رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. “الجزء “1”..
خاص “المدارنت”..
ينشر موقع “المدارنت”، الحلقة “1”. من رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”، للزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله.
يا لوحشة هذا المكان!.
كأنه لا يريدني أن أبصر كيف تدخل القرى في النسيان، مسكونة بقحّة العجائز والخردة و أصوات حيوانات تنادي بعضها، لكني سمعت ورأيت وكدت أضل الطريق إلى بيت جدي المهجور في البلدة التي تحوّر اسمها الى “الشميس”، تلك الرابضة على كتف واد يرتفع نحو 400 متر عن سطح البحر، ومثل حال أغلب عائلاتها هاجر والديّ بعد سنوات قليلة من التحاقي بجامعة السوربون طالباً أتقفى تاريخ الحضارت القديمة، طبقات الأرض وألوان الصخور، تركة الأقدمين وحكايات البلدة المتوارثة عن أنفاق مسكونة بالأرواح وقنوات بعضها يصب في البحر و بعضها يأخذ إلى هياكل عظمية وجماجم وأموات يقال بأنهم يتلاقون في الباحات المقفرة في ساعات الهاجرة احتفاء بالشمس في تعامدها على الأثر البيزنطي المشيّد فوق خرابة قصر روماني.
كان النهار على وشك أن ينتصف حين وطأت أراض يبست على أماتها. بيوت الطين والحجر، بعضها تهدم، وبعضها في طور السقوط. ثمة سقوفٌ انهارت، وأخرى تقاوم الغبار الذي ترك لوناً أصفر يميل إلى الحمرة على الجدران وداخل الشقوق المتعرجة، صانعاً إضاءة طبيعية.
نحو البيت أخذني المسير، حيث لاحت في الأفق شجرة خروب لا زالت متجذرة بسنواتها الثلاثماية على مسافة خمس أشجار زيتون منه. وكنت اعتمدت الشجرة دليلي في عبور الأزقة بموازاة الشبابيك المخلعة، القرميد الأرجواني شبه الباهت، لنحو عشر دقائق سيرا على الأقدام. ومن السور الخارجي المغلق، والمفتوح من جهة الشمال إلى الداخل الفسيح، أيقنت بأني وصلت المكان. وأول ما طالعني في الداخل تلك البحرة الجميلة المحتفظة ببعض الأزرق والسلالم المتشققة التي لطالما كانت تشبه في تكدسها خطوط العمر المتشابكة في جبهة جدي. كلّما يمسّدها تتعقّد أكثر، وكلّما يبحث فيها عن مسابك الفل والرياحين تهفهف من ثقوب دائرية تماما مثلما تزكي أنفي المزدحم بها.
في الباحة انتظرت ليقوم أحدهم بفتح الباب . واثق بأن لا أحد في الداخل. وحده الهدوء يقطن وقد أعياه الانتظار. ووحدي أعاين الباب الحديدي والقفل الصدىء..كم اختلفت الأمور عنها قبل نحو عقدين. نعم لا يشبه المكان أمسي المحفور فيّ. لا يشبه كل هذا السكون. باختصار كان بلا مؤشر لوجود حياة سوى داخل حانوت سمانة في الجهة المقابلة، حيث في الداخل مسنّة أتذكر ملامحها وقد تاه مني اسمها، لكنها تعرّفت إلي مبادرة بابتسامة تكشفت عن ثلاثة أسنان في الفك العلوي ورابع وحيد في الفك السفلي. سمعتها تنادي على قضامتها الزهرية، وأول ما خطر في بالي: هذا يعني أن ثمة في القرية غير العجائز…
وعدت بالنظر إلى حيث وجدتني ملهوفاً أتفقد صحن الدار، أو تلك الفسحة الداخلية المفتوحة إلى السماء، وإلى دكات وعتبات غرف تغشاها دفوف خشبية مفروشة بالحصير وعلى أطراف البسط مقاعد الدواوين ومساندها المخملية. وبحكم الباب المقفل اكتفيت بالمعاينة عن بعد حيث انزويت في الركن المقابل أزاحم طفولة شقية. أسندت جبهتي على ركبتي. وفي تلك اللحظة تملكني إحساس بالرهبة، فيما رحت أرقب الخيط الحريري الذي تحيك به العنكبوت شباكها. خيوط منحنية وبعضها مستقيم. الخيط الأول مربوط بساق عشبة جافة. الطرف الآخر مربوط بغصن شجرة، والعنكبوت ظلت تهبط الى الارض مع الخصلة، تحيك وتصعد الى نقطة أخرى لتسحب الخيط بقوة، تربطه في مكانه جيدا مفرزة مادة لاصقة تجمع بها الخيوط في الوسط. يا للمهمة المحبكة التي تقوم بها!.
وإلى حدود ثلاثة أرباع الساعة، بقيت جولتي تعبر أمام ناظري بسلام متدرجا بالنظر في الجلول نحو قن الدجاج الخاوي الذي بحجم مترين، المرشة البلاستيكية اليدوية أو ما تبقى منها، هذا قبل أن ألمح طيفاً يرتسم على الأرض من ناحية الخروبة التي بدت أغصانها تهتز بفعل الريح أو لأن أحدهم أراد لفت انتباهي اليه. جفلت بداية، ثم أني وسّعت المراقبة إلى حدود دائرة بقطر مترين، وابتعدت بالنظر أكثر في حركة مراقبة دائرية. دقائق، اختفى بعدها الطيف، حدقت عيناي أكثر، بحثت عنه، لا أثر. وانطلقت..
رحت أركض لاهثاً ناحية شجرة الخروب، ومن ثمّ في اتجاه الطريق الزراعية الضيقة والمكسوة بأشواك العليق. وكانت أمامي وجهتا سير، واحدة إلى اليسار تأخذ الى مقبرة صغيرة ، وثانية تأخذ إلى طريق حاد يصعد الى الأعلى، الى بداية نهاية القرية، وتحديداً الى معبد قديم مهمل . هناك أمضيت القسط المشاغب من طفولة ومراهقة سارحاً في الأرض الغامضة، والتي تنده على الدوام لمن يعرّي عن دفائنها الغبائر والأتربة.
وفي طريق صعودي، داهمني إحساس بأن ثمّة من يتعقب خطواتي، حتى أني رحت أصغي جيداً للصوت الذي يخلفه وقع أقدامي في الارض. كانت المنازل تهبط وترجيحاتي تتضخم في أني مراقب.قد يظهر خلفي أحدهم. لكني قررت أن أتجاهل الصوت، حفيف الأوراق، الفحيح من البعيد..
“يُتبع”..
========================