاف بيروت ـ الجزائر 2009)، وكتابه المتصل “الحبر الأسود والحبر الأحمر .. من ماركس إلى الماركسية” (مركز حامورابي 2013). يتضمنان أوجه النقد المتعددة للماركسية تطبيقا وفكرا، مع الاحتفاظ بدعوته إلى اتخاذ الماركسية كأداة معرفية لفهم الواقع وللتغيير.
المقالة التي بين يدينا والتي نشرت في موقع “أخبار العراق” و “شبكة النبأ الإخبارية” اليوم تحت عنوان “يساريتنا الطفولية من بغداد إلى بكين: الآيديولوجيا والواقع” تنتمي إلى هذا المزيج من المراجعة والنقد والاسترجاع، وهي مهمة جدا ـ كما الكتابين المشار إليهما ـ في التعرف إلى هذا النموذج من المراجعات، والتي تتضمن فيما تتضمن استرجاع زمن مضى كانت تموج فيه حركة نهضة عربية فكرية واجتماعية وعلمية، حركة بناء وطني وقومي، كانت بكل المعايير حركة مبشرة، وقد كان لمثل هذه “الطفولية” دور في إجهاضها.
ورغم أهمية التحولات التي شهدها عدد من الأحزاب الشيوعية العربية ومنها الحزب الشيوعي السوداني، ولاحقا الحزب الشيوعي السوري، وكانت في اتجاه تجديد رؤية الشيوعيين العرب للماركسية، لشعاراتها وتحليلاتها، ولموقفهم من حركة الثورة العربية التي كان يقودها ويعبر عنها جمال عبد الناصر،وللمسائل النظرية والسياسية التي طرحتها هذه الحركة وقيادتها، فإن من اللافت أن الدكتور عبد الحسين لم يأت على ذكرها ولو من باب الإشارة إلى هذا الحراك، وكان ذلك ضروريا ما دام الحديث جار عن التحولات في الحركة والفكر الماركسي عالميا وإقليميا، وعلى المستوى العربي.
كذلك فإن حديث الدكتور عبد الحسين عن الصين في مسارها الأول، وعن الصين في مسارها الراهن، وعن علاقاتها مع العرب، ومع الكيان الصهيوني، والذي يرصد ما أصاب هذه العلاقات من تحول، يأتي بشكل متعجل ليستخلص من من هذا المسار خلاصات تفتقد للتماسك، وبالتالي تختلف عن السياق العام الذي أخذ به نفسه في هذا المقال، إذ يغيب عن هذه الخلاصات جانب مسؤولية “النظام العربي المفترض” عن هذا التحول الصيني، ولا أظن أن الصين التي ناصرت دائما الحق الفلسطيني هي اليوم أقرب إلى الكيان الصهيوني من عموم النظام العربي،”المتضمن السلطة الفلسطينية ” الذي لم يعد يبتعد عن المنظور الأمريكي نفسه لهذا الكيان.
كثيرة هي الموضوعات التي يثيرها المقال، أو التي يستدعيها من ذاكرة القارئ، ولا تجد لها مكانا في ثناياه، لكن هذا أمرا طبيعيا لأن محتوى المقال شأن خاص بالكاتب، وما نشير إلى غيابه إنما يخص رؤيتنا نحن، أي ما نعتقد أنه كان يجب أن يكون في مراجعة من هذا القبيل، ولم يكن.
مقالة د. عبد الحسين شعبان:
“يساريتنا الطفولية من بغداد إلى بكين: الآيديولوجيا والواقع”
في غمرة الصراع القومي- الشيوعي في العراق بعد ثورة 14 يوليو (تموز) العام 1958 وما أعقبها، سادت النزعات الإقصائية والإلغائية وهيمن الخطاب العاطفي والشحن العدائي والرغبة في التسيّد وفرض الاستتباع على الآخر، في حين غاب خطاب العقل والعقلانية والاعتراف بالتنوّع والتعددية. وهكذا تصدّعت الوحدة الوطنية المجتمعية بفعل الخلافات السياسية، بعد أن كانت متينة وقوية في مواجهة النظام الملكي، وانقسم المجتمع بين موالاة ومعارضة، الأولى تمجّد الحاكم الجديد وتتغنّى بالزعيم الأوحد والثانية تندّد به، بل وتعتبره أكثر سوءًا من العهد الذي سبقه.
وبسرعة خارقة وبغفلة من الزمن تحوّل حلفاء الأمس إلى خصوم وأعداء متناحرين في الأزقة والحارات والساحات والمدارس والكليات والدوائر الحكومية والثكنات العسكرية، وأحياناً في العائلة الواحدة والبيت الواحد، وكان كل طرف يتشبّث بمواقفه ويزداد تمترساً بمواقعه ويدّعي أفضلياته، بل وامتلاكه للحقيقة لاغياً كل إيجابية أو دور للآخر، محاولاً عزله واستعداء الشارع عليه.
ففي حين كان القوميون يردّدون شعارات مدوّية مثل: “فلسطين عربية، فلتسقط الشيوعية” بعد أن كان الشعار فلتسقط الصهيونية و”وحدة وحدة فورية… لا شرقية ولا غربية…”،وترتفع الشعارات المندّدة بالشعوبية، كان الشيوعيون، ولاسيّما في المهرجانات الكبيرة التي أقاموها يرفعون شعار: اتحاد فيدرالي… صداقة سوفييتية… ومع الصين الشعبية، و”عاش السلام العالمي هو وحماماته… يسقط الاستعمار هو وعصاباته” وأتذكّر إحدى اللافتات التي ظلّت عالقة بذهني طيلة أكثر من ستة عقود من الزمن، وهي التي كُتب عليها ” تايوان جزء لا يتجزأ من البرّ الصيني “، وكنت أشعر بالحيرة فما علاقتنا بمثل تلك الشعارات الغريبة، خصوصاً لمن كان بعمري وفي بدايات وعيه الأول؟
وأستطيع القول اليوم بقراءة ارتجاعية للماضي، أن تلك الشعارات والتناحرات كانت تعبّر عن قلّة وعي القيادات والنخب السياسية، التي بدت ناضجة حين قررت التعاون في إطار “جبهة الاتحاد الوطني” التي هيّأت للثورة ولكنها حسبما يبدو فوجئت بنتائجها، لاسيّما في اندفاع حشود شعبية للمشاركة في عالم السياسة، بل وفي طرح الشعارات أحياناً وبلورة التوجهات، ساحبة القيادات خلفها، بدلاً من أن تسير هذه الأخيرة أمامها.
وإذا كانت الحركة الوطنية بأطرافها المختلفة تُحسن المعارضة، لكنها لم تُحسن إدارة التنوّع والصراع في الوضع الجديد، خصوصاً بالزخم الشعبي الذي انفتح على الأحزاب والحياة العامة، فوقعت كل الأطراف صرعى قصر نظرها وذاتيتها، وكان ذلك على حساب تطوّر البلاد نحو التنمية والاستقرار والحياة المدنية الدستورية، ولعلّ مثل تلك الاندفاعات والشطحات والانزلاقات كانت تتعاظم لدى جميع القوى، الأمر الذي يعكس ضعف الشعور بالمسؤولية الوطنية من جهة، ومن جهة أخرى الاغتراب عن الواقع الحقيقي والابتعاد عن الهموم اليومية للناس، خصوصاً وأن الصراع القائم في إحدى تجلّياته كان انعكاساً للصراع الأيديولوجي الدولي والإقليمي، لاسيّما الواقع تحت تأثيرات موسكو من جهة والقاهرة من جهة أخرى، فضلاً عن التداخلات المباشرة وغير المباشرة للقوى الامبريالية التي حاولت تسخين الصراع بصبّ الزيت على النار بأساليب الدعاية السوداء وعمليات التضليل والقوة الناعمة والوسائل الثقافية والحرب النفسية.
واللافت للمراقب والباحث أن ليس ثمّة ما يتصدّر تلك الشعارات والاحترابات، ولاسيّما الشرارات الأولى التي فجّرت الصراع من مشكلات عراقية مباشرة تتعلّق بأهداف الثورة ومبادئ جبهة الاتحاد الوطني التي تشكّلت في العام 1957 واختيار طريق التنمية والانتقال بالبلاد إلى إجراء انتخابات في ظل دستور دائم بتحديد فترة الانتقال، وكان دور العسكر في الهيمنة على مقاليد الأمور يتعزّز باحتراب الأحزاب الوطنية، التي فقدت بوصلتها، وإنْ ظلّ البعض متمسّكاً، لكن مثل ذلك كان على نحو محدود وضاع في زحمة الصخب السياسي والديماغوجيا الدعائية ومحاولات تأثيم الآخر وتحريمه وتجريمه وإدعاء امتلاك الحقيقة والأفضليات، ناهيك عن مسعى احتكار العمل السياسي والنقابي والسيطرة على الشارع بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
في بكين: استذكارات ومراجعات نقدية
لا أدري كيف خطرت ببالي تلك الاستذكارات والاستعادات المصحوبة بمراجعات أولية نقدية وأنا في الصين ضمن وفد عربي رفيع المستوى لشخصيات فكرية وثقافية وممارسين سياسيين سابقين في إطار دعوة من معهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية للمشاركة في الحوار العربي – الصيني ،علماً بأن المعهد يقع على عاتقه تقديم أفكار ورؤى وتصوّرات بخصوص السياسة الخارجية الصينية لأعلى مراتب الدولة والحزب الشيوعي الصيني، وضمّ الوفد شخصيات من اليمن (رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم الإيرياني) ومن الأردن (الوزيران السابقان سمير الحباشنة وجواد العناني ) ومن المغرب (السفير علي أومليل) ومن مصر سفيرها السابق في الصين (محمد نعمان جلال) ومن الكويت أول رئيس لمجلس التعاون الخليجي (عبدالله بشارة) ومن الإمارات العربية المتحدة رئيس المعهد الدبلوماسي (السفير يوسف الحسن) ومن فلسطين المفكر والباحث الأكاديمي (محمد عبد العزيز ربيع) ومن العراق (كاتب السطور).
ومع أنني قدّمت بحثاً بشأن ” الفلسفة التاوية- الصينية وصنوها الفلسفة الصوفية العربية – الإسلامية”، أثار اهتماماً صينياً كبيراً وتم نشره باللغة الصينية، كما تم نشره في أكثر من مجال في العالم العربي والعراق، إلّا أن معظم جوانب الحوار ركّزت على ما هو راهني وسياسي أكثر مما هو فلسفي وتاريخي، ولم يأخذ الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتاريخي والعلمي والتكنولوجي الأهمية التي يستحقها، حيث انصبّت معظم المناقشات من جانب الوفد العربي مع الجانب الصيني على طبيعة العلاقات التي بدأت بعض خيوطها تنسجُ مع نجاح الثورة الصينية في العام 1949 وهي الثورة التي عرفت بـ”مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة”، فضلاً عن تأثّر اليسار العربي أو بعض أجنحته بأطروحاتها، ولاسيّما تقسيم المجتمع إلى أربع طبقات وهي الفكرة التي نظّر لها ماوتسي تونغ، والتي وجد فيها بعض الشيوعيين واليساريين أقرب إلى مجتمعاتنا من التقسيم الطبقي الكلاسيكي: برجوازية وبروليتاريا أي عمال ومالكين أو مستغلين وأجراء.
لقد حاول الشيوعيون بشكل خاص واليساريون بشكل عام في تلك الفترة على أقل تقدير “أسطرة” أو “عبقرة” الزعيم الصيني ماوتسي تونغ ونظرنا إليه بخيلاء وفخر، فهو فيلسوف وشاعر وقائد وثوري ورائد ومفكر ومعلّم ومُلهم، تتحرّك الملايين لمجرد أن يرفع يده في ظل نظام طاعة عمياء كنّا معجبين به أيّما إعجاب، وتلك واحدة من مساوئ الأفكار الشمولية والأنظمة التي تتأسس عليها والتي اقترنت باسم ” الاشتراكية المطبقة” والتي كانت قد غرقت فيها التيارات القومية والإسلامية لاحقاً، ولعلّ كل فكر منغلق سيقود إلى الدكتاتورية شئنا أم أبينا، وتعكس جميع التجارب الكونية بطبعتها الماركسية أو القومية أو الإسلامية تلك الحقيقة بوضوح شديد.
وعلى الرغم من قراءتي النقدية لتلك المرحلة وما تركته من عذابات كبيرة على الشعب الصيني ، لكنني وقفت أمام ضريح ماوتسي تونغ في المكان المهيب الذي يقبع به في ساحة تيان أنميمن أو ” ميدان السماء” الذي يقع في وسط بكين والذي تبلغ مساحته 440 الف متر مربع، وقد شهد بين 15 أبريل (نيسان) و4 يونيو (حزيران) العام 1989 تظاهرات واحتجاجات مطالبة بالإصلاح والديمقراطية سقط فيها بضعة آلاف من الضحايا، أقول نعم وقفت بكل دهشة وذهول أمام حشود الذين كانوا يتوافدون لزيارة ضريحه بغض النظر عن ما ارتبط باسمه من انتهاكات ومجازر وتدمير الآثار والمواقع الثقافية والدينية ، خصوصاً في فترة الثورة الثقافية (1965-1976) .
وقد اشتهرت الآيديولوجية الاشتراكية بطبعتها الصينية التي حاولت تطبيقها في السياسة والاقتصاد والاستراتيجيات العسكرية التي اتبعها ما بات يُعرف بالماوية أو “تصيين الماركسية”، مثلما عُرفت الطبعة السوفيتيية بـ “لنينة الماركسية”، نسبة إلى لينين، والتي أطلق عليها ” اللينينية” وعمّم السوفييت لاحقاً هذا المصطلح لتصبح المادية الجدلية “بالماركسية اللينينية” حيث أضيف اسم لينين إلى اسم ماركس الذي مثل الحلقة الذهبية الأولى للمادية الجدلية، والطبعتان تم استنساخهما كبراديغم “نموذج” من جانب أحزاب وقوى شيوعية ومن بعض تجارب حركة التحرر الوطني.
وكانت معظم وجهات النظر العربية في الحوار العربي- الصيني تحاول الضغط على الجانب الصيني، الذي ضمّ خبراء على درجة عالية من الخبرة والمعرفة ليس في شؤون العلاقات الدولية فحسب، بل في ظروف كل بلد عربي وظروف المنطقة بشكل عام، وبالصراع العربي- الإسرائيلي بشكل خاص وقسم غير قليل منهم تخرّج من جامعات عربية واكتشفت أن مدير وكالة شينخوا السابق كان قد تخرّج من كلية الآداب قسم اللغة العربية (جامعة بغداد)، وحدّثني كيف أنه كان يستذوق “العرق العراقي” (المسيّح والعصرية) ومازات الباقلاء واللبلبي والجاجيك، وكانت غالبية المشاركين من الجانب الصيني يعرفون اللغة العربية.
هل الصين دولة عظمى؟
وأفاض أعضاء الوفد العربي في إطروحات حول جدوى وفاعلية التعاون العربي- الصيني ومزاياه وفوائده، وذهب بعضنا أكثر من ذلك إلى القول أن على الصين أن تملأ الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفييتي، بل عليها دعم الشعب العربي الفلسطيني باعتبار قضيته تمثّل قضية العرب المركزية، وأن المستقبل هو للعلاقة مع العرب وغير ذلك من الأطروحات، حول الجدوى الاقتصادية والفوائد التجارية ، إضافة إلى التذكير بالعلاقات التاريخية.
وكان رأي الصينيين وكأنهم يتحدثون بلسان واحد هو: أننا “دولة نامية” ولسنا “دولة عظمى”، وأن لدينا مشاكلنا، فهناك أكثر من 150 مليون إنسان دون خط الفقر، ثم إننا لا نريد أن نلعب دوراً آيديولوجياً، فنحن غير قادرين عليه، بل لا نفضله ولا نرغب فيه، ولا نريد السير في سباق التسلّح المدمّر، ونريد التجارة مع الجميع، وبالقدر الذي نؤيد حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية، فإننا مع حلّ الدولتين ومع قرارات الأمم المتحدة، ونتعامل مع الطرفين، وإنْ كان لنا علاقة متميزة وخصوصية مع م. ت.ف. والسلطة الوطنية الفلسطينية، لكننا نحرص على العلاقة مع “إسرائيل” أيضاً، وباعتقادهم أن هذه العلاقة قد تساعد على التوصل إلى حلّ سلمي مُرضي للطرفين.
ولم يكن الجواب مقنعاً لغالبية الشخصيات العربية حتى أن بعضهم تناوب على الكلام أكثر من مرّة لشرح وجهات النظر العربية، ولكن الصينيين كانوا يردّونه مرّة أخرى بذات المنهجية، مؤكدين أن من الخطأ مقارنتهم بالولايات المتحدة أو بالاتحاد الأوروبي أو حتى بالاتحاد السوفييتي السابق، وإذا كانوا قد حققوا آنذاك قفزة اقتصادية بُعيد رحيل الزعيم الصيني ماوتسي تونغ وانتهاء الثورة الثقافية فإنهم لا يرغبون تبديدها على سباق التسلح والصراع الآيديولوجي، وهم ما زالوا لم يدخلوا ” نادي الكبار” ، بل ويضعون أنفسهم في “منتدى دول عدم الانحياز”. وقد يكون الأمر تواضعاً من جهة ومن جهة أخرى تخلصاً من التزامات الدول الكبرى إزاء الغير.
قراءات وانطباعات
كنت قد قرأت في أواخر سنوات الخمسينات والستينات بعض ما كتبه ماوتسي تونغ وليوشاوشي بشأن حرب التحرير والثورة الصينية وبعض الإطروحات التي تتعلّق بالحزب، (وهي عبارة عن كراريس وكُتيبات نشرت في العام 1959 وما بعده) وما زاد اهتمامي بالصين في فترة لاحقة هو صداقتي لثلاث شخصيات ذات مكانة ثقافية وفنية وإن كان في فترات متفاوتة، فقد سمعت منها آراءً ووجهات نظر وملاحظات أثارت فضولي أكثر بكثير مما كنتُ أعرفه ، أولها – الشاعر كاظم السماوي، وثانيها- الباحث والمفكر التراثي هادي العلوي،لاسيّما كتابيه ” المستطرف الصيني” وقبله “كتاب التاو” وثالثها- الفنان رافع الناصري الذي درس الغرافيك في الأكاديمية المركزية في بكين وأقام معارضة في هونغ كونغ في العام 1963 وأصدر كتاباً بعنوان ” رحلتي إلى الصين ” وقد أهداني إياه قبل وفاته العام 2013 ، وجميعهم عاشوا في الصين وتعمّقوا في تجربتها الفكرية والفلسفية والسياسية والفنية، وعاصر هؤلاء فترات مختلفة من حياة الصين في ظل حكم ماو تسي تونغ.
وكنت قد أدرت حوارات مع القيادي الشيوعي عامر عبدالله عن زيارته الصين ولقائه مع ماوتسي تونغ العام 1975 وتأثّره بالتجربة الصينية المعاصرة وبفلسفتها القديمة، وسألته عمّا قيل عن أننا بين عامي 1958 و 1960 لم نحسم موقفنا من الخلاف الصيني – السوفييتي، وكنت قد قرأت كتاباً للدكتور فيصل السامر (وزير الإرشاد الأسبق في العراق) والموسوم “الأصول التاريخية للحضارة العربية- الإسلامية في الشرق الأقصى” مثلما اطلعت في وقت لاحق على بعض ما كتبه الشيخ العلامة جلال الدين الحنفي والشيخ محمد حسن الصوري (صاحب جريدة الحضارة) عن الصين، وكان قد درّسا اللغة العربية في بكين في ستينات القرن الماضي،
كما تابعت ما كتبه عبد المعين الملوّح الذي قام بترجمة كتاب “تاريخ الشعر الصيني المعاصر” وفؤاد محمد شبل وكتابه ” حكمة الصين”، وهو دراسة تحليلية لمعالم الفكر الصيني منذ أقدم العصور ولعلّ الكتابات الأولى ، التي اطلعت عليها رغم ما فيها من عنصر الإبهار إلّا أنها لا تسرّ كثيراً لشاب مثلي يتطلّع إلى الحداثة وتتكوّن لديه إرهاصات تساؤلية أكثر فأكثر خلال احتدام الخلاف الصيني- السوفييتي .
ظلّ السماوي والعلوي يقيّمان إيجابياً ما حققه ماوتسي تونغ ويعتبران فترته “ذهبية” لما حصل بعده في إطار نظرة كلاسيكية للماركسية ذاتها، لاسيّما ما يتعلّق بالرؤية الخاصة بالتطبيقات المبالغة في التشدّد والقسوة لعملية التغيير، التي اتبعتها ، مثلما ينظران بعدم ارتياح لسياسات الانفتاح الجديدة، وأحياناً يضعان علامات استفهام حولها.
البراديغم الماوي والستاليني
لعلّ مثل تلك الممارسات التي سادت في الصين والبراديغم Paradigm (النموذج الفكري) الذي اعتمده أثار تساؤلات كبيرة وعميقة عن مدى علاقته بالمادية الجدلية وطورها الذهبي الأول والمقصود أفكار ماركس ورفيقه إنجلز، وهل هناك ” ماركسية” أخرى ، إذا كانت المادية الجدلية قد ظلّت في المتحف وكان أتباع كل ماركسية يتندّرون على الماركسية الأخرى، فهذه الماركسية الصينية مثل البضاعة الصينية أيام زمان، أي المقلّدة أو غير الأصلية ، حتى أصبح الحديث عنها أقرب إلى ” ماركسية من صنع الصين” Made in China.
ومقابل ذلك هناك وجه آخر لممارسات مماثلة كانت تمثّل النموذج الأول على المستوى العالمي، وهي تلك التي جرت في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى من “تجارب الأصل” التي انتقلت عدواها إلى ” تجارب الفرع” في البلدان النامية والعديد من تجارب العالم الثالث وحركات التحرر الوطني بما فيها التجارب العربية، حيث ساد النموذج الشمولي ” التوتاليتاري” الستاليني ، دون النظر في عيوبه التي شوّهت المجتمعات والشعوب وأحدثت تصدّعات نفسية في شخصية الفرد لدرجة مريعة.
وإذا طالت التندرات التجربة الصينية في ظل الخلاف الصيني – السوفييتي ، فثمة تندّرات صينية للبراديغم السوفييتي، حيث كانت تسخر من ” اشتراكية الكولاج” وهي أكلة شعبية مجرية مشهورة جاءت في خطاب نيكيتا خروشوف الزعيم السوفييتي الذي خاطب المجريين: أنتم بفضل الاشتراكية تأكلون الكولاج، وذلك بعد مجازر قمع حركة الاحتجاج المجرية الهنغارية ، بالدبابات السوفييتية العام 1956.
والبراديغم كمصطلح استخدم لأول مرة من المفكر الأمريكي توماس هان (1922-1996) المختص بالتاريخ وفلسفة العلوم، وهو يعني مجموعة قوانين وتقنيات وأدوات مرتبطة بنظرية معينة ومسترشدة بها، بهدف تطبيقها بجميع الوسائل على الواقع الاجتماعي، وهو ما حاولت النماذج الاشتراكية اعتماده وتطبيقه لإحداث التغيير المنشود دون مراعاة للوسائل المستخدمة.
هوسٌ ثوري وعمى ألوان
كان الهوس الثوري في أواسط الستينات على أشدّه في العراق والعالم العربي بعد هزائم ومرارات وتصدعات فكرية وسياسية، لاسيّما بعد صدمة 5 يونيو (حزيران) العام 1967، وكقاعدة عامة، وإن كان هناك استثناءات، ففي كل انكسار أو تراجع أو عزلة وابتعاد واحتجاز تتصاعد الموجة المتطرّفة ويزداد التعصّب ووليده التطرّف، وهكذا بدأنا نعيد قراءة كتابات ماوتسي تونغ، لاسيّما بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 الدموي والخسائر والانكسارات التي مُنينا بها، وكان المركز الثقافي الصيني في بغداد يقوم بتوزيع الكراريس والأدبيات الملوّنة والمطبوعة بأناقة تثير الإعجاب، إضافة إلى ” الكتاب الأحمر”.
لم أتأثّر إلّا قليلاً بتلك الأطروحات، لأن ميلي بشكل عام كان يحمل بذرة لا عنفية ، ولذلك فإن شعارات مثل ” الإمبريالية نمر من ورق” و” كل شيء ينبت من فوهة البندقية” لم تكن مقنعة لي، وأنا أقرأ وأتابع ما كان يجري في العالم، حتى وإن كانت بوادر هزيمة الولايات المتحدة في فييتنام وانتصار حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كنغ، ونجاحات بعض حركات التحرر الوطني وإحراز العديد من شعوب آسيا وأفريقيا استقلالها، لكن بالمقابل هناك موجة من الارتدادات شهدتها الكتلة الاشتراكية أخذت تتكشّف على الرغم من أجواء التكتم والستار الحديدي المفروض عليها لقطعها عن العالم الخارجي وإن كنّا لا نراها أحياناً أو نعتبرها مجرد دعاية سوداء ومغرضة من جانب القوى الإمبريالية، فقد كانت الإصابات بعمى الألوان بالغة وشديدة.
ولعلّ أهم الأحداث: انتفاضة برلين (1953) – المانيا الديمقراطية، حيث أضرب عمّال البناء احتجاجاً على زيادة ساعات العمل فتحوّلت انتفاضتهم إلى احتجاج سياسي ضد الستالينية وصنيعتها حكومتهم، بسبب الأوضاع المعاشية التي عبّروا عنها بأنها لا تطاق وقد انضم إليهم طلاب وشباب ومزارعون وقد تواصلت حركة الاحتجاج في عموم “ألمانيا الديمقراطية” على نحو متفاوت، الأمر الذي جوبه بالقمع وبتقديم عدد من المشاركين إلى محاكمات دريسدن الشهيرة، ولعلّها كانت أولى حركات الاحتجاج الواسعة ضد الهيمنة السوفييتية، وقد اضطر السوفييت بعد ذلك وبسبب عمليات الهروب الجماعي من “نعيم” الاشتراكية إلى “جحيم” الرأسمالية إلى بناء جدار برلين 1961 والذي تم هدمه 1989، وكان إيذاناً بانهيار الكتلة الاشتراكية.
كما كانت احتجاجات بوزنان العمالية – بولونيا (1956)، هي الأخرى تحدياً جديداً لنظام يزعم أنه يدافع عن مصالح العمال، حيث تظاهر العمال مطالبين بظروف عمل أفضل وتم قمعهم بشكل وحشي بالدبابات، وكان عدد القتلى بالعشرات، وهو ما استمعت إليه في العام 2014 بشكل مفصّل خلال دعوتي لإلقاء محاضرة في جامعة بوزنان .
أما انتفاضة المجر – هنغاريا فقد قادت إلى تدخل عسكري سوفييتي صارخ (1956) وقد دامت من 23 تشرين الأول (أكتوبر ) ولغاية 4 تشرين الثاني (نوفمبر) احتجاجاً على سوء الأوضاع الاقتصادية، فتم قمعها بوحشية، وسقط عشرات الآلاف من المحتجّين خلال المواجهات الدامية وفي الإعدامات التي طالت لاحقاً عدداً منهم بمن فيهم بعض قادة الحزب الهنغاري (الشيوعي) وفي مقدمتهم الأمين العام أمري ناج الذي لجأ إلى السفارة اليوغسلافية ، لكنه سلّم نفسه لاحقاً وأعدم بعد سنتين بتهمة ” الخيانة العظمى”.
نجدة أممية ولكن بالمقلوب
وجاء ربيع براغ باجتياح دبابات حلف وارشو البلاد (1968) للقضاء على حركة وليدة مطالبة بالإصلاح وبإضفاء وجه إنساني على الاشتراكية وإعطائها بُعداً ديمقراطياً، وهو ما كان يدعو له الكسندر دوبتشيك الأمين العام للحزب الشيوعي والذي أقصي من منصبه وعُزل من الحياة العامة عقوبة له ، لكنه عاد في العام 1989 ليصبح لاحقاً رئيساً للبرلمان بعد الإطاحة بالنظام الشيوعي، حيث أصبح فاتسلاف هافل رئيساً للبلاد.
وكنت قد توقفت عند ربيع براغ في أكثر من مناسبة ، حين قدّر لي زيارة تشيكوسلوفاكيا العام 1969 في الذهاب والإياب إلى بولونيا (كراكوف) لحضور اجتماع تحضيري لمناسبة ميلاد لينين، وقد شاهدت آثار ذلك وتلمّست مشاعر الناس في البلدين، وهو أدهشني كثيراً وأثار تساؤلات وحيرة في نفسي.
وأتذكّر أن الصديق لؤي أبو التمن كان قد أخبرني بعد زيارته لسفارة تشيكوسلوفاكيا إلى بغداد على رأس وفد لتهنئة المسؤولين على ” النجدة الأممية” والمقصود بذلك “التدخل السوفييتي”(21 آب/أغسطس/1968) لقمع ربيع براغ، إلّا أنه فوجئ بردّ عنيف من الدبلوماسيين التشيكوسلوفاكيين في بغداد، بأن هذا ليس سوى “احتلال” أو “تدخل” بالضد من إرادة الشعب التشيكوسلوفاكي، وبقينا لفترة نعلّق على ذلك ونتبادل أطراف الحديث بيننا مشكّكين في بعض الروايات الرسمية التي تصلنا من جانب الدعاية الاشتراكية وصداها دعايتنا وبعض مصادر معلوماتنا، وبقينا نثير الأسئلة التي يسميها البعض الشغب المستمر والاعتراض الدائم.
وكم أحرجنا حين أعلن الرئيس أحمد حسن البكر تأييده لخطوة “التدخل الأممي” وذلك بقوله ” المهم أن تبقى تشيكوسلوفاكيا اشتراكية” وهو تبرير استساغه من يريد الرد على بعض تململاتنا ، ناهيك عن الاحتجاجات التي ارتفعت لمثقفين كبار من فرنسا وإيطاليا وغيرها للتنديد بالتدخل السوفييتي لقمع ربيع براغ.
أما نشاط حركة تضامن (اتحاد نقابة العمال البولونية) لاحقاً في بولونيا في الثمانينات بقيادة ليخ فاليستيا فقد كانت الأطول عمراً والأكثر تأثيراً، حيث شهدت بولونيا اضرابات متكرّرة إلى أن تم تغيير النظام في العام 1989، وذلك عن طريق لا عنفي، ابتدأ في مدينة غدانسك ولم تنفع معها الإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة، حتى تم فرض إجراء انتخابات (شبه حرّة) وتشكيل حكومة ائتلافية بقيادة تضامن وهكذا انتصر ” فقه التواصل” على نزعات الانتقام والثأر، وهو ما حصل في هنغاريا أيضاً، في حين اتجهت ألمانيا الديمقراطية إلى ” فقه القطيعة” باتحادها لاحقاً بألمانيا الاتحادية.
========================