حكاية لا تسأل عن خاتمة.. (وشوشات).. الحلقة “2”
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت”، نشر رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “حكاية لا تسأل عن خاتمة.. (وشوشات).. واليوم ننشر الحلقة “2”.
6-
… بين ذراعيك يبزغ القمر في عباءة أرجوان. يا رسام الليل، شكّلني باللون من فتحة العين إلى كسرة الهدب إلى قرمزية الشفتين إلى وشوشاتك في النبض تطلب أن ارفعي عينيك يا غرامي، وفي الأذن تهمس: ما لون عيني في عينيك؟ ولا أجيب، أقول في سري: لون عيني رغبتي فيك مع كل ما تحمله هذه الرغبة من جنون. لون عيني لون عشقي: فيروزيّ الهوى، زمردي المزاج.
وتسأل: ما لون شفتي في شفتيك؟ ولا أجيب، أقول في سري: لون شفتيّ رغبتي فيك مع كل ما تحمله هذه الرغبة من أزهار. لون شفتي لون عشقي: شقائق نعمان، تقطر شغفا. وتسأل: ما لون ضفائرك المشبوكة بأصابعي؟ ولا أجيب، أقول في سري: لون ضفائري رغبتي فيك مع كل ما تحمله هذه الرغبة من طيب وعود. لون ضفائري لون عشقي، الشمس بطعم الكرمل. وتسأل: ما لون الخد على الخد؟ ولا أجيب، أقول في سري: لون خدينا لون رغبتي فيك مع كل ما تحمله هذه الرغبة من ثمار. لون خدينا ورد الرمان، بطعم القرمز.
وتسأل: ما لون المزاج، والمزاج يا حبيبي مثل البحر، مثل العشق، فيه مد وجزر، فيه ريح وأعصاب تنزف، فيه وثنية الجسد، فيه خلجان وأقواس وماء زهر، فيه أحلام كقصائد برية، فيه تطواف صراخ ومقهى ودومينو وشطرنج وصفارة ريح وعري قبلات وجسد يتناثر في ضوء مصابيح السفن، في نفيرها المغادر صوب الأفق.
وتسأل، وتسأل، والسؤال غوى بأجفان مطبقة وشفاه مرتعشة وطفولة تلملم طفولة كانت لنا قبل أن تندلق من بين أصابعنا “لعبة كبار”، قبل أن نجلس على حافة السرير، محشورين في الزاوية، وننسى السؤال، وننسى الظلال المضخمة على الجدران، وننسى أن الأرض تدور إلى أن يفيح النهار ونتمسك بآخر خيوط العتمة: يا ليل، يا ليل… تقول سلاما، نقول: أمهلنا بعد، نقول: اتركنا، اتركنا، اتركنا، ثمة كلام لنا، لم نسرّه بعد.
7-
حدثيني يا قيثارة عنها، يا كنز ربات الفنون المتوجات بالبنفسج، ماذا تفعل في الوقت الذي لا نكون فيه معا، حين تسلّم نفسها لنعاس خفيف، حين تفوح رائحة المساء من حدقتيها، حين تمخر قوارب الرغبة عباب أنفها، حين تدغدغ سهامك جسدها الخدر، حين يغفل شهريار عنها، وتطفح بالسكون، على خط الأفق المحتفي بمفتاح السؤال.
حدثيني عنها، فيما تعانقين روحها بسلام. تطردين الأحلام المزعجة. تختالين بشرائط من ذهب تغلف صدف الساقين وأحد عشر وترا، تلك المثبتة بمسامير من فضة .
فتنة أنت يا سومرية، يا قيثارة، يا بهجة “أور”*(1). تحدقين بها، تناجينها، تراقصينها، تأتينها متجددة كل يوم بوتر، وكل ليلة بنغم، وكل صباح بوشاح. تباغتين اللحظة، وتباغتينها.
يا أم الألحان، مرحبا، مساؤك مسك وعنبر، حدثيني، صيري لحن الصوت، صيري قرة العين، صيري قيثارتي و قيثارتها، هاتي من غفوة حبيبتي ما عندك.
-حبيبتك، حبيبتي، حين أضفر أنغامي، وأملأ روحها بألحاني، تلعب يدها بوترين، وتشق صخب المحار، وتلثم من ثمر موسيقاي، وتبقى تناجي: هاتي بعد. هاتي أشهى ما عندك”.
“حبيبتك، حبيبتي، الليلة الفائتة، فيما كانت روحها تفيض غوى بك، وكنت أرقص طربا، وأدور من حولها بأبيض فضفاض، وأترنم بها أنشودة حياة، اقتربت مني، واقتربت أكثر، وضعت يدها في يدي، ضمتني، وهمست…
وما كان همسها…؟
سرّ…
وأقارع القيثارة، أقول لها: عزفك على أوتار، وعزفنا على الجسد، على الشفاه، على العيون الكسلى، على مفاتيح الفلك الدائر، على قلب ينبض أكثر من نبضه، على زوبعة ورعشة، على أياد تجول بدهاء في البحر الذي يرتفع ويهدر مثل الغضب، يصب في نبع الروح، النبع المسحوب من قلب تنزف دقاته، يزرع حزنا، ويزرع فرحا من أفراح الربيع، ونافذة مفتوحة على الهواء الطلق. وحين يستحي الليل، ينسحب الكل، تسدل الستائر، ونبقى أنا وهي نطوف معا.
-لكنْ ماذا قالت؟…أسألُ القيثارة.
ولا تقول.
لغيرتها أتركها،
ولوداع:
أراك بخير يا قيثارة من عاش وسمع وثمل. أراك غدا، أو بعد غد، أراك حين نفيق من سكراتنا، حين تندفع الخيول صاخبة على سلالم النار، حين ترسم الموسيقى مولدها في مراسم بهجة النغم وفي ندى الزنابق وفي ألق الأشياء التي لا تحكى. أراك عند البحر الفتِيِّ الجناحين، ونحن بحرنا جنون وثورات وسكون وهدأة. موجنا رائحة العذارى، عزفنا لهاث الفتيان، وباب المدينة، كاتمة أسرارنا، وأسرارك يا قيثارة الأرز، أنت يا سومرية.
* “أور” مدينة من المدن الأثرية السومرية التي تقع في تل المقير بالجهة الجنوبية من الجمهورية العراقية، ويعود تاريخها إلى سنة 2100 قبل الميلاد، حيث كانت عاصمة الدولة السومرية وكانت بيضاوية الشكل. اشتهرت بمبنى الزقورة التي هي معبد للآلهة إنّيانا آلهة القمر حسب ماورد في الميثولوجيا السومرية.
8-
ليس بريئا أن تجمعنا قيثارة على أمور كثيرة، أشياء لا تحدث بين لقاء وضحاه، لكننا التقينا على الرغم من ذلك. ولم نبدأ من نظرة، فابتسامة، فسلام، فأمور أخرى في تراتبية المشاعر. لنقل بدأنا من منتصف علاقة، من أنك تخطيت السلام، انحنيت، وعلى ركبتيك استكان الجسد. وعلى ركبتي احتضنتنا الأيدي، بعد أن جردتني من قيثارتي، وضعتها بيننا، وسألت: كيف أيامك؟، ثم إنك نزعت عن رأسك قبعة القش، لوّحت بها قليلا في الهواء، قبل أن تستقر على رأسي. تأملتني لدقائق، مستغرقاً في ضبط القبعة يمينا وشمالا، ثم ضبطِ المشهد، وتابعت الرسم من دون استئذان، مزايداً في الطلب: تابعي العزف، هيا، هيا…
بدوري تابعت. طلبت أن أبتسم أكثر، فلبيت. وأن أعدِل كتفي، فاستجبت. وأن أضع ساقا على ساق، فوضعت. وأن أفرد ملامح وجهي، ففردت. وأن أحرر شعري في الهواء، فحررت. كنت على سجيتك، آمراً، ناهياً، سيّداً، ولم أتأفف، أو أتمرد، أو أفسد لحظة اخترت ضبطها وإخراجها بالطريقة التي تروقك. استجبت، وقد جاريتك من لقاء أول ولد فتيا، من دون أي ذاكرة لطفولة أو بدايات. لم أعترض على تفاصيلَ في وجهي الذي في اللوحة، ولا على أصابعي التي نحلت قليلا، ولا على كتفيّ اللذين اخترت أن تعريهما إلى حدود الزند، هكذا استسلمت إليك ترسمني، تشكلني بالطريقة التي تريد، ولم تسأل عن اسمي، موطني، وتفاصيل اخترت أن تبقى في عهدة الجزء المفقود بيننا.
احتفظت باللوحة. أهديتني ملامحَ بتصرفك، وشغلتني بالسؤال: ماذا لديك في الغد؟ لا شيء؟ إذاً، نلتقي…
9-
سأطرق باب غرفتك عند العاشرة”، واعدتني… وعلقت العقارب الثلاثة في دورة الانتظار. أرقبها، تدور أو لا تدور، وأبحث في الساعات المركونة أسفل شاشات التلفزة، إن تاهت دقيقة منها، أو هي تقدمت خطوة على الموعد مزايدة، والوقت عالق، والنبض عالق، والانتظار في انتظار، والساعة ترقص على نوتة عطرك المسائي، ذلك العطر الذي ترتديه مثل معطف حافرا صورتك بشذاه، من دون أن تفصحي عنه مرة، تاركا لأنفي الحالم مساحة حرة للعناق والتخمين: هل يكون عطرك من “غوتشي ” بخلطة المسك وخشب الزيتون والتبغ وصمغ شجرة المر وأوراق البنفسج والقرفة؟، أم من “شانيل” ممزوجا بروائح الروزماري وزهور الخزامى وزهرة الكلاري والياسمين والعنبر وخشب الصندل والمسك؟ أم من “ديور” مخلوطا بأزهار السوسن والأخشاب العطرية والمسك والخزامى والفانيلا مع العنبر وأخشاب الأرز؟، أيكون “أزارو” بمكونات البرتقال الياباني والخزامى والمسك والصندل؟ ولمَ لا يكون حارا من “بوس” برائحة المسك والقرفة والقرنفل وخشب الصندل و الأرز وخشب الزيتون والعنبر والمسك والفانيليا؟، أو من “ديور” بمزيج من أزهار السوسن والأخشاب العطرية والمسك واللافندر والفانيلا وأخشاب الأرز، أو من “فيرساتشي” بمكونات الشرق من روائح الطبيعة ومنها الأزهار وخشب الأرز وخشب الأجار والمسك والعنبر، أو من “إيف سان لوران” وفيه الهيل و خشب الأرز والعنبر والمسك ، أو من “دنهل” بمزيج من المكونات الطبيعية من مثل الفلفل وخشب الأرز والبخور والتفاح الأحمر.
… وماذا بعد يا ذاكرة الروائح؟ أسعفيني، فيما الرائحة عندك بأبعاد ثلاثة، واحدة تقولين بأنها مقدمة العطر، وهي برائحة أولى، وثانية هي قلب العطر، ومنها تتدرج الرائحة صعودا إلى قاعدة العطر، وتفضلينها خشبية بامتياز مع ثابتة أكيدة: المسك الذي تجدلين به شعرك، ممزوجا بزيت الورد والزنبق الذي أحبه، ومنه تصنعين عطرا يمتزج بي .
في العاشرة إلا دقيقتين، مسّى طرْقك على أذنيَ اليمنى: أنثى الرغبة أنت يا حلوتي، وهمهمت خطواتك في اليسرى: انزعي عطرك ودثّريني بوشاح الليل، بثرثرة الجسد، بنبضك المخبوء في جسدي. ومسّى صوتي المسافة الملغومة بين خطاك ونفحات الشموع الطافحة بعطر الفانيلا: مساء الثرثرة على بخور الجسد، وعلى برق العيون، وعلى الشغف الذي يطفو على الشفاه، وعلى ارتباك يحترفنا، وعلى قطرات ندى تتدحرج من العنق إلى النهدين، إلى النبيذ، إلى الأسفل، إلى الأسفل، وعلى مصباح خافت ساعة نثمل وساعة نداعب اللحظة وساعة نمارس الضجيج.
ادخلي بقدمك المشتاقة أولا، فوق ذلك الصف الدائري من الشموع. خذي بيدي واغمريني كما اغمرك، بقلبك، بروحك، بجسدك، بكل الهواء الذي في رئتيك، وتقدّمي خطوة إلى الشمعة التي برائحة المسك، أشعليها ودوّريني حولها ودوري مثل جسد يتعرى من لفافة الحياء في خطوته إلى الشمعة التي برائحة الياسمين، أضيئيها وضميني أكثر إلى صدرك وغنّيِ لي في خطوتك إلى الشمعة التي برائحة الخزامى، واهمسي بشفتيك ما بين عيني في خطواتك إلى بتلات الورد على السرير.
وفي آخر الخطوة، وحول السرير المضمّخ بعطر الورد، تعالَي نطوف ونمشي سويا في نوبة المكان المسكون بنا، حيث لا يلقى الصدى صوتا، مثل الذين يعزفون موسيقاهم بأنفسهم، يضعون طاولة وكرسيا في مقابل الكرسي، ويقسمون الأرض إلى أصحاب وجوه الليل الذين توقفوا عن الغناء، وإلى وجه بمقابل الوجه يحبك الأوتار ويسرح في النظرات، ولا يقول شيئا. يصمت فقط ويتوه بين إيقاعات جسدين مشلوحين على حافة الاشتياق.
وفي آخر الليل لا أحد يعلم بأنك جئت، وبأنك طرقت الباب، وبأنك دخلت فوق الشموع وفوق الورد وفوق الطيوب. وحده حفيف الأشجار، كان يتلصص ويهمدر …
10-
من قشعريرة تسري في العروق، أعترف: “لو اختلطت الأفكار بالمشاعر لحققت أعلى الترددات”. وتردداتي بطيئة في حين، سالكة في أوقات، عابرة للقارات في أحيان، مثلك تماما في مناجاتي من البعيد، أو في مخاطبتي بالنظرات، أو في احتمال أن تبلغني السلام، أرده، تحضر أو أحضر في الحال، ومعا ندرب روحينا على التركيز أكثر، على التنفس بعمق، على التخاطب من دون الحاجة إلى الكلام، على الترابط بذلك الحبل الأثيري بين الواقع والخيال.
وأوجز الحكاية: لا بد أننا التقينا ذات يوم، تلامحنا بالبصر، تلامسنا بالقلوب والأنفاس، تخاطرنا، وعلق الصوت في الصوت، والروح في الروح، ثم إننا ابتعدنا من دون أن نتعارف، ولا كان بيننا وداع، وإنما ذلك الحبل الأثيري المطاط إلى آخر حدود الكون، نتباعد، فيلحق بنا. نتقارب، فيلتف من حولنا. ترسم، فأعْدِل المحاور، الخطوط، الألوان، أنسف رؤية، وأعمّر مداميك وأعمدة. وديانٌ وأنهرٌ تجري أو تجف. أعزف، فتبدل في النوتات، في ضربات الأصابع على الأوتار، في تراتبية اللحن وتدرجاته من حزين جدا إلى طليق مثل ريشة في مهب أغنية.
فأي أرض احتضنت ذلك اللقاء الأول، ومنه صاغت فصولا وتحولات وممرات وحكايا نعرفها ولا نعرفها، أخذتنا إلى مدن بحثاً عنا، غربتنا. وكان حضورنا كفيلا بحلّ ألغازٍ وتعقيدِ ألغازٍ، وأن يكشفَ أسرارا، ويكتم بقاياها.
وكان غيابنا يقرب بيننا، يأخذنا إلى الصحوة ويقظة الروح، نتعرف على حقائق، نجرب النفس وما تأمر، نواجهها، وفي الكفة البعيدة توأم يطور نفسه، يرتقي، يواجه، يتألم، لكنه ينضج، ويعود غانما، بالهمس، بالاحساس، بذلك الحبل السري الذي يدل إلى الطريق وتعرجاتها وتفرعاتها. ينذر بموعد، بلقاء، بعاطفة تحسب أنها بدأت من منتصف علاقة، وكانت في المقلب الآخر تختبر بدايات وطرقات وسقطات وتحولات، فنظرة، فسلام، فابتسامة، فلقاء، فذلك الهيام الذي يضرب في الجسد مثل قشعريرة، فاعتراف.
“يتبع”..
=========================