تربية وثقافة

حكايتي يا حكايتي، لا تفضحينا!

كريستيان بلّان/ لبنان

خاص “المدارنت”..
قبل أن يغزوَ الشَيب رأسي، بأعوام وأعوام، كانت قمّة الفرح أن أقرأ كتابًا أو أن أتّصل بإذاعة 102 MAGIC FM  للدّردشة باللّغة الإنكليزيّة، وطلب أغنية وإهدائها لمن أشاء.
وقبل ذلك، كانت السّعادة تغمرني إذا شاركت بنشاط مدرسيّ من رحلات ولقاءات ترفيهيّة، وبالأخصّ انتسابي للشّبيبة المريميّة – أجمل أيام حياتي – أو عندما كانت تأتي فرقة مسرحيّة لعرض خاص لنا فيطلبون منّا ليرة، نعم ليرة، ومن لا يستطيع أن يدفع، فلا بأس، إذ أصلًا، الجميع يدخل في نهاية المطاف. أوه! ما زلت أتذكّر مسرحيّة  “إسوارة الحظ” – وكم بحثت عنها في النت علّني أجدها ليشاهدها طلّابي، فلم أفلح – عندما تطلب الحفيدة من جدّها أن يخبرها حكاية: “جدّو يا جدّو يا جدّو لو بتخبّرني، خبّرني حكاية، حكاية زغيّورة متلي زغيّورة وقدّي حلواية”؛ فيجيبها بصوته الحنون: “كان ياما كان، ياما كان، والحكاية ذاتا وبيخلص الزّمان، الزّمان، الزّمان…”.
تجتاح رأسي هذه الكلمات الملحّنة، كلّما ضرب اليأس عقلي فتصدّه عنّي وتمنعه من التّوغل أكثر. أو عندما يعصف بي الحنين لأيّام الطّفولة، فأسترسل بكلّ إرادتي بالذّكريات….
كم كنّا ننتظر نهاية كلّ فصل لحظة توزيع النّتائج، كنّا نعلم ونحن ثلاث تلميذات، أنّنا من سينادى عليهنّ، ولم يكن يهمّنا من احتلّت المركز الأوّل – على الأقلّ بالنّسبة لي –  لأنّنا كنّا نتشوّق للحصول على هديّتنا، وكانت عبارة عن مجموعة قصصيّة للمطالعة، هديّة لطالما اعتبرناها هديّة عظيمة فاخرة، فنمضي وقت الفسحة نجلس معًا، زميلات المقاعد الدّراسيّة، نتشارك القصص، ونقرأها وتخبر كلّ واحدة منّا ما أعجبها في هذه وما أزعجها في تلك…
وإن أردت الغوص في ذكريات الطّفولة والمدرسيّة منها لا أنتهي، وبخاصّة في زمننا هذا حيث ممنوع أن تنسى وصديقات الطّفولة والمدرسة على مواقع التّواصل الإجتماعي على اختلاف توجّهاتنا الحياتيّة والمكان حيث نحن، إلّا أنّ ابتسامة الطّفولة تعود كلّما أطلّت واحدة منهنّ بصورتها وأفكارها ونشاطاتها…
وفي الأيّام الغابرة تلك، كانت لنا أيضًا أوقاتنا في البيت، وبما أنّني الصّغيرة فكانت توكل إليّ المهام الّتي لطالما اعتبروها الأسهل لي؛ بداية بمسح الغبار ملحقة بطيّ الغسيل متبوعة بترتيب أدوات المطبخ في مكانها المعتمد.
وكم كنت أكره تلك المهام لما تفرضه عليّ من صمت. لم أكن أفهم لماذا أنا وأنا بالتّحديد الّتي يجب أن تعمل وتبقى صامتة، أو أن تعمل ما يضطّرها على السّكون والهدوء والضّجر، بينما أخواتها الأكبر سنًّا يغسلن، يمسحن، يستعملن الماء في تنظيف البيت، يطرطقن وهنّ ينظّفن الأواني المطبخيّة، يغيّرن ديكور الغرف؛ أوه، دون ذكر موسم السّجّاد والماء والصّابون في الصّالة كزبد البحر…
كم كنت أغار منهنّ، إذ برأي قد أوكلت لهنّ المهام المسلّية حيث كانت الضّجّة والأصوات العالية، وحتّى الغناء مع العمل من متطلّبات المجهود المبذول على قاعدة أنّ واجباتهنّ المنزليّة، أقسى من غيرها وأنا كنت أعتبرها مسلّية وفيها تفريغ للطّاقات المدفونة.
كانت تزعجني فكرة أنه لهنّ الحق بالاستمتاع، وهنّ يعملن وأنا لا. فما كنت أشعر إلّا وأنّ الأصعب أوكل لي، وما كان منّي إلّا وأن أطلق اللّعنات على الأعمال المنزليّة، وأتيح لنفسي المجال للنّكد والاعتراض على التّمييز الحاصل بحقّي، وعقوبة السّكوت المنزلة عليّ وكأنّني ثرثارة شرّيرة، تخيط المكائد لفلان أو فلان. فأمرّ بأوقات عصيبة يصطادني فيها الملل ويقتلني حتّى بتّ احسّ بالصّرصار وشعوره بالاضطهاد، وهو يهرب من صفعة حذاء يرديه قتيلًا؛ ويتغلّب عليّ الإحباط؛ إلى أن وعيت الأمر يومًا: “لمَ لا أفكّر بما يفرحني، أو يهمنّي؟ لمَ لا أخطّط لما أحبّ أن أقوم به مع أصدقائي؟ لمَ لا أقوم بتأليف قصص أشاركها مع أختي في فقرة قبل النّوم الّتي كانت تخصّصها لي لو مهما كان لديها من اهتمامات؟”.
لم يطل بي الوقت، إذ أصبحت كبيرة كفاية لأستعمل “الهوفر”، ويا لعجبي حين اكتشفت أنّ اسمها المكنسة الكهربائية، واسم الشّركة المصنّعة لها “هوفر”. وما زلت حتّى الآن أضحك في سرّي كلّما مرّ إعلان لمكنسة كهربائيّة، ولا أستطيع منع نفسي من الاستهزاء بنفسي وغبائي، فكما الكثير من النّاس نطلق اسم ماركة معيّنة لغرض معيّن على الفصيلة كلّها.
وهنا محور التّغيير.. فيا لصوتها وضجيجها وهذه ليست فقط فرصة لي بالتّفكير بما أريد، لا بل وحتّى قول ما أريد والغناء بصوت عال دون المخاطرة بأن يسمعني أحد. وبعد، الأجمل آتٍ، حين رقّيت وأصبح بإمكاني جليُ الصّحون والملاعق والسّكاكين وغيرها أو غسل الثّياب وقد كانت الغسّالة بجرنين، تخيّلوا معي، لا، لا تتخيّلوا، عيشوا معي اللّحظة وأنا في قمّة سعادتي أمرح وألعب بالماء، مع عذر قانونيّ ومحق، فأنا أغسل الثّياب إلى أن حرمتني الغسّالة الجديدة الأتوماتيكيّة من متعة، كما نقول باللّهجة اللّبنانية “التمرطس بالمي”.
لكن لا بأس، فقد بقي لي المكنسة الكهربائيّة، والجلي، وأروعها كلّها غسيل السّجّاد، “وهون التمرطس بالميّ الفعليّ”.
وباللّبناني كمان”، بعزّ فرحي، الله يديم العزّ والفرح”، اكتشفت ما اكتشفت: لن يهرب المرء من حاله مهما قسى على نفسه بالعمل، ومهما كان المجهود جبّارا ومهما علا صوته بالغناء، ولكنّها فسحة يوجدها من ذاته لذاته ليخرج مكنونات صدره، يفرّغ فيها كلّ الشّحنات السّلبيّة الّتي تمنع عنه الهواء، يطلق فيها العنان للأنا ضمن الغطاء الاجتماعي المتوفّر. أمّا الآن وقد اجتاح الشّيب رأسي واستفحل فيه، صار الصّمت صديقي، والسّكوت ملاذي، والضّجر رفيقي؛ وصرت، أنا، أتواصل مع عقلي فأسمعه ولو في سكونه.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى