رجال دين عارضوا الخميني ورفضوا “جمهورية الوليّ الفقيه”.. (السيستاني/ (9)
السيستاني أيّد “ولاية الفقيه” التي طرحها الخميني
مشترطًا قبولها من أيّ مجتمع تستهدفه
خاص “المدارنت”..
يعود نسب “نظرية ولاية الفقيه” في إيران، الى مُجددها الإمام الخميني، الذي أسّس أول دولة تعتمد “نظام ولاية الفقيه”، الذي قدّم “نظرية دينية/ سياسية” غير مألوفة في الفكر السياسي الشيعي، ضمن محاضرات حملت عنوان: “الحكومة الإسلامية” (المقتبسة بتصرّف عن نظرية “الدولة الإسلامية” للمفكر الإسلامي الفلسطيني المولد تقيّ الدين النبهاني)، مؤسّس “حزب التحرير الإسلامي” في العام 1952، (الذي سنخصّص جزءًا أو أكثر من هذه السلسلة لتسليط الضوء عليه في مقالات لاحقة).
منذ البدايات، أيّد العديد من الفقهاء الشيعة في إيران والعراق، “نظرية الولي الفقيه” التي أطلقها الإمام الخميني، وفي مراحل لاحقة، سارع بعض المراجع الى نقضها، ورفضها، باعتبارها تكريسًا لتسلّط “سياسي/ ديني” جديد تحت عنوان إسلامي، ودعوة صريحة الى سيطرة “الولي الفقيه”، على نظام الحكم، والتفرّد بقراراته، واعتبار نفسه مكلفًا بما كُلّف به الأنبياء والرسل والأئمة، مؤكدين، أن “ما كُلّف به النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم والأئمة البررة)، لا يمكن أن يكلّف نفسه بها الولي الفقيه، أو الفقهاء والمرجعيات، في هذا العصر وما يليه، كفكرة “ربانية او إلهية” أنيطت سابقًا بالرسول الأكرم والأئمة.
من هؤلاء المرجع الإيراني، آية الله علي محمّد باقر علي الحُسَيني السيسْتاني الخراساني، المولود في 4 آب 1930 م. في مدينة مشهد الرضا في “إبالة” خراسان الإيرانية، أيّ قبل خمس سنوات من إنشاء إمبراطورية آل بهلوي في إيران.
درس السيستاني علوم الدين، واهتم بالأوليات والمقدمات، ثم بالفقه والأصول والمعارف، وتلقى علومه على أيادي كبار العلماء في ذلك العصر، منهم مهدي بن اسماعيل الغروي الأصفهاني، ومهدي الأشتياني وهاشم القزويني في مسقط رأسه في “إبالة خراسان الإيرانية”.
إنتقل السيستاني الى مدينة قمّ في العام 1948. حيث درس الفقه والأصول وعلم الرحال والحديث على يد السيد حسين الطباطبائي البروجردي، ومحمد الحجة الكوهكمري، وحاز على شهادة إجتهاد من آغا بزرك الطهراني.
وفي مطلع العام 1950، غادر مدينة “قمّ”، متوجهًا الى مدينة النجف الأشرف في العراق، من أجل متابعة دراسته وعلومه، حيث تابع محاضرات البحوث الفقهية والأصولية للمرجع أبي القاسم الخوئي، وبحوث محسن الحكيم ومحمود الشاهرودي، وفي العام 1960 م. نال شهادة الإجتهاد المطلق من أستاذيْه الخوئي والحلّي وهو في الحادية والثلاثين من العمر.
ويذكر في هذا السياق، أن المرجع الخوئي لم يمنح هذه الشهادة إلّا لعلي الفلسفي، كما أن الحلّي لم يمنح هذه الشهادة إلّا للسيد علي السيستاني.
بدأ السيستاني، في إلقاء المحاضرات الدينية في علم الأصول في العام 1964، وأنجز نحو ثلاثين كتابًا وبحثًا ورسالة، طبعت في عدة مجلدات. وكتب عن القضاء والبيع والخيارات ورسالة في القبلة، وفي الصلاة واللباس المشكوكين، وفي التقية، ورسالة في تاريخ تدوين الحديث في الإسلام، ونقد رسالة تصحيح الأسانيد للأردبيلي، والفوائد الغروية ومنهاج الصالحين في ثلاث مجلدات، ورسالة في تحقيق نسبة العلل الى الفضل بن شاذان. وتخرج عليه العديد من العلماء والفقهاء في بحوث الدرس الخارج.
في العام 1988، طلب منه المرجع الخوئي، بعد مرضه، أن يقيم الصلاة في محرابه، في جامع الخضراء، فرفض السيستاني في البداية، قبل أن يلبّي طلب الخوئي، وأقام الصلاة وأمّ المصلين، في العام 1989، وتابع الأمر لغاية 1994، الى أن أمرت السلطات العراقية بإغلاق الجامع، فاعتبر السيستاني الخليفة الطبيعي للإمام الخوئي، وحاز على ثقة ومؤازرة ودعم كبار العلماء، أمثال النهشتي ومرتضى البروجردي وغيرهما.
وفي أيام الغزو الأميركي للعراق، حوصِر منزله في مدينة النجف من قبل القوات الغازية، وامهلته 48 ساعة لمغادرة البلاد، الى أن رفع عنه الحصار في 14 نيسان 2003. وكان للمرجع السيستاني دور بارز كمرجعية للشيعة في العراق، بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
قائد القوات البريطانية يؤكد أن السيستاني
تعاون مع القوات الاميركية والبريطانية الغازية للعراق عام 2003
وفي مرحلة لاحقة، كشفت وسائل الإعلام المرئي والمسموع العربي والغربي، الصفقات المشبوهة والمراسلات السريّة التي كانت تجري بين قادة الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. رامسفيلد وبرايمر، واظهرت تلك المراسلات، الدور الكبير الذي لعبه السيستاني من أجل دخول القوات الغازية الى العراق، بأبسط الطرق وأقل الخسائر، وهذا ما كشفه القائد العام للقوات البريطانية ريتشاد دانات، وأكد تعاون السيستاني مع قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية الغازية، وكشف طبيعة العلاقات القوية التي ربطته بالسيستاني.
طرح المرجع السيستاني، آراءه الفقهية بشأن ولاية الفقيه، في عدة مؤلفات، ابرزها كتابه: “الاجتهاد والتقليد والاحتياط”، والذي تضمّن محاضراه في البحث الخارج. (راجع علي المؤمن في “الشفق نيوز” في 16-7-2021)، ويكشف السيستاني في الفصل الرابع من كتابه السالف الذكر، آراءه في “ولاية الفقيه”، متطرقا الى: “الفتوى والقضاء والحسبة بصيغتها الواسعة”، لكنه لا يرى للأدلة الروائية والعقلية التي أوردها القائلون بولاية الفقيه المطلقة (الرئاسة كما يعبر عنها في مطلع الفصل الرابع) حجية في ثبوت الولاية على الحكم، ومنها: مقبولة ابن حنظلة، ومعتبرة أبي خديجة، وروايات: «الحوادث الواقعة»، و«ورثة الأنبياء»، و«أُمناء الرسل»، و«مجاري الأُمور» وغيرها، فهو إمّا يضعفها سنداً، أو ينفي دلالتها، كما ينفي حجية الإجماع.
السيستاني يستعيض عن ولاية الحكم بخيار توسيع دائرة ولاية الحسبة
ولعل أكثر ما يلفت النظر في معرض مناقشة السيّد السيستاني، لآراء الإمام الخميني، في كتاب البيع (المكاسب)، بشأن حجية الدليل العقلي الذي يقول بضرورة استمرار تطبيق أحكام الإسلام التي تتعلق بالنظام العام ولا يمكن تعطليها، كالحدود والتعزيرات والأموال العامة والدفاع وغيرها، وهي بحاجة إلى سلطة تقوم بتنفيذها؛ فإنّ السيستاني يستعيض عن ولاية الحكم بخيار توسيع دائرة ولاية الحسبة؛ لتكون بديلاً يستوعب جميع الشؤون العامة التي لا يجوز تركها. أي أنّ السيستاني أحد أكثر الفقهاء الذين يوسعون مصاديق الحسبة ويوسعون صلاحيات الفقيه بصددها؛ بما يساوق “ولاية فقيه” شبه عامة، كما تدلّ أبحاثه.
السيستاني يعتقد بوجوب إطاعة الولي الفقيه
الذي قبِل المجتهدون والمؤمنون بولايتهِ فقط
ويعتبر موقع “القدس العربي” في 13 أذار 2021، أن “السيستاني، لو طرح أبحاثه في ولاية الفقيه بعد العام 2003، أي بعد سقوط نظام صدام حسين، “ربما سيتوصل إلى شمول ولاية الفقيه على الحكم، لأنّ ولاية الفقيه هي مسألة فقهية كغيرها من المسائل التي يختلف فيها العلماء مع بعضهم، ومع أنفسهم أحياناً، لأن لديهم أدلة جديدة أو تفسيرات جديدة للأدلة أو قراءة جديدة للواقع وحاجاته المتغيرة”. علمًا أن السيد السيستاني طرح أبحاثه هذه في العام 1986 م. وفق السيد الرباني”.
ويرى السيستاني، أن “حكم الفقيه الذي ثبتت له الولاية في موارد ثبوتها، لا يجوز نقضه ولو لمجتهد آخر، إلّا إذا تبيّن خطؤه ومخالفته لما ثبت قطعاً في الكتاب والسنّة. وعن الأحکام الولائية للولي الفقيه، واعتبارها نافذة علی جميع مسلمي العالم، أو أنها خاصة بمنطقة نفوذه وولايته؟”. ويعتبر أن “ولاية الفقيه فيمن تثبت له مواردها، لا تتحدّد ببقعة جغرافية”، معرّفا معنى ولاية الفقيه، قائلًا: “إنها تعني نفوذ أحكامه شرعاً في موارد ثبوت الولاية له”، مضيفا: “يجوز للولي الفقيه تشريع القوانين، إذا كانت له الولاية شرعاً ضمن شروط خاصة”.
هذه النصوص تؤكد أنّ السيد السيستاني، يوسع مساحة حفظ النظام العام الثابتة للفقيه الجامع، لشروط الاجتهاد والعدالة والمقبولية العامة من المؤمنين. وعلى الرغم أنه يشير إلى عدم شمول ولاية الفقيه على النظام السياسي، إلّا أنّه يوجب إطاعة الولي الفقيه الذي قبل المؤمنون بولايته، حتى على المجتهدين الآخرين، خارج حدود الجغرافية الوطنية، ويرى ضرورة توسعة صلاحيات الفقيه، من خلال مبدأ ولاية الفقيه، يختلف عن مبنى أُستاذه السيد الخوئي، ويتطابق مع مبنى السيد محسن الحكيم.
ويذكر د. علي المؤمن، أن “السيستاني، يقترب من مبدأ الولاية العامة بتوسيع الحسبة، فيقول “السيد السيستاني يستعيض عن ولاية الحكم، بخيار توسيع دائرة ولاية الحسبة؛ لتكون بديلاً يستوعب جميع الشؤون العامة التي لا يجوز تركها، أيّ أن السيستاني، أحد أكثر الفقهاء الذين يوسعون مصاديق الحسبة، ويوسعون صلاحيات الفقيه بصددها؛ بما يساوق ولاية فقيه شبه عامة، كما تدل أبحاثه”.
السيستاني يشترط أن يكون للفقيه مقبوليّة عامة
لدى المؤمنين في البلد المٌراد أعمال الولاية فيه
يتابع المؤمن: “لكن السيستاني لم يبحث في كتاب معروف له أساس إيمانه بنظرية ولاية الفقيه، بأي مستوى من المستويات الخاصة أو العامة أو المطلقة، وفيما اذا كان يؤمن بنظرية “النيابة العامة للفقهاء عن “الامام المهدي” أو لا؟ علما بأن استاذه السيد الخوئي، لم يكن يؤمن بأيّ درجة من درجات الولاية للفقيه، حتى في القضاء. ولم يشرح السيستاني، طبيعة العلاقة الدستورية بين الولي الفقيه، وبين الأمة، وكيفية التعامل مع الحكومات القائمة والدساتير المتفق عليها في البلاد المختلفة، وموقفه من النظام الديموقراطي وانتخاب غالبية الناس لحكامهم في تلك البلاد، وهل هو شرعي أم لا؟ كما انه لم يوضح لماذا لا يمارس أيّ نوع من الولاية أو الاهتمام على الأقل بشؤون المسلمين العامة، أو شؤون مقلديه من الشيعة، خارج العراق، على الرغم من أنه يؤمن بامتلاكه الولاية على المؤمنين خارج منطقة نفوذه الجغرافي.
وتشير “مؤسسة المصطفى للإرشاد”، الى أن “كل مكلّف يقلد مجتهداً، عليه أن يتابعه في التقليد ويرجع اليه في الاحكام الفقهية، وأن المقصود بولاية الفقيه في المصطلح الفقهي هو نيابة الفقيه/ الجامع لشروط التقليد و المرجعية الدينية/ عن الامام المعصوم، في ما للامام من الصلاحيات والاختيارات الموفوضة اليه من قِبَل الله عزّ و جلّ، عبر نبيّه المصطفى (صلّى الله عليه وسلّم) في إدارة شؤون الأمة والقيام بمهام الحكومة الاسلامية. ولا كلام في ثبوت أصل ولاية الفقيه لدى فقهاء الشيعة، لكن الكلام في حدود هذه الولاية، والفقهاء في مسألة حدود ولاية الفقيه”.
والسيستاني يؤكد أن “الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء في الامور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد، أما الولاية فيما هو اوسع من هذا، فتطبق في: الامور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الاسلامي، لمن تثبت له من الفقهاء لاجل إعمالها، وأن يكون للفقيه مقبوليّة عامة لدى المؤمنين في البلد المراد اعمال الولاية فيه”. في كلّ الاحوال، إن المسألة فقهية، يجب على المقلد الرجوع فيها الى من يقلّده من الفقهاء والمراجع الدينية والفقهية.
السيستاني: للمواطن حريته وخياراته في الدولة الدستورية
لا ما تفرضه عليه ولاية الفقيه المطلقة
ويشير د. علي طاهر الحمود، (في “الشرق الأوسط”/ 1 كانون الثاني2019)، الى أن السيستاني، أشار الى أن “الحكومة إنما تستمد شرعيتها في غير النظم الاستبدادية، وما ماثلها من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره، وتتمثل إرادة الشعب في نتيجة الاقتراع السرّي العام، إذا أُجري بصورة عادلة ونزيهة”. وذكّر هذا الموقف بالصراع الفكري والسياسي المحتدم بين مدرسة فقهية يمثلها السيستاني، المؤمنة بولاية الأمة على نفسها، حيث شرعية الحكم والدولة من الشعب، وبين مدرسة أخرى يتزعهما مرشد الثورة الإسلامية في إيران، السيّد علي خامنئي، حالياً، والتي تؤمن بأن الشرعية لله، وأن الولاية هي مطلقة للفقيه العادل الحائز للشروط”.
أما الموقف الأقوى في حينه، فهو لزعيم حوزة النجف الأشرف أبو القاسم الخوئي، أستاذ السيستاني، الذي رفض بشدة المقاربة بين ولاية الفقيه من جهة، وولاية الإمام والنبي من جهة أخرى. ويعد المرجع الشيعي الأعلى حالياً السيد علي السيستاني، سليل مدرسة الخوئي في النجف.
ويشدد السيستاني، على ضرورة أن “تشتمل عملية بناء الدولة على سيادة العراقيين على بلدهم، سيادة كاملة غير منقوصة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، رافضاً أيّ دور للميليشيات، أو أشكال الهيمنة الطائفية”، مشيراً إلى “إمكانية تجاوز المحاصصة العرقية والطائفية من خلال الرجوع إلى صناديق الاقتراع”.
وفي الواقع، إن نظرية السيستاني الفقهية، تجاوزت تناقضاً جوهرياً، ما تزال نظرية ولاية الفقيه المطلقة (المُطبّقة في إيران) تعاني منه، وهو ذلك التناقض المتمثل في الفرد المكلّف بالواجب الشرعي، وهو نفسه المواطن الذي لديه الحق في الاختيار الحرّ، فالسيستاني حسم الأمر لصالح المواطن وخياراته، ضمن سياقات الدولة الدستورية، في حين تريد “ولاية الفقيه المطلقة” من الفرد تنفيذ ما هو “واجب شرعي” يحدّده الولي الفقيه.