رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. الحلقة “4”..
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “4”، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.
(نصّ اخترته من بين الأوراق وفيه شممت رائحة الحبق والنعناع والروزماري تفوح مندمجة من صفيحة صدئة على شرفة قديمة مقابلة لبيت جدي).
رفّة عطر
هاتِ يدكَ نتسلل إلى رقصة اندماج الجسد برائحته، وهذا الخليج الذي لم نحمّله عطراً ولا اسماً ولا ماركة عالمية يحمل عبق روحينا، وطنين الكيمياء في الحواس، ودردشة خطى ولهاث وفرح وعرق ومواقف مخبأة، حلوة ومحرجة وفيها إغواء وأنف وقارورةٍ تضاهي العطرَ نفسَه، وتزايد على قبلة تتبادلها حمامة وذكرها على سدادة قارورة لنينا ريتشي، وتباهي بجوهرة ثمينة من مثل خاتم مرصع بحجر كريم أزرق لازوردي على قارورة لـ”بوشرون”، وتأخذ إلى رقيّ الجمال في زجاجة عطر لـ”بوب ماكي” ومعها رشاشة بلّورية بخيط مزين بفتيلة منتهية بقسطلة.
واتبعني همساً نطرق دهاليز الخضرة والماء والأرض والسماء، حيث حقول الليلك عامرة في ابتسامة الكون تشق قلب الصخور. ومن الحجر تطل بذرة، تتنهّد برفق، وتتثاءب بغنج، ويتفتّح أوّل برعم في الجسد مثل حب ولد ليبقى، وليتكاثر وليطرق في القلب، وليغمز وليصنع ربيع الرغبات وأوان التلامس في القسم المضيء من الأرض. ومثل الرمح تفلت روائح الجسد من القوارير، وتغيب في النداء: القوة والمجد للذي علمنا سر الصعود، وسر الخصب، وسر الشوق، وسر التوق إلى النور والهواء واندماج الرائحة في أنف أمكنة تدرك فتنة ما تملك وما تخفي من جمال.
وخلف الأُذن تعلق رائحتك في أنفي، ويعلق وجهك في شعري المعقوص بالبنفسج، ومن بين الأصابع نتخفف من أوراقنا وأجسادنا، ومن تلك الرائحة الطيبة التي تحضر كلما حضرنا نطلق رمح الرغبة كالحلم الصاعد إلى عين الشمس، ونصير مساطرَ عطرية نوزع نوتات ذاكرة الجسد وذاكرة المحيط، نتقاسمها ونستنشق المفردات دون النظر ودون السمع، كأن نشم رائحة الشروق ورائحة الغروب، ومنهما نعرف كم الساعة في توقيتنا، وأين نحن من توقيتنا، ونشم الأمكنة التي احتضنتنا وآوت قهقهاتنا وضوضاءنا وصمتنا وذلك الانصهار في الآخر، ونقول:
هنا كنا، وهناك مرّغنا التراب بحمرته. ونشم الدفاتر والكتب ونصنفها على حدتها أو خفوتها أو مللنا منها، ونقول هذا كان دفتر الحساب، ولكل رقم سقطة أو نجاح أو معادلة أو رائحة على الحدود بين القسمة والجمع. ومن كتاب الجغرافيا، نحرر رائحة الخشب مجبولة بالأرز والزيتون والخروب والصنوبر والدفلى والبلوط والزيزفون والنخيل والجوز والحور والكينا واللوز والصفصاف، ونحدد الجهات الأربع مضبوطة بالخضرة والماء والسماء وجبال لبنان، ومن رائحة الحبق والنعناع والروزماري تفوح من صفيحة صدئة متروكة للشمس على شرفة قبو قديم، ومن كل ما يخطر نصنع أنفاً لذاكرة العطر في جسدينا، ونصنع هوية وثالوثاً نتورط فيه مع الإحساس والخصوصية والتفاعل، ومنه نشكّل رقصة انجذابنا حتى آخر نفس.
ويضبطنا الوقت لحظة انقطع الصوت بنا، لحظة تناثرت ضمائم الشفاه، لحظة بقينا عالقين على خيط، لحظة تغازلنا بالرموش ونسينا الخيط، لحظة نسيت شفاهك على جبيني وعلقتُ في السؤال تلو السؤال: أتكون شامة من شفاه أم شفاه من حسن؟ أتكون أنت أم تكون أنت ولا خيار سوى أنك أنت؟ أتكون حبيبي المكشوف على الجبين وقد خبأتك تحت سابع شريان في القلب؟ أتكون العمر المكتوب في الشعر والكل يقراً والكل يخمّن والكل يغمز ويناديه الخيال؟
وماذا عنك حبيب خيالي في سماء يشعلها البرق، يهزّها من جذور الهواء إلى رأس الغيم، إلى قشعريرة الضوء، إلى عيون تزقزق في العروق، تطير وتسرح على اشتياقي، وعلى أعصاب القلب وتر ينبض بك بك بك، وفي الصدغ أمنية بذراعين، واحتواء من نار وطين وريح ومطر وعطش وصدفة وصوت يصرخ في البراري: هو ذا حبيبي هناك جئت أواسي شوقي اليه، هوذا حبيبي هناك جئت أفتح باباً موصداً، هوذا حبيبي هناك يقراً طالع الأرض، هوذا حبي كالفضة يلمع وأذوب وأسلّم.
وأسلّمك لإيقاع الأرض في استدارتها، في تدويرها أحلامي، في امتلائها، في كفّها الحانية ونبتها الذي يزهر كلما تقابلنا، تصافحنا، وهبّت ريح وانتظرنا نجمة، جدولاً دفقاً من حياة وكلمات تلقينا في البئر ونغرق مثل طلاسم، مثل حصاة، مثل ضحكات مولودة في الماء، مثل العوم الأول فيه اختبار، وفيه خوف، وفيه فرح، وفيه متعة التجربة، وفيه يد تولد من الخفاء ومن غمضة عين تقتادني مكبلة بالرموش وباعتراف:
بيني وبينك مسافة حلم، أعطني غمضة عين لأعبر إليك، لأشتاق وأسافر في عروقك نشوة عطر، لأبحر إليك كالريح خلف النوارس، لأعانقك مثل غيمة في غيمة، لأجترح السهر تحت جفنيك شامة حُسن، لأسرج خيول الشوق إلى شواطئنا تلوح، لأميّزك عن رفّة القلب، ونمضي معاً خلف تطابق المسافة بالحلم، وأضبط عينيّ في تلصصها عينيك.