رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. الجزء “13”..
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “13” من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.
(أسميناه فريق “الثريا”. كان عددنا سبعة في العنقود النجمي. اخترنا الاسم ، تموقعنا في ساحات اللعب ..وافترقنا)
همس
من برج الريح ناديت الثريا أن لملميه من برج الأرض، نصنع نوافذ جديدة وإطارات وجلبة وأوراقاً لا تعرف كيف تذبل. نتدثّر من الغيمة برموش حياة جديدة، نجبل الفرح ورائحة المطر وصدف الأرض وجنون اثنين عاشقين، نسكبها في حلّة الريح ونحتسي الشاي في الزاوية، بعيداًعن وميض البروق.
وأناديك يا ابن الأرض، من حيث المدى الرحيب، من شرق التلال الراكدة، من الجبل والتراب والربى والسفوح والجزر والكهوف والصخور والشعاب والفخار المنثور والأبراج المكدسة، إلى ذلك الفراغ بين السماء والأرض، نجمع السحاب بعضه إلى بعض، نكثفه، ومن ثمّ ننزله مطراً ينهل من رحيق السحاب آخر شعاع، نملؤه بدغدغة الفجر وطالع الثريا في خطوط الريح ينبئ: أنا التي رديفي العدالة، الأبيض لون حظي، وحجري السوداليت الأزرق، وعدوي العشب، أنصت للجدول المنساب بين أحضان السواقي وأهمهم للأقحوان النابت فوق البيادر وبين حنايا الشجر بكل ما في العروق من روح موشاة بالترانيم.
وعلى خطوط العرض، وفي تعاريج العمر أرسم قمراً يبحلق فيك، يشيح قليلاً موشوشاً الكف عند كتف المنحدر: لا زال غيوراً، رومنسياً، دافئاً، حنوناً، عاشقاً بامتياز، يجيد قواعد الصيد، ويدير الحب على طريقتك الخاصة، منحازا للأحمر ولحجارة حظه: عقيق النبات، ولبرعم من غرسة زيتون يشبكها في شعر فرسة الريح،
وتطلب الثريا: إمنحوه تعويذة سفر وكلمة سر الريح في مدارات الرغبة والشوق. دثّروه بالطيب، بالوجدان، بالبديهة، بالإدراك، بالخيال، بالوهم، بالشعر، بالقصيدة، بالعاطفة، بالاضطراب، بالانفعال، بالحب، بالتضحية، بالعطاء، بالصدق، بالصراحة، بالإخلاص، وحين يجهز بألوان الفرح، بالأهازيج وبجرار مليئة بالضياء، وحين تصير الريح والأرض وجهين لزفرة واحدة، إمنحوه الخطوة الأولى يتتبع أثر عربة الريح بردائها الرفراف وتبقى المفردات مجهولة، ثمّ ماذا حصل بعد؟ الورقة بيضاء، شيء ما سقط من السماء، شيء يشبه المطر، يشبه الأفق الممتد بلا نهاية.
عربايا
لأخبرك شيئاً: لن يطول بحثي عنك، وفي يوم سأحاصر أحجيتك بالزمان والمكان مثلما التلال تحاصر “الحضر” في الجزيرة الفراتية، بحدود هي دجلة من الشرق والفرات من الغرب ومقتربات جبال طوروس من الشمال ومشارف المدائن من الجنوب. وتعانق براً وادي الرافدين والخليج العربي.
وبرغم أن ملامحك لا توحي بأنك من قبائل عرب الشمال، أخمن أكثر بأنك من القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، منطلقاً من الوشم المختوم على زندك .
وعلى الرغم من ترجيحي هذا، إلا أن شيئاً كان يشدني إلى أول مملكة عربية في بلاد الرافدين ، وتحديداً إلى الزمن الانتقالي بين الوثنية وعبادة الإله شمش من جهة، وبين دخولها في مرحلة تعايش الأديان وتسامحها من جهة أخرى، أيام كان الحضري يتعبد جنباً إلى جنب مع أناس من أديان وأقوام مختلفة، ويبني أنصابا تتجاور لآلهة عراقية وإغريقية وفارسية ورومانية وعربية.
وأكرر السؤال:
هل تكون مملكتك هناك في محافظة نينوى؟
مزيد من الإنعاش:
في تلك الأرض كانت القوافل تلتقي، قادمة من الجزيرة العربية والخليج العربي، والشام والبحر الأحمر، مفتونة بروعة القصور والعمارة والخنادق العميقة والسور الطويل المدعم بـ 163 برجاً.
ومن تلك الأرض يغريني صوت الأنثى محركاً خيوط حياة تدب على جدران معابدها من دون أن تفوت تفصيلاً، وأكثر ما استرعى انتباهي نساء المملكة اللواتي تثبت آثارهن امتلاك مقدار فائض من حرية القرار والزواج والمشورة، هؤلاء كان لهنّ أصدقاء من الرجال بحسب نصوص قواعد التماثيل، وبعضها يشير إلى أنّ ” المتعبد أقام التمثال له ولصديقاته”، أو أنّ لـ”الأميرة دوشفري مرافقاً وقد أقام هذا المرافق تمثالاً لشقيق الأميرة سنطروق بن سنطروق”.
هذا الجانب أعرفه عن المملكة ، وبدورك دونته وأوافقك الاختيار.
وبالمناسبة فإن “دوشفري” من جميلات العرب، متألقة في رسومك التي تعكس هيبة حضورها، ملابسها تدل على الترف، مزوقة بالأحجار الكريمة، وموشاة بأزرار قد تكون من الذهب أو اللؤلؤ والحلي النفيسة ومن أقراط وقلائد تزينها، تاجها الأسطوانى الشكل يدل على مقامها السامي، والشيء نفسه ينطبق على تمثال ابنتها (سمي بنت دوشفري). واللافت من الكتابات المرافقة في رسومك أن الابنة منتسبة بالاسم إلى أمها الأميرة.
ومنها شدتني حماستي لأعرف المزيد من وجوه بنات عربايا، وفي الرسم التالي تظهر شبيهة لك، ترتدي الزي الحضري من غطاء الرأس والفستان الطويل والضيق عند الصدر، وتنتعل صندلاً مفتوحاً. كانت ترفع بيدها راية وشعار الحضر وهما الدائرة والنسر، وجهها معبر تماماً وجسمها ممتلئ وملابسها واسعة بها الكثير من الكسرات والطيات ووشاحها ينسدل على كتفها وظهرها ولا يغطي جسمها من الأمام. وهذا الزي قريب جداً من الأزياء الفينيقية التي كانت منتشرة في بقاع سوريا ولبنان.
وعند أسفل الرسم كتابة توضح أن “المرأة التي ترفع الراية هي الزوجة التي اختارها الملك سنطروق لتشاركه الحياة والحكم، وقد غادرت مملكة أهلها طوعاً لأجل أن تكتب حياة سعيدة لعائلة سعيدة “.
وللرسوم تتمة جولة:
أتعرّف إلى تمثال “مرتن”، وتتمثل بكوكب الزهرة، مثل عشتار. وهي جزء من الثالوث الحضري (مرن ـــ مرتن ـــ برمرن) وتعني بالضبط ( إمرؤ ـــ إمرأة ـــ ابن إمرؤ) أي بما يعني ( السيد ـــ السيدة ـــ ابن السيد). وتلك معلومة مرفقة بالرسم، متبوعة بشرحها: تأخذ (مرتن) صفات إلهة القمر، يأتي اسمها في الوسط بين الإله الأب والابن، يمثل الإله (مرن) الشمس.
ولا أخفي إعجابي بتمثال “تايخي” الذي يبدو كأنه مستوحى من الفن الإغريقي، والمذكورة كانت مكلفة بحراسة المدينة والأبراج والأبواب، وهي زوجة نرجول الحارس، ومعاً بحسب النصوص التوضيحية تقاسما حراسة وحماية الحضر والعالم السفلي، وكانا يقيمان في المعبد السابع المخصص لهما معاً ما يدل على مسؤوليتهما المشتركة في حماية المدينة. وأصل “تايخي” إغريقي لكنها اكتسبت الصفات الحضرية وصورت في تماثيلها وهي ترتدي الزي الحضري.
وفي رسم المعبد تمثال لعازفة ومرتلة تدعى “سمي بنت عجبا” وقدأقامه لها زوجها “عجا بن ابا كاهن اترعتا”. وتبدو سمي ممسكة بالآلة الموسيقية التى تعزف عليها، وترتدي زياً حضرياً مختلفاً بعض الشيء عن الأزياء الاعتيادية، ، و نص يوضح: “تمثال قيمي بنت عبد سميا بائع الخمور، زوجة نشر عقب كاتب برمرين، التمثال الذي وعدتها به اشربلال إلهة البتول، وقد اماقته قيمي لنفسها من اجل حياتها وحياة نشر عقب زوجها وعبسا أخيها وحياة كل الساكنين داخلاً وخارجاً، في معبد برمرين ولحياة كل من هو صديق لهم ولجميع النسوة اللواتي يصلين أو يعزفن ويرتلن في المعابد التى كانت تعج بالمصلين”.
وفي ذيل النص عبارة: “إذا كنت تريد أن تعرف من أكون إذهب إلى الأحجار الكبيرة الصلصالية هناك، تلك التي تشبه الدومينو، عليها أحكام قانونية وأعراف تتعلق بالعقوبات والرجم وسبي النساء.إقرأ الحكم علي”.
وبقدر حماستي لباب حوار تفتحينه من خلال الأوراق ،فإن الذهاب الى عربايا تحديدا لهو درب من الجنون بعد الانتكاسة التي منيت بها المدينة ومعها كنوز لا تقدر بأثمان . فإن كانت سلمت الحضر من الدمار الذي لحق بالمدن الأثرية العراقية خلال الغزو الأميركي ، غير أن ما بات معروفا ب”تنظيم الدولة الاسلامية ، والذي هو حتما تنظيم لا يمت الى الاسلام برابط، أسدل الستارة عن زمان دوشفري بعد أن ظلت تماثيل المدينة وحصونها تحكي ملامح التاريخ لأكثر من ألفي عام.فكان أن دمرت التماثيل والمعابد بحجة “الأسباب الشرعية”، وما سلم من الدمار بيع للصوص الآثار بثلاثة دولارات لكل ثلاث قطع ..وثمة من يؤكد بأن المدينة الأثرية هناك أزيلت عن وجه الأرض معلنة بداية عصر نهب التاريخ .وقبلها نهبت محتويات المتاحف العراقية وقدرت ب175 ألف قطعة مع وثائقها .والخسارة الكبرى في كنز نمرود الذي يحوي ألف قطعة ذهبية من التيجان والورود والحجارة الكريمة التي تعود الى الألف الثامن قبل الميلاد.هذا الكنز كان من اهم الاكتشافات خلال المئة عام المنصرمة ،إلا أنه اختفى مع الغزو الاميركي .والمفارقة أنه إبان الغزو أعلن الجيش الأميركي عن تمويل فريق لتصميم أوراق لعب يوزعونها على أفراد الجيش من أجل عدم ضرب تلك الأهداف، بغية الترويج في الاعلام بأنهم براء من تهمة ارتكاب جرائم حرب ضد تراث الانسانية، ومع ذلك حصل النهب الانتقامي بذريعة حاكم ظالم،وهم برروا تلك الجريمة بالقول:
“we will do it right next time”
( لم تكن مغارة تلك التي دخلتها، لا بل كان المعبد الذي لطالما أخافتني ظلمته، وإلى هنالك استدرجتني مايا مغمض العينين على أساس أننا نلعب الغميضة. ولم أنتبه إلى أنني تجاوزت عتباته إلى حدود النصف متر إلا بعد أن اختنقت أذني برجع الصدى )
تخمين
على جبينك ثلاثة أسراب من النحل وملكة وعمر تنقله المجاذيف، يعلو، يرف، يدور، وحول الأهداب يخط من رحلة إلى محطة إلى لقاء، ومعه أخطّ عمراً آخر ولد ساعة اللقاء.
كنتُ بلا حواس، أو لأفترض نسيتها في العتمة، ورحت أجول في مغارة مسكونة بك وبالصدى وبحفنة روائح حبيسة، وحديث صامت يثرثر: من ذاك الآخر؟ ما شكله؟ ما ودعة البحر فيه؟ ومن يكون؟
وخطوت في المغارة أتتبع صوتك، وجهك، قامتك، خطواتك، والضوء العنيد المدوّر في يدك، ومنه أتلصص إليك، أتخيلك وأصنع بطاقة ظل ممغنطة، وأخمن: هذا رجل لا يعشق السينما ولا التمثيل ويفضل صحبة الخيل على صحبة امرأة. ومن كاريزما الظلال على الجدران، أصوّب: بل هو رجل قابل للعشق ولحكاية مجنونة من حكايات الخيال. ومن الصوت، أحتار في ذلك التمرس في الانتقال بين الحالات من الفرح إلى القلق إلى الحذر إلى الرومانسية إلى الغموض إلى اللامبالاة ومن ثم إلى سؤالك: هل أنت قنّاص ألوان؟
وأضفت إلى البطاقة: أنيق، إيجابي، قليل الانتقاد، مع ملحوظة: لربما يحب لعبة الهوكي، أو يجيدها، هو القادر بلمحة عين على تغيير النتائج من حجر الصوان إلى حجر الفحم، ومن خفاش الليل إلى شباك العنكبوت، ومن تقدير عمر المغارة إلى ناسها إلى أسنان مشط إلى تركة عوالم عبرت، ومن تقدير لون عينيّ من الفيروزي إلى الأخضر إلى البني والترجيح في أنهما عسليتان.
وجذبتني رائحتك، وقاعدة عشق الأمكنة الأولى: الدخول إلى حميميات تلك الأماكن يستدعي احترامها، كأن لا نسعى إلى تغيير رائحتها بعطورنا، نتركها تختار رائحة العطر الذي يلتصق بأجسادنا، نستنشقه بغواه وضجيجه وغيوبه ونشوته وانبعاثاته وشجاه، وإلى حيث أقدارنا هي نفسها يأخذنا، إلى الضوء وإلى العتمة، وإلى النظرة الأولى والنظرات اللاحقة وذلك الشوق الذي لا يهدأ الا حين يطلب المزيد.
وبتقابل وجهينا لجمت سطوة المغارة، وسطوتك على جنّيات العتمة، وتواجهنا بالعيون لكم من الوقت، لم أسأل، وبقينا في المجهول إلى حين سؤالك: اجمعي حفنة تراب واغمضي عينيك وتمني، هنا الأمنيات تتحقق، وتمنيتك، من هبوب الريح والليل والظل والجدول والشذى تأتي، قامة، هيبة، جفون، شفاه، ومقلتان وزنبقة وسؤال: ما كانت أمنية المغارة يا حلو؟
وأردّ السؤال:
كانت الأمنية زهرة نبتت في كفك تحمل ظلي، ترتدي قميصي وربطة عنقك وأوراق تشاكس على اسمينا وترسم خطواتي في خطوطها عمراً تخبّئه عربون فراشة على وشك أن تلامس عطرك بقبلة، وكما يطلع الزرع في الجسد الملتهب، تنبت من قبضة يدك، تدخر روائح قزحية ليوم تنحني بساقها على رسغك وتغفو على النبض، تضمه وتحلم،
ويظل الحلم يقفز من ثنية إلى ثنية، كأن تصير الزهرة باقة شهوات مدعوة إليك ذات حضور مثير، كأن تصير أنفاسك التي تدوزن تقطعها ورقة ورقة، كأن تستأنس أصابعها مرات تعدها وتكرر العد من واحد إلى عشرة إلى نجمة إلى مجرة إلى سماء إلى لوحة إلى ريشة في مهب العين، كأن تفترش شعاع راحتيك بي من يمين إلى شمال إلى الدنيا التي تعلو حد السحاب المطلي بمطر فضي، كأن تقول أحبك مثلاً ولا أعود زهرة، أصير حديقة فيها ملكات الليل ينثرن شذاهن من ياسمين، فيها الزنبق الأحمر والأصفر والوردي والبنفسجي، فيها الجوري الذي تعشقه وتشبهه، فيها عمر القرنفل ومخمليته وانتشاره بالأبيض والأحمر والوردي، فيها نبل زهرة مريم الذهبية الأقحوان، فيها أريج الليلك وخجل البنفسج وغواه ودلاله، فيها اللوتس زهرة الملكة الفرعونية، فيها زهرات السوسن الطالعة إلى السماء على قوس قزح، فيها عبق الكاردينيا والكاميليا والنرجس والأوركيديا واللافندر والنسرين والفل وشقائق النعمان، وفي كل الزهرات أنا، وفي كل الألوان أنت، وفي كل الروائح نحن، وفي كل زهرة سر، وتحت كل زهرة باقة أسرار، وتظل في سري يا حبيبي يا حلمي في زهرة في قبضة يدك،
وتتعب الزهرة من كثرة الوقوف بين يديك، من كثرة النوم في نبضك، من كثرة تعقب عينيك في تجوالهما، من كثرة الانشغال بك، من ذاك الخوف الدائم في أن الأزهار عمرها قصير، من أن يأتي يوم لا أجدك أو تجدني مقصوفة، منسية، مشلوحة على قارعة يد ليس فيها خطوطنا، ولا شغبنا ولا صخبنا ولا أول حرف من اسمينا ولا عنوانك ولا عنواني، فقط أنه حدث كل ما حدث في يد في زهرة في حديقة ذات حب مشت عليه الورود مثل سجادة حمراء تحتفي بالملك، عاش الملك.
البتراء
فيما أحدق في الطريق الصحراوي الطويل إلى البتراء، على مسافة نحو مئتي كيلومتر من العاصمة الأردنية عمان، يحضرني عرض مايا السخي طارقاً باب طفولة تبحث عن مورد رزق: ما بالك لو نبيع الحصى الغريبة الملونة؟ ندّخرها لزبائن الحجر؟
كانت تلك واحدة من خطوات تشكيل وعيي بالحجر من لون وشكل ودلالات ورائحة، وفي غضون أسابيع قليلة، جمعنا ذلك الشغف بالأحجار ذات الألوان النادرة وتشكيلة مغرية بينها الفيروزي والعقيقي والحلزوني والصواني والبركاني والغرانيتي والجيري.. وكنت كلما عثرت على واحد سلّمته لمايا التي كانت بدورها تضمّنه رقماً وتضمه إلى كيس سميك من الجنفيص.
لكن المشروع الذي كان مقرراً أن يكون تجارياً، تحول إلى خاص جداً، يشبه لوحة موزاييك حملت بعضاً من أحلامنا في الطريق الذي يأخذ إلى الأثر المهجور، هناك بالإسمنت غمّسنا الحصى ورصفناها وتركناها تتقدم في العمر مثلنا، وبقيت ذاكرة الحجر تشهد بألوانها التي لا تبوخ، حتى بعد أن غادرنا كلٌّ في طريق.
ولماذا أسترجع حجارتنا والحصى الملونة في الطريق الصحراوي المقفر؟ قد تكون اللافتة العملاقة الموقّعة باسم وزارة السياحة والآثار الأردنية، وفيها تذكير بضرورة تسليم ما يعثر عليه من لقى، أوحت لي بالأمر. أو أنها البتراء الوردية بحجارتها، وبتدرج ألوان صخورها، فيها من رائحة الرمال التي تحكمت بذاكرة أنفي أيام كنت مراهقاً أجوب ورفاق الكشافة الطريق الوعرة إلى أعالي جبال لبنان على ارتفاع 1200 متر عن سطح البحر. كانت وجهتنا “محبسة” للزاهدين في الدنيا، يتطلب الوصول إليها نحو ست ساعات من السير على الأقدام في سلسلة منتظمة من الجبال والأودية . وفي الحقيقة لم تكن المحبسة غايتي بقدر شجرة قالوا بأن السيول جرفتها مع الرمال من البتراء الأردنية إلى غابات لبنان، وتحديداً إلى بلدة “قنات” التي هي في الميثولوجيا اليونانية تحريف لاسم “إناة” الفينيقية ابنة الاله الأكبر “أيل”. تلك البلدة التي تتماوج على سطحها الالوان الطبيعية الجذابة بين بنفسجي وماوردي واخضر، يخيل للناظر إليها في أول القرية وكأنها في واد، وفي آخر القرية يراها وكأنها على تلة، وبالنسبة الي كنت أنظر إليها من خلال تلك الشجرة التي يرجع عمرها الى حوالى 140 مليون سنة ، والتي نجح الفحم الأسود في تحويلها إلى قطعة من الألماس المتجذر في غير أرضه. ومن تلك الشجرة لا زلت أملك يا بتراء قطعة صغيرة من ألماستك وحفنة من رمالك.
وإليك أعاند بسيارة رباعية الدفع الطريق الذي يبعد جنوباً نحو 225 كيلومتراً عن العاصمة عمّان، وإلى الغرب من الطريق الذي يصلك بساحل خليج العقبة، إنما لأتعرف إلى الطبقة الجيولوجية التي تحملين لونها “إلينا”، وبحسب معرفتي بطبقات الصخور، فإن البتراء متحف كبير للفن الصخري، وهناك نوعان من المتاحف الصغيرة التي تعرض جوانب مختلفة من تاريخها، وهما: متحف البتراء الأثري ومتحف البتراء النبطي. ويعرض كلا المتحفين المكتشفات من الحفريات في جبال عالية منحوتة في صخور تبين معظم الفترات والعصور والأعمار على السلم الجيولوجي، ومنها صخور القاعدة الغرانيتية والصخور الرسوبية والرمال التي تتكون من فتات معادن الفلدسبار، و تراكيب جيولوجية كالصدوع والطيات، والمقاطع الجيولوجية المثالية التي تتجمل بألوان زاهية، إضافة إلى الينابيع والكهوف الطبيعية، والأحافير الممثلة لكافة العصور الجيولوجية.
في الطريق إلى المحمية الأثرية أخذت بنصيحة من اعتادوا زيارة مدينة البتراءالتي يستغرق التجوال فيها قرابة السبع ساعات من صعود الى الجبال الى مشاهدة الصخور والمعابد الضخمة في قمم التشكيلات الصخرية. وبين النصائح:”تحتاج إلى حذاء رياضي ، وبما أن الجو حار البس الأكمام الطويلة و الخفيفة وخذ ماء أكثر من حاجتك و لا تكن كريماً بزيادة لأنك ربما تود المشي أبعد مكان ممكن و يفضل الذهاب في ساعات الصباح الأولى و كذلك يفضل اللياقة للمشي اما اذا لم تكن من هواة المشي فأركب الجمال أو الخيل الموجودة هناك أو لا تذهب من الأصل ” .وفي تتمة للنصائح:”لا تشغل نفسك في بداية الطريق للتسلق .وفر لياقتك حتى تصل الى المكان الرئيسي للجبل و الذي يقصده السياح ولا تنسى الكاميرا”.
وكانت تحكمت البتراء ذات زمان عربي ذهبي بالقوافل التجارية على طريق الملوك بين حضارات الشرق القديم، وتبلغ مساحتها حوالى 264 كم2، مشكّلة الخاصرة الشمالية الغربية لشبه الجزيرة العربية، وتحديدًا لوادي عربة، الممتد من البحر الميت وحتى خليج العقبة، كانت البدوية العجوز المقيمة وزوجها في خيمة منسوجة من وبر الجمل، ومزينة بقطع جميلة من السجاد المخطط، تستعرض ما لديها من قوارير رمل ملون بأشكال مستوحاة من صحراوية المكان. كانت ترتدي المدرقة، وهي ثوب أسود طويل مطرز على الصدر والأكمام، وتعقد “العصبة” حول الرأس باتجاه الخلف، مع وشم في الوجه كشكل من أشكال التجميل.
وفي الخيمة، أو “بيت الشعر”، حظيت بضيافة ملوكية بحضور رجال يرتدون الدشداشة الزرقاء، وبعضهم الرمادية، ويضعون الكوفية البيضاء المخططة بالأحمر والمثبتة بحبل أسود يعرف بالعقال، وقد لفتني كبيرهم إلى أن واحدة من عاداتهم في ضيافة القهوة، تقديم ثلاثة فناجين منها يقولون بأنها: واحد لتكريم الضيف عند وصوله، والثانية للتذكير بشجاعة رجال البدو، والثالثة بدلالة على المزاج الجيد.
وفيما رُصِفت الأطباق على السجادة، تولى أحدهم التعريف بالمائدة، وتحوي طبقاً رئيسياً هو المنسف المصنوع من لحم الماعز المطبوخ في حساء من اللبن المخمر والمجفف (الجميد)، ويقدم في صحون واسعة مع طبقة من خبز البدو (الشراك) في الأسفل فوقه الأرز والجميد، وفوقها قطع كبيرة من اللحم. وهناك الرشوف المصنوع من الحبوب واللبن معاً، ويتم سكبه في أطباق ويؤكل مع قطعة من الخبز والسمن البلدي. أما الحلوى فلزاقية، وهي عبارة عن طبقات رقيقة من العجين تؤكل مع السكر والسمن البلدي.
وعلى الرغم من كثرة تردد الزوّار عليهم، ممن يعرّجون لشراء الرمل الملون المسكوب بحرفية في قوارير من الزجاج، فإنهم لا يسأمون يوماً من استرجاع حكايا أجدادهم هم الأنباط الذين كانت لهم أمجاد عامرة منذ أواخر القرن الثالث قبل الميلاد. وكانوا من القبائل العربية البدوية الثرية نتيجة احتكارهم تجارة البخور والعطور التي كانت مربحة، إذ كان البخور سلعة ثمينة جداً يستعمل كعطر وفي الطقوس الدينيّة، وقد نافس في قيمته الذهب، وكان الأنباط ينتجونه بشكل أساسي في بلاد اليمن.
ويخبرون كيف أنهم فرضوا الضرائب على طول طريق القوافل التجارية الذي عرف قديماً باسم طريق البخور، وهي نقطة التقاء بين حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام والجزيرة العربية ومصر وبلدان منطقة البحر الأبيض المتوسط (اليونان وروما) وآسيا، ممسكين بزمام التجارة بين حضارات هذه المناطق وسكانها. وكانت القوافل التجارية تصل إليها محملة بالتوابل والبهارات من جنوب الجزيرة العربية، والحرير من غزة ودمشق، والحناء من عسقلان، والزجاجيات من صور وصيدا، واللؤلؤ من الخليج العربي. وكانوا اهتموا بالزراعة من أجل تنويع مصادر دخلهم، ويمتلكون خبرة لا مثيل لها في تحديد طرق القوافل التجارية وأماكن وجود الماء، ما أدى إلى سيطرتهم التامة على طرق القوافل التجارية العربية. وهم ابتدأوا بسك العملات المعدنية في وقت مبكر من القرن الثالث قبل الميلاد، واستخدموها بصورة منتظمة أكثر في تعاملاتهم التجارية في القرن الثاني قبل الميلاد. وأصبحوا في نهاية القرن الأول قبل الميلاد دولة متحضرة مستقرة اقتصاديا واتخذوا مدينة البتراء عاصمة لهم.
وكانوا اشتهروا بالنحت والنقش على الحجارة والصخور والجبال. وقاموا بإنشاء العديد من المساكن الحجرية والمناطق المدنية والمنشآت المتميزة مثل مسرح البتراء الذي يتسع لعشرة آلاف متفرج. وعلى الرغم من امتداد مملكة الأنباط شمالاً حتى دمشق، فإنها فقدت سياستها واستقلالها في مطلع القرن الثاني للميلاد، وأضحت ولاية تحت الحكم الروماني. ومع ذلك، ظل طريق القوافل القديم بين دمشق والحجاز مستمراً حتى خلال الفترة الإسلامية، حيث كانت قوافل الحجيج تستخدمه للسفر إلى مكة المكرمة من بلاد الشام لفترة طويلة، إلى أن تم بناء خط سكة حديد الحجاز في القرن العشرين الميلادي.
وإلى الأرباح الكبيرة من التجارة الرومانية والهندية والعربية التي كانت تتم على أراضيها، إلا أن استيلاء الرومان على البتراء جعلهم يسيطرون على هذه الطرق. وقد بدأوا ببناء وتشييد أبنيتهم الخاصة، وأقاموا في المدينة مدرجاً، ومعبد “قصر البنت”، وهو البناء الذي ما زال قائماً في قلب المدينة حيث كان يقع السوق الكبير. وفي ذلك المكان كانت القوافل تقايض القوافل الأخرى القادمة من الغرب بالتوابل والعاج والعنبر والقماش. واستمرت البتراء مركزًا تجاريًا مهمًا لمدة قرنين آخرين من الزمن. وبعد ذلك تضاءلت أهميتها مع استمرار بعض المدن في الشمال مثل تدمر بجذب التجارة إليها. وبالتدريج غادر التجار وغادرت معهم جيوش الرومان التي كانت مهمتها حماية الطرق التجارية. وبعد تحول الإمبراطورية الرومانية إلى الديانة المسيحية، حظيت البتراء بمطرانية، وتحولت بعض أبنيتها إلى كنائس. لكن المدينة التي حكمها البيزنطيون، فقدت مجدها السابق، وأصبح من تبقى من سكان البتراء يعتاشون على الزراعة. وكان أن ضربتها الزلازل المتعاقبة فهجرها سكانها بعد أن كان وادي موسى منطقة خصبة، وبه مياه وفيرة. فدخلت المدينة في سبات طويل في الفترة العثمانية، وحتى إعادة إكتشافها في عام 1812.
أمّا حصيلة جولة “المدينة الوردية” بخصوصك، فلا طبقة حجرية تشبه لون الحجر الذي شكّلك من فتنة وحياة، ولا أثر لك هناك، وإنما تشابها في المعتقدات بين نسوة البادية وقناعات مايا بخصوص مقدرة الحجارة على التحكم بمصائر الناس، إذ تبرر العجوز ملازمة الحجر الفيروزي الأزرق من حول عنقها بأنه لصد شر الحسد والعين ، وهو الفعل نفسه ظل ملازما لمايا على مدى سنوات إضافة إلى خرزة بنفسجية اللون من حجر الأماتيست حصلت عليها من جدتها لقناعة بأن هذا الحجر المعروف ب”حجر المعشوق” له قدرات خارقة لجهة تنبيه الذهن وطرد الوساوس والهواجس وإزالة التعب، وفيه دلالة على الحب والصدق والشجاعة ويقظة الضمير.
(لن أحكي عن أول قبلة بيننا..)
حواس
ومن القبلة تولد فراشة على خدّي الأيمن، وتطلب: تمنّي في حواسك واغمضي عيون الظل بيننا، ينهرني الأيسر معاتباً: أين فراشتي في سَبل الشفاه؟ في مجازات اللحظة؟ في ضياء يحوط بي؟ في رعشة بلسع النار؟ في فراشات قرمزية بلا قلب بلا عقل بلا رئتين، فراشات تتنفس وجهك، تسبح فيه مثل يرقات تحلم برفرفة أولى وتعاود المحاولة.
وما من خد يساوم على فراشة تأتي بغتة، تعلّمه كيف يظل حياً، حيياً، متورداً، صارخاً بالنبض وبسمفونية من ألوان وتوازن أضداد ونوتات على مقام قبلة، تصدح في الروح، تغني، تحتفي وبهشاشة الجسد تسجّل حبوها انتصاراً وتختال.
لذلك الفراشات لغة الخدود مطبوعة بعيون القبل، بعينيك، بشرودي، بتآلف الأرواح في ارتقائها، في تصادمها، في تقاطرها شرنقة بألف خيط، في انسدالها على الخدود وحول العنق وكم هي حارة لغة الفراشات حين تغادر شكلها الأوّل، حين ترتقي لرائحتها، حين تلفظ الدودة الطفلة منها وتتمختر مثل طاووس ينشر جناحيه مروحة لأنثاه.
ولذلك الخدود لغة الضوء مطبوعة في عينيّ فراشة، في النقطة الزرقاء الهاربة من إنذار ، من فعل، من ارتكاب قبلة، من فرائس الروح، من بدائية الحروف، من كأس تثمل وتضحك وتقامر بالحواس وتنتشي، ثم حين تستيقظ تبحث عن لون الحياة فيها، عن بريق، عن مغامرة، عن تلامس، عن جرعة حب تضيفها إلى دفتر الأيام المحفوظ في حلو العمر عن ظهر قلب.
ولذلك أنت لغة خدودي في طلاقتها، في تلعثمها، في تعثرها، وفي تعريب مفرداتها هاربة من نظرة شغوفة، من فراشة ملونة، من أصابع تعزف على وترها وانقبضاتها وروحها، من مذاق ضوء سري يسري أول الصباح ، من لمسات حارقة ، عطر ، عينيّن مضيئتين، فكرة، خطوة، صمت، وتحية تتمادى وتترنح ودودة في الانتظار .