حقـيـبــة ســـفـر
* كتـب أبـو عُبيـدة / إيطاليـا
خـاص “المدارنت”
… وتضيقُ بك الأنفاسُ، وتُغلق أبوابُ الأملِ فتعلنَ الرحيل. أيّ حقيبة سفرٍ؟ لها سعة عشقك للازقّة وذكريات الطفولة واحلام الشباب، وأيّ طائرة؟ لها القدرة على حمل أوزان الحزن والأسى لمسافرٍ الى المجهولِ، ليصبح عند اول درجةٍ على سلّمها، الغريب ابداً.
فانت، إن تغادر راغباً، فأنت المسافر المغامر، وأنت حين تغادر مرغماً، تغدو الغريب المقامر ابدا.
سوف تسحرك الأمكنة، وسترى الجمالَ أينما طالت عيناك، وفي كل شيء ولكنك لا تعيشه يوماً، وتدرك بأنك شحنت في حقيبتك ثياباً جديدة، لم يتخمّر فيها عبق الأحبة بعد عناق، وستسخر منك فرشاة أسنانك الجديدة، فبسمة المهاجر، لن تتخطى حدود الضحك، وهيهات أن تلمع، فأنت أن تغادر على سعةٍ تكون المسافر أبدا، وأن تغادر من قلّةٍ فتغدو الخاسر أبداً.
وتمضي سنينك خاوية، من كل ما هو ثمين، اأهلك، أصدقاؤك، فنجان قهوة الصباح، وتحيات منْ تعرفه ومن لا تعرفه من المارة، وتنظر خلفك بعد عقدين، فترى إنك ها قد وصلت للتوّ.
قد تشيخ كمهاجر ولا تدرك، قد يباغتك الشيب ولا تدرك، وكأن الزمن لم يجد له مكاناً في حقيبة سفرك، وتدغدغك أحلامك الغريبة، بأنك ستعود يوماً، متكئاً على عصا التقاعد، لتبدأ من حيث تخلّى عنك الزمن واستمر بالآخرين.
وتختار ما يليق للمناسبة، وتمعن في الأناقة بعد غُسلٍ، وكأنك على موعد مع حورية، فيها جمال يوسف ونصف البشر، وتختار من الكلام ما يعجز سليمان، فوطنك الجديد يريد أن يسقط عنك لقب الغريب، وسيهديك جوازَ سفرٍ، فينتابك الهلع من أن لا تجد جيباً لائقاً، في سترتك الأنيقة.
ويأمرك صاحب الأمر، قفْ للنطق بالقَسَم، ويلقّنك أبجدية القانون، ويضع بين يديك كتيباً نظيفاً، تخاله كتاباً مصوراً للأطفال! وتكتشف بمرارة أنه دستوراً للناس، بضع سطورٍ كتب فيها عقد زواج المواطن بالوطن، حينها تدرك كم أنت غريب، ثيابك النظيفة الأنيقة، وقفتك المرنة وفي يدك كتيباً، وفي الأخرى راية لا تعرف ترتيب ألوانها، وتسأل.. وتسأل.. أمِن فرح دموعك أم هي نفس الدموع، على أول درجة في سلّم الطائرة.
أيها المهاجر المسكين، إن عزمت على الرحيل يوماً، غادر على سعة وراغباً، لتكون مسافراً بين المسافرين، وإن أرادك الزمن مهاجراً، ابحث عن حقيبة لها سِعة الوطن.
وحده الوطن الأم يقبل بك عارياً، من دون غُسلٍ من مخاض، وحده يقسم لك بأنه ملكك، وحده دستوره رسم أسطوري للجمال، وأنت على أول درجة في سلّم طائرتك، قد ترى الجمال في كل شيء، ولكنك لن تعيشه أبداً.
* أبو عبيدة/مغترب عربي في اوروبا