مقالات

جاسم علوان.. الرجل الذي كشف نفاق “البعث” وحاربه!

العقيد جاسم علوان

“المدارنت”..
“أحد الأسباب الأساسية لعودتي هو أن أقرأ الفاتحة على قبر والدتي”، بهذه الكلمات أنهى الضابط السابق في الجيش السوري جاسم علوان، الكهل الذي أبعد عن سوريا أكثر من 40 عاماً، مقابلته مع “قناة الجزيرة”، بعد عودته إلى سوريا إثر غيابه الطويل.
لن يصدق أحد أن هذه الكلمات، يمكن أن تخرج من صاحب الرقم القياسي في الانقلابات العسكرية التي قام بها جاسم علوان، بهدف إعادة الوحدة مع مصر، الانقلابات التي أفشلها الضباط “البعثيّون”، أصحاب شعار الوحدة العربية!
العقيد جاسم علوان، هو من مواليد دير الزور في العام 1926، نفي من سوريا في العام 1964، شارك في الحراك ضد الاستعمار الفرنسي، حيث شكل مع مجموعة من أبناء دير الزور لجنة طلابية كان أمينها العام، بعد أن أنهى دراسته الثانوية، التحق بالجيش السوري، وكان من ألمع الضباط السوريين، إذ اختير مع عشرة ضباط آخرين للذهاب إلى فلسطين، قبل تخرجه من الكلية العسكرية، وكان أول ملازم يصل إلى رتبة مرافق لرئيس الجمهورية.
لم ينتسب جاسم علوان، لأيّ حزب سياسي، بسبب التزامه بقواعد الخدمة في الجيش، على عكس معظم الضباط السوريين في فترة الخمسينات والستينات، حين تحوّل ضباط الجيش السوري إلى أذرع عسكرية للأحزاب السورية، لكنه كان متأثراً بالأفكار القومية والوحدوية، ولهذا كان من بين الضباط الـ24 الذين كتبوا المذكرة التي حملها الضباط السوريون، من أجل إقناع (القائد العربي الراحل) جمال عبد الناصر في منتصف الخمسينات بالوحدة.
رُشح في أواخر فترة الوحدة مع مصر من قبل المشير عبد الحكيم عامر، قائد جيش الجمهورية العربية المتحدة حينها، لقيادة جيش الإقليم الشمالي (سوريا)، لكن الانقلاب الذي قام به مجموعة من الضباط السوريين في 28 أيلول 1961 بقيادة عبد الكريم النحلاوي، والذي أنهى الوحدة، حال دون تسلمه قيادة الجيش السوري.
يمكن تلخيص تاريخ سوريا منذ استقلالها عن فرنسا، بأنه تاريخ من الانقلابات العسكرية، إذ إن عدد الانقلابات الفاشلة لوحدها يتجاوز 27 انقلاباً، في مقابل أقل من عشر انقلابات ناجحة أخرى.
بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالوحدة مع مصر، بدأت سلسلة جديدة من الانقلابات العسكرية، كانت ظروفها ودوافعها مختلفة تماماً عن الانقلابات التي تكررت مراراً في بداية الخمسينات، أولى هذه الانقلابات، كان بقيادة العقيد جاسم علوان في حلب، حيث عرفت الحركة الانقلابية التي قام بها حينها، باسم “عصيان حلب”، وذلك في 30 آذار عام 1962 وجاءت هذه الحركة رداً على الانفصال، إذ إن العقيد جاسم علوان، طالب عبر إذاعة حلب بإسقاط حكومة الانفصال، وإعادة الوحدة مع مصر، لكن الجيش تدخل ضدّه وحصلت اشتباكات، انتهت بالقضاء على محاولة الانقلاب، وتم اعتقال العقيد جاسم علوان مع معاونيه.
بعد الإفراج عنه بفترة بسيطة، لم يتوقف العقيد جاسم، إذ عاد ليقوم بانقلاب جديد، أو ما دعي بتمرّد جاسم علوان في الثالث من نيسان عام 1962 في حلب أيضاً، وشاركه في هذا الانقلاب العقيد لؤي الأتاسي، ونجح في هذه المرة بالسيطرة على مطار النيرب العسكري شرق حلب، وعلى القيادة العسكرية في حلب، ومحطة البث الإذاعي في سراقب، وبثت إذاعة حلب النشيد الوطني الذي كان زمن الوحدة، وهو نشيد الوحدة، وأعلنت الإذاعة أن مطار حلب الدولي مفتوح للطائرات المصرية، وطالب علوان الحكومة والرئيس بالاستقالة فوراً، وإعادة الوحدة مع مصر.
لكن الانقلاب، سرعان ما تمّ سحقه من قبل الجيش، بعد وقوع الكثير من الضحايا، وأعلن بعدها الرئيس ناظم القدسي في 14 نيسان عام 1962، عودة الجيش إلى ثكناته ووضع الميثاق الوطني، والحفاظ على المنجزات الاشتراكية، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة بشير العظمة، الإجراءات التي اعتبرت في حينها ترسيخاً نهائياً للانفصال.
بعد هذا الانقلاب، اختفى العقيد جاسم علوان، لمدة عام كامل، خوفاً من اعتقاله، ليعود للمشاركة في الانقلاب الذي أطاح بحكومة الانفصال في 8 آذار 1963، والذي قام به مجموعة من الضباط الوحدويين والبعثيّين والمستقلين، والذي كان من المفترض أن يتلوه إعادة الوحدة مع مصر، لكن الضباط البعثيّين قاموا بحملة من التسريحات في الجيش، شملت الكثير من الضباط الوحدويين والمستقلين، كان أشهرهم قائد انقلاب 8 آذار اللواء زياد الحريري، أثناء زيارته الى الجزائر، واللواء راشد قطيني رئيس أركان الجيش السوري.
بسبب هذه السياسة التي هدفت إلى إقصاء كل القياديّين غير البعثيّين من الجيش، عاد العقيد جاسم علوان، في 18 يوليو عام 1963، ليقوم بانقلاب جديد في وسط دمشق، كان هذا الانقلاب الأكثر دموية بين جميع الانقلابات التي سبقته، إذ إن حجم الإعدامات التي قام بها وزير الداخلية أمين الحافظ، بعد فشل الانقلاب، وسيطرة قيادات الجيش البعثية عليه، والتي استمرت لمدة عشرة أيام، تسبب بضجة في وسائل الإعلام والإذاعات العالمية، وهدأت الأمور بعد إلقاء القبض على العقيد جاسم علوان.
تلت عملية الانقلاب الفاشلة، عملية تسريح شملت الكثير من الضباط وصف الضباط من غير البعثيّين، بسبب هذه الإجراءات، قدم الفريق محمد الصوفي وزير الدفاع السوري استقالته، وبسبب عدم رضى الرئيس لؤي الأتاسي عن عمليات الإعدام والتسريح التي تمّت من دون موافقته، قام البعثيّون بالانقلاب عليه ليسلموا أمين الحافظ رئاسة الجمهورية.
ميزة هذا الانقلاب، هو أنه آخر انقلاب ضد البعثيّين من خارج البعثيّين، إذ تمّ بعدها تحويل الجيش السوري والدولة السورية إلى دولة بعثيّة، كذلك فهذا الانقلاب، تميز بالرد الدموي وعدد التسريحات الهائل في الجيش من قبل البعثيّين، ذلك أن العادة جرت في الانقلابات السابقة أن عقوبة قائد الانقلاب الفاشل تقتصر على نفيه في وظيفة ملحق عسكري في السفارة السورية في إحدى الدول البعيدة.
أظهر انقلاب جاسم علوان الأخير، مدى التناقض الذي يعيشه البعثيّون، إذ إن شعار الوحدة العربية لم يكن سوى غطاء للوصول إلى السلطة، فالاتهامات التي وجهت لمن قاموا بالانقلابات، كانت في منتهى السخافة، فمرة اتّهموهم عن طريق صحيفة “البعث” بالشعوبية، ومن ثم بالانفصالية وأحيانا بالماسونية!
كذلك تم القضاء على الحياة السياسة، وتحول السوريّون إلى متفرّجين على الانقلابات بين الضباط البعثيّين لحين وصول حافظ الأسد إلى رأس السلطة، عام 1970، ليحكم بعدها سوريا بإرهاب أجهزة الأمن، ليتبعه ابنه (بشار الأسد) منذ عام 2000 حتى قيام الثورة السورية في العام 2011 (وما يزال).
بعد إلقاء القبض على العقيد جاسم علوان، إثر فشل انقلابه الأخير، تم تعذيبه في السجون السورية، بتهمة التآمر مع المخابرات المصرية، عقدت له بعد ذلك محكمة عسكرية استثنائية برئاسة اللواء صلاح الضللي، “من أبناء دير الزور”، حكمت عليه وعلى رفاقه بالإعدام، لكن الوساطات التي قام بها الرئيس (الراحل) جمال عبد الناصر عن طريق الرئيس الجزائري (الراحل أحمد) بن بيلا، الذي كان يحظى باحترام من قبل البعثيّين، نجحت بدفع الرئيس أمين الحافظ، الى إصدار عفو عن علوان في العام 1964، ليتم ترحيله إلى مصر، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس أمين الحافظ، هو أحد الضباط الـ24 الذين وقعوا وثيقة الوحدة، وكان على صداقة مع العقيد جاسم علوان، إذ كانا من الدفعة ذاتها في الكلية الحربية.
بعد وصول العقيد جاسم إلى مصر، حاول الذهاب إلى اليمن، للمشاركة في القتال هناك، ضدّ الانفصاليّين، لكن الرئيس عبد الناصر، استبقاه في مصر ومنحه رتبة وزير.
بعد هزيمة 1967 التي تكبدتها الجيوش العربية، أمام الجيش “الإسرائيلي” (الإرهابي الصهيوني) حاول العقيد جاسم علوان العودة إلى سوريا عن طريق لبنان، لكن النظام السوري لم يسمح له بالدخول، رغم محاولاته، ورغم أنه حاول تقديم أيّ نوع من الضمانات والتأكيدات أنه قادم فقط للمساعدة في القتال، وأنه مستعد للقتال تحت إمرة أيّ ضابط. لكن البعثيّين رفضوا دخوله، فعاد إلى مصر، وتمّ تعيينه آمراً للمقاومة الشعبية في غزة.
في العام 1968، انتخب أميناً عاماً لـ”حزب الاتحاد العربي الاشتراكي” في سوريا، لكنه اعتذر بسبب وجوده في مصر، الأمر الذي سيحول دون قيامه بمهامه، فانتخب بدلاً عنه الراحل جمال الأتاسي.
في العام 1980، وبعد نشوب الانتفاضة التي قادها “الإخوان المسلمون” ضد النظام السوري، اجتمعت المعارضة السورية في بغداد، لتنظيم العمل السياسي والعسكري من أجل إسقاط النظام، لكن النظام سحق الانتفاضة بهمجية كبيرة، تجلت في أوضح صورها بمجزرة حماة، التي ارتكبتها قوات النظام (بقيادة شقيق الرئيس حافظ الأسد رفعت الاسد) في شباط 1982.
بعد سحق الأسد الأب للانتفاضة، لم يتدخل العقيد جاسم في السياسة من جديد، والتزم الصمت إزاء الوضع السوري، وبتاريخ 19-4-2005، وصل العقيد جاسم إلى مطار دمشق، بعد وساطة من مصطفى طلاس، ذلك أن العقيد جاسم علوان كان مُدرباً في الجيش، لكل من مصطفى طلاس وحافظ الأسد!
في دير الزور، تم الاحتفال بالعقيد جاسم، إذ نُصبت عدة خيم من أجل الترحيب به واستقبال الزوار والمهنئين بعودته، الذين قدموا الى دير الزور من مختلف المحافظات السورية، فعودته بعد كل هذا الغياب كانت مفاجئة لجميع السوريين، بعد كل الانقلابات التي قام بها ضدّ نظام “البعث”.
بعد أن زار العقيد العائد قبر أمّه، التي أوصته أن يدير وجهها في القبر إلى القبلة، من دون أن ينجح في ذلك، بسبب عدم قدرته على حضور جنازتها، عاد العقيد علوان إلى مصر، ليكمل حياته في المنفى مرة أخرى.
ومع انطلاق الثورة، (آذار 2011) كان العقيد علوان، قد بلغ في منفاه (مصر) ما يقارب التسعين عاماً، (توفي في القاهرة في العام 2018 ودُفن فيها)، أقدمت قوات النظام السوري، على دهم منزله في حيّ الحويقة بمدينة دير الزور، وقامت بنهبه وتخريب محتوياته.

 المصدر: أحمد عجيل/ موقع “الغربال”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى