رسالة إلى ضمير قاض تونسي!
“المدارنت”..
«سيدي الرئيس.. لقد عشت عتيا وأدركت منذ نعومة أظفاري أن الحرية والكرامة لا تدركان إلا بالتضحية والفداء، وشاهدت بأم العين صروح الطغيان تهوي في بلدي الواحدة تل والأخرى وآمنت أن لا مبدّل لسنن الله في خلقه فدوام الحال من المحال. أحكموا بما شئتم، لا أبالي، ولئن كتب علي الموت بالسجن فلن أبالي، لقد فتحت عيني فيه سنة 1968 من أجل نفس التهم الباطلة ولنفس الأغراض الواهمة، وإن غادرت الحياة بين جدرانه فسأغادرها مرتاح الضمير، إذ كما قال الشاعر تعددت الأسباب والموت واحد، وسأستأنف حكمكم أمام محكمة التاريخ لأن ثقتي كبرى في الأجيال الصاعدة وفي مستقبل أمتي، أما التعقيب فأمام محكمة الله عز وجل الذي يمهل ولا يهمل، وأردت لهذه الرسالة أن تكون حجّة بيني وبينكم..هداكم الله إلى سواء السبيل».
هكذا اختار القيادي التونسي المعارض أحمد نجيب الشابي أن ينهي رسالته المفتوحة الطويلة إلى رئيس الدائرة الجنائية لمقاومة الإرهاب لدى المحكمة الابتدائية بتونس التي كان من المفترض أن يمثل أمامها كأحد المتهمين في ما عرف بقضية «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي» التي اتهم فيها عدد من القيادات السياسية والمحامين والإعلاميين ونشطاء من المجتمع المدني.
أحمد نجيب الشابي المحامي وزعيم «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة والذي بلغ الثمانين من العمر، وكان من المعارضين سنوات حكم الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، رفض المثول أمام هذه المحكمة وفضل توجيه هذه الرسالة التي تعتبر مرافعة قانونية وسياسية من النوع الرفيع ستظل شهادة تاريخية على مر الأجيال.
في رسالته يقول الشابي إن «لا شيء في الظروف المحيطة بهذه المحاكمة يمكن أن يبرر قرار إجرائها عن بعد: فتونس لم تعرف أحداثا إرهابية معتبرة منذ زهاء العشر سنوات (…) كما لا يجد قرار إجراء المحاكمة عن بعد مبررا له بالنظر الى شخصية المتهمين في هذه القضية والذين يمثلون قيادات سياسية خبرها المجتمع».
ويمضي الشابي للاعتبار أنه في «في غياب كل تعليل من قبل المحكمة (لإجرائها عن بعد) من شأنه أن ينزع عن هذه المحاكمة طابعها العلني وأن يضع موضع التساؤل استقلالية الهيئة القضائية المتعهدة بها» ما جعله يرفض المثول أمام ما «هو أقرب الى المسرحية القضائية منه الى المحاكمة العادلة».
وحين تطرق الشابي إلى أصل القضية التي سعى المحامون في الجلسات السابقة إلى عدم تناوله إلا لماما قال إن «تهمة الانضمام الى (عمل إرهابي) لا تجد ما يسندها هي الأخرى (..) وبالتالي «لا شيء بمظروفات الملف (الاستنطاقات والاختبارات والمحجوز، الخ.) لا شيء إطلاقا، يمكن أن يوحي بوجود مثل هذا المشروع».
ولا يتردد الشابي في التأكيد أن «تغيير هيئة الدولة لا يشكل في حد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون، إلا إذا تم عن طريق العنف أو بالوسائل غير المشروعة الأخرى»، معتبرا أن «لا شيء مرة أخرى في مظروفات الملف يسمح بالجزم أو حتى مجرد التخمين أن المتهمين في قضية الحال اتفقوا أو عزموا على اللجوء إلى العنف أو الوسائل غير الشرعية لتحقيق مثل هذه الأهداف المجرمة».
وحين يتساءل الشابي عن حقيقة الأفعال المجرّمة في هذه القضية، لا يتردد في الرد القاطع بأنها «لا شيء سوى الأنشطة السياسية الشرعية للأحزاب والشخصيات المستقلة التي تعارض انقلاب 25 يوليو 2021 (الذي أقدم عليه قيس سعيّد) والذين أجروا مشاورات بينهم حول أيسر السبل لاستعادة النظام الديمقراطي الذي وقع الانقلاب عليه بطرق غير شرعية».
ويخلص زعيم «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة إلى أننا «نحن إذن حقيقة إزاء مؤامرة إرهابية، مرتكبها: النظام السياسي. موضوعها: استهداف النخب السياسية من كل الاتجاهات ودون تمييز. هدفها: بث الرعب بين المواطنين قصد دفعهم الى هجرة فضاء المشاركة الحرة في الحياة العام».
رسالة الشابي تاريخية بلا شك، وهي تعيد إلى الأذهان الرسالة المفتوحة للقاضي الراحل زهير اليحياوي إلى الرئيس بن علي في يوليو/ تموز 2001 يقول فيها «أتوجّه إليكم بهذه الرسالة لأعبّر لكم عن سخطي ورفضي للأوضاع المريعة التي آل إليها القضاء التونسي (…) الذي فُرضتْ عليه الوصاية بسيطرة فئة من الانتهازيين المتملّقين الذين نجحوا في بناء قضاء مواز خارج عن الشرعيّة بكل المعايير»، قائلا لبن علي في نهاية رسالته» إن مسؤولياتكم الدستورية تفرض عليكم اتخاذ القرارات اللازمة لرفع الوصاية عن القضاء وعلى كل مؤسسات الدولة على نحو يسمح بإتاحة ممارسة الحريّات الدستورية للجميع لصياغة التغيير الحقيقي الذي يتطلّع إليه شعبنا وتقتضيه مصلحة الوطن».
إن مثل هذه الرسائل المفتوحة، سابقا وراهنا، يفترض أن تهز ضمير كل من كان مورّطا في إخضاع القضاء وتسخيره لحسابات وأهواء السلطة السياسية، كما هو واقع الآن في تونس بشكل فاضح وغير مسبوق. سيذكر التاريخ دائما أصحاب هذه الصرخات بكل تقدير، عكس وصمة العار التي ستلاحق من خضع من القضاة وباع ضميره متورّطا في أن يتواصل قمع الناس وتطلّعاتها نحو الحرية والكرامة.