رؤى لمستقبل سوريا بعد التغيير!
خاص موقعيّ “المدارنت” و”ملتقى العروبيّين”
المقتلة السورية، مصيرها إلى نهاية ما، وحينذاك يجدر بالسوريين أن يكونوا جاهزين لإعادة الإعمار الشامل، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعمراني، وإعادة بناء المؤسسات القادرة – تدريجياً – على وضع آليات الحياة المستدامة.
فبعد أن سالت دماء مئات آلاف السوريين من أجل التغيير الوطني الديموقراطي، أضحى هذا التغيير على جدول الأعمال السوري، لذلك من المهم محاولة رؤية محتوى ومضامين ومستويات هذا التغيير وصوغ أسئلته: كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية؟ أي كيف يتم تفكيك النظام الشمولي والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسّس لديموقراطية تشكل أساساً للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة؟
وعلى الرغم مما مرت به الثورة السورية من أطوار وكل ما أفرزته من هيئات وتجمعات تولت إدارتها، باختلاف الآليات والأدوات والأشخاص وسطوة متغيّرات الظرف الإقليمي والدولي، إلا أنها إلى اليوم، لم تستطع إنتاج البديل المؤسّساتي لنظام الحكم القائم، والذي يعتبر الآلية الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، والمتمثل اليوم بضرورة الانتقال من فكر الثورة إلى منطق الدولة والمبادرة لامتلاك وظائفها وممارساتها. إذ إنّ سورية أحوج ما تكون إلى الدولة الديموقراطية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكل الاجتماعي.
وبعد انهيار الدولة الشمولية لا بدَّ من إعادة تأسيس النظام بدءاً من القاعدة، وإعادة تأسيس قيم الديموقراطية بدءاً من مشاركة كل مواطن في تحديد القرارات المباشرة التي تمسّه على الصعيد المحلي، بانتظار أن تولّد العمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قوى سياسية واجتماعية جامعة، تستطيع توليد مجتمعاً مدنياً قوياً وأحزاباً سياسية قوية وقيادات وزعامات، يمنحها المجتمع قدراً كافٍ من الثقة والسلطة. فما سيسقط في سوريا، هو قيم الشمولية الجامعة، وما يجب أن يرتفع فيها هو روح التوافق الطوعي، المستند إلى المصالح العملية للناس ولقيمهم الثقافية والوطنية المشتركة.
ومن غير الممكن تصوّر سوريا لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة.
إنّ تحديات كثيرة ستواجه سوريا في المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية، ولكن من الممكن التعاطي المجدي معها إذا ما توفرت إدارة عقلانية للموارد المادية والبشرية والاستراتيجية السورية. إذ ثمة حاجة ملحة لسياسات تحظى بتوافق وطني، مبني على أساس العمل مع تشكيلات مختلفة الأهداف والمصالح. مما يتطلب تأسيس أحزاب سياسية نوعية ومختلفة، حاضنتها الاجتماعية من شابات وشباب سوريا، وبوصلتها المصالح العليا للشعب والوطن، ترفع ألوية الفكر والسياسة والواقع، بدل الأيديولوجيا التي قتلت الفكر والروح، وحولت أحزابنا التقليدية إلى مستحاثات، تتبنى الديموقراطية منهجاً وقيماً وسلوكاً وعملاً، تؤمن بالعمل المشترك مع الآخرين، تعمل بالعقلية المؤسساتية، بما تقتضيه من فرق عمل متناغمة ومتكاملة وذات جدوى، تقيم حياة حزبية داخلية ديموقراطية، مؤسسة على الشفافية والمحاسبة والنقد والمراجعة.
وفي المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديموقراطية، لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، لأنّ تصفية الحساب مع الماضي ينبغي، استعانة بخبرات الدول الأخرى التي انتقلت من السلطوية إلى الديمقراطية، ألا تؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة ذاتها.