رحــل يـوســف زعـيــن.. ومـعـه أســـراره.!

“المدارنت”../ في العاشر من الشهر الجاري غيب الموت يوسف زعين عن خمسة وثمانين عاما (1931 – 2016), ودفن الرجل في ستوكهولم, مثله مثل كثيرين من قادة سوريا وشخصياتها البارزة الذين توزعت قبورهم بين دول كثيرة: الاردن, لبنان, العراق, فلسطين, السعودية, مصر, الجزائر, قبرص, تركيا, فرنسا, أمريكا.. إلخ! لأن حافظ الاسد طبق مفهوم ملكيته للبلد (سوريا الاسد) بحظر دفن معارضيه المنفيين فيها, حتى أن الملك حسين توسط عام 1997 لدفن أكرم الحوراني فيها, ولكنه رفض امعانا في استبداده. ويبدو الأمر متسقا مع حرصه على ممارسة (الابادة التاريخية) قبل (الابادة البشرية) التي واصلها ابنه بشار بعد ثورة 2011 وهو الذي منع ذكر الزعماء البارزين في كتب التاريخ, فقرأ تلاميذنا تاريخهم الحديث مقتصرا على اسم الاب والابن.
مات يوسف زعين، بعد ثلاثين سنة، عاشها بين السويد والمجر، واهنًا, نتيجة السرطان الذي اصاب رأسه وهو في سجن المزة اثناء اعتقاله الذي استمر إحدى عشرة سنة بعد انقلاب الاسد على رفاقه عام 1970, ولولا السرطان لما خرج من السجن الا للقبر كحال رفاقه الآخرين: صلاح جديد, ونور الدين الاتاسي, محمد عشاوي.
مضى ابن الابو كمال، حاملا أسرارا ثمينة ومهمة من اسرار الحقبة البعثية الأخطر في تاريخ سوريا , وخاصة ما يتعلق بمؤامرة حرب 1967 مع “اسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة), وتسليم الجولان للعدو, لأن أبا جابر كان رئيس الوزراء طوال فترة المؤامرة التي بدأت في 1966، بحديث الاعلام الرسمي عن حشود “اسرائيلية” تستعد لاجتياح سوريا وإسقاط (النظام التقدمي) فيها, وقد كذبت موسكو يومها المعلومات, وتبين لاحقا انها فخ أعده (المراهقون البعثيون) للإيقاع بخصمهم اللدود عبد الناصر تطبيقا لاستراتيجية (التوريط لا التفريط).
ولذلك فأهمية زعين في التاريخ السياسي لا تقتصر على كونه رئيس وزراء, خصوصا وأن شغله للمنصب لا يتجاوز ثلاث سنوات, بل من كونها شهدت كارثة 1967 وخسارة الجولان وسيناء والضفة الغربية ونهاية (الزعيم العربي الراحل جمال) عبد الناصر. وجدير بالذكر أن زعين لم يكن هامشيا في منصبه, بل أحد أربعة اشخاص يحكمون البلد ويصنعون قرارها: جديد والاتاسي وزعين والاسد. ومن يراجع ملفات حرب 67 يجد أن الاجتماع الذي تقرر فيه انسحاب القوات السورية من الجولان تم في مكتب زعين بحضوره وحضور حافظ الأسد وشخصية ثالثة اضافة للسفير الفرنسي.
لقد كتب الكثير عن مؤامرة 67 التي كانت مقدمة للمؤامرة الثانية, وصول حافظ الأسد الى عرش سوريا مكافأة له على دوره في تسليم الجولان, والذي تطور تاليا الى اتفاق فض الاشتباك عام 1974، ثم تعهد الاسد بحماية حدود العدو أربعين سنة, ومحاصرة الثورة الفلسطينية , واحتلال لبنان 1976 – 2005 تعويضا له عن الجولان! ولكن كل ما كتب عن هذه الفترة واحداثها الكبرى لا يكفي لإظهار الحقائق عن الغازها واسرارها, ولا يزال “ابطالها” من السوريين موضع شبهة واتهام بمن فيهم المرحوم يوسف زعين نظرا لموقعه ومسؤوليته. ولا أعلم على وجه اليقين ما إذا كان قد كتب أو أودع شيئا من اسراره لدى اصدقائه او اسرته, وخاصة ابنه “جابر” الذي كان قريبا منه خلال اقامته في ستوكهولم.
لقد حاولت شخصيا إقناعه بالادلاء بما لديه من معلومات واسرار عن تلك الاحداث, ولكنني فشلت, أمام قراره غير المفهوم بالصمت.
تعرفت عليه عام 1997، بمبادرة منه، فالتقينا عدة مرات في احد المقاهي, وزارني مرة في بيتي, وكانت أحاديثنا جادة تتركز على اوضاع سوريا, قديمها وحديثها, واقترحت عليه أن يدلي بشهادته التاريخية عبر (الجزيرة) وحصلت على موافقتها لتسجيل وبث شهادته, ولكنه اعتذر, وفضل الصمت من دون أن يشرح اسبابه, ثم عرضت عليه أن أسجل شهادته كتابيًا لا انشرها إلا بموافقته, فكرر اعتذاره, ثم عرضت تسجيلها على اشرطة كاسيت, وأن نحتفظ بنسختين, واحدة عنده وأخرى عندي الى ما بعد وفاته، حيث يتم نشرها وبثها, فظل على رفضه.
قلت له مرارا: إنكم (أنت ورفاقك الآخرون) متهمون من أطراف كثيرة بالمسؤولية عن اضاعة الجولان واضاعة سوريا, بتسليم الاولى لـ”اسرائيل”, والثانية الى الأسد, وعليكم أن تدافعوا عن أنفسكم. وقلت: حتى الأسد اتهمكم بالمراهقة والخيانة والمسؤولية عن الاخطاء التي حدثت قبل وصوله للسلطة, وحرضته على الدفاع عن نفسه ورفاقه بكشف ما يعرفه من معلومات عن تلك الفترة وعن الاسد واعوانه. ولكن من دون جدوى. وبقيت اتابع اخباره من بعيد لعله يغير موقفه, وأعتقد أن عدم ادلائه بشهادته يمثل خسارة حقيقية.
رأيي السياسي، أن يوسف زعين ورفاقه البعثيين الذين حكموا قبل الاسد 1963 – 1970، ليسوا ابرياء من المسؤولية عما أصاب سوريا في حينه وفي عهد الطاغية, فهذا خرج من بينهم, وصعد السلطة على سلالمهم, وكان شريكا لهم في صنع النظام الديكتاتوري نظام الحزب الواحد والحكم العرفي اللادستوري, نظام الاعتماد على اجهزة المخابرات والقمع وتصفية المعارضين وتخريب الجيش والتعليم والقضاء والغاء البرلمان والحريات والحياة الحزبية والصحافة. كل هذه الانتهاكات والانحرافات بدأت منذ صبيحة 8 آذار 63 وتصاعدت تدريجيا حتى وصلت الى ما نراه اليوم في ظل السفاح المعتوه.
الشيء الوحيد الذي كان يتميز به زعين ورفاقه، أنهم لم يكونوا فاسدين أو لصوصا, وكانت لديهم توجهات وتطلعات وطنية وقومية نبيلة كبيرة, مع ان الفساد نتج عن سياسة التأميم وتسليم الشركات الاقتصادية المؤممة الى بعثيين وعسكريين تنقصهم الكفاءة والامانة.
نشر هذا المقال في “مجلة الشراع” اللبنانية بتاريخ 22-1-2016.