تربية وثقافة

رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. “الجزء “7”..

رولا عبد الله/ لبنان

خاص “المدارنت”

يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “7”، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.

(نص راقني فيه أنها تخاطب رجلا يحمل لون سمرتي، والكثير من ملامح وجهي، وعطر النرجس الذي اختاره بحرفية عاشق عطور)

 نرجس

أشتاق لأن أتغزل بك، وتغرق أصابعي في خصلات شعرك البني، ويرشح وجهي من سمرة وجهك في عناق لا ينتهي، وتحبو الأصابع رويداً رويداً في انزلاقها الدائري من أعلى الجبين إلى الخد الأيسر، إلى شفتيك، إلى خدك الأيمن، إلى أعلى الجبين، إلى خصلات شعرك، إلى حظوة في عينيك العسليتين، إلى أنفك أمسده من الأعلى إلى دوائر الفتحتين، إلى استجداء اللحظة، إلى أنفاس معتقة برائحة تبغك، إلى يدك في يدي، ثم على خاصرت، ثم على الصخب والعشق وجنون اللحظة.

 وتأخذني إلى حيث نفرد أكوام الرمل على الصخور المسننة، ومنها نصنع مملكة تنهض من صبّار الأرض إلى تيجان مكللة بالغار والبنفسج، وتطل بقامتك كأمير يقبل من انتصار وترفع يمناك وتقسم بمجد الغار أن تبقى وفياً لشعبك، وليس في مملكتك إلا أنا وطيور ترفّ آتية من بعد غربة. وتبحث عني من بين الطيور، أصفق لمجدك، وترتعش يداي، وتتجلد قدماي ويجفل قلبي وينبض صدغي.

وتتقدم إلي، وتمد يدك أن تعالي يا مليكتي، تعالي مع الربيع الذي هلّ، ومع الزهور التي بدأت تسطع، ومع صوت اليمامة ينادي في أن تنهزم الظلال، ومع فتات من حب يتساقط من السماء، وخفافاً يغمرنا، فتسربلني ركبتاي وأرنو إلى قدمي العاريتين في الرمال، وأسقط أمامك كجوهرة أحطمها مئة قطعة، ومنها أطوق عنقك بأجزائها، وأغرس غصن الزيتون في شعرك، وأدمج في شعري عطر شعرك وحلو الكلام، وأسأل أين حدود مملكتنا من القلب، من التمتمة الهامسة، من مغالبة الحياء، من عيون مثقلة بالشهوة، من كلمة عابرة تطلع من روحك، ومن أمواج البحر تغمرني بك، ومن ربات الجمال النحيلات يصوبن الحب في سهام، ويشبكن في إصبعي خاتماً فضياً، ومن زفير الريح في لحاقه بنا وإفلاتنا منه تغطينا الرمال والسؤال: أتكون عيناك سر دروب مملكتنا هذه، ويكون على عينيّ أن تجوبها في عينيك، وأن تسبح في قبلة تباطأت وتثاقلت وتخلّفت على عينيك، وأن تنسكب دمعة فرح تتدحرج على خدك وتنحرف قليلاً عن شامة سوداء صغيرة لتكمل لهوها بينما النعاس يدغدغ مملكتنا، ويدغدغ شوارعها والصدى الآتي من صدفة في قلب الرمال، الصدى ينده، وأردد معه: أشتاق لأن لا يزاحمني أحد على اللحظة، ولا حتى ظلي العالق في ظلك، لا أحد، لا أحد.

  وأفشي لك برائحة:

 لا أحب النرجس، أخاف عليك منه، كلما شهقت الرائحة بين معطفك وبينك تاركة لأنفي الخيار: لعله “أزاروا”، ممزوجاً برائحة تبغك وبطفولة لطالما أخذتني إلى حيث الرائحة تصنع زهرة من أوراق مغزلية ومناديل رطبة تمسح بها وجه الصباح، ومن الحب الصامت تصنع باقات مدرسية بالأبيض والأصفر، عطر محار وحكاية إغريقية “عن نرسيس” الفتى الجميل، وعن الجميلات اللواتي أغوينه، وعن وجهه الذي تمرأى فتنة ما بين السطرين، تموج به بحيرة خضراء ابتلعته وما زالت تفيض دمعاً، وتفيض عطراً وشلالاً من أزهار نرجس تتفتح أوراقها مع أوّل المطر، وتموت ناقصة عمراً لأن المكتوب في المرآة مكتوب على الجبين، وعلى الضفاف وفي نوتة جسدين عاريين يتلويان ضياء على أنغام السكون ولمعة نجم ساهر وتشابك البلور بالاغصان بنبتة خرشوف بغصن شجرة بتباشير الفجر بنداوة صبية تغترف من العين روعة انعكاس الضوء في عمق عينيه، نرسيس الفاتن، وأقول لحبيبي: إلا النرجس، يكفي الذي كان النهار، وصار قيامة في وردة لا تلبث أن تذوي مثل العمر الهرم، لا تلوي على ساق.

 وأدندن في همهماتك السكرى بعناق خدينا: لتكن روحي مرآتك، والصفحة الخضراء من البحيرة اكسرها بيدك دوائر تتماهى في دوائر، وإن راودتك الرائحة سلها عن زهرة الحياة، الزهرة التي فيها قيامة بعد موت، واشتهاء بعد أفول، وسيمفونيات غابات الورد، وشذى العرض: انثرني أوراق زهرة بشفتين تقفزان إلى قبلة، بعينيّن مضيئتين، برعشة جسد حر شفاف تتعطف به، ببسمة من ماء، وضفائر تشكلها الريح، تجمعها بقبضة كف، وانفخ في الكف، دوائر عطرة تذرها بين النهدين وعلى حافة الظلال وفي الزوايا، مثل تعويذة تطوف في الجبال، في الشوارع، في الأسواق، في الأبنية الشاهقة والبساتين الحبلى بالثمر، تعويذة تطلع كأعمدة من عطر، تنادي بالحياة، تنادي بالحب، تنادي بالجمال، بأريج “نرسيس” الذي سقط في البحيرة، وتسأل: ما أحوال الفتى الجميل العالق في مرآة؟ وأقول لحبيبي: “على فكرة، يليق بك عطر نارسيسو رودريغوز، أليس هو؟”.

 -5-

الشيخ حرمون

فجر الرابع من آب، على ارتفاع 1814 متراً عن سطح البحر، أتربّع في يوم التجلي على قمة جبل الرؤى “حرمون” ، يداي مضمومتان في حالة صلاة.

في ذلك اليوم، لم أكلف نفسي عناء البحث عن إلينا، ولم أدخل في جدول أوراقها. كان يكفي لحدسي أن يدلني إلى تلك القمّة حيث تدور مراسم تطويب الشمس. كنت محصناً بثياب لا يخرقها الصقيع القارس في درجات حرارة تقارب الصفر ليلاً، ولم يكن الوصول إلى هنالك باليسير، ممسكاً بعصاً غليظة في طريق شاق جداً، وعر، غير مؤهل إلا من ذلك السكون الذي يُدخل الزائر في حال من التجلي.

 وكان الجبل الأجرد في الماضي السـحيق مكسـواً بالأشـجار والغابات الكثيفة، يتشابك فيه السنديان، الملول، البلوط، الشوح، الزعرور، الشربين، البطم، البرقوق، القيقب، والعجرم. ومنها ما هو صالح للأكل، كالخبازي والهندباء والرشاد والشومر والزعتر. وكانت أخشاب لبنان عامة وحرمون على الخصوص، تموّل دور الصناعة في العالم القديم، ولا سيما صناعة السفن.

 هناك في الأعلى تربعت، أرقب الأفق، من دون أن أحكي أو تتلاقى عيوني بمتحرك، أصغي إلى الطبيعة في تحولها من الشتاء البارد إلى الصيف الدافئ، وفي انتقالها من الموت إلى الحياة، وكان من ضمن الشعائر القديمة تقديم النذور والذبائح لإله الشمس، حيث يوجد أعلى معابد العصر الروماني في الشرق ومساحته لا تتجاوز الخمسين متراً، إضافة إلى أكثر من 25 معبداً تتوزع على سفوح جبل حرمون، وكان قصر شبيب يشرف على جميع هذه المعابد.

  وقبل الانتقال إلى صخرة التطواف، ومنها إلى مغارة يتوسطها عمود صخري يربط قعرها بسقفها، دلالة على ارتباط الأرض بالسماء، انحنيت لأغرس شجرتي أرز وبجانبهما أطلق حمامتين بيضاوين، وأتمنى ..

 وعاد بي سؤال حملته إليّ “مايا” يوم ترافقنا في رحلة كشفية: “من يصعد إلى هنا المؤمنون وعشاق المرتفعات. فأي الفئتين أنت؟ وكنت بادلتها بخيار ثالث في أنه الصوت الذي يأخذني إلى الأعلى مستسلماً لتدرجه على المنحدرات من أعلى معابد الشرق في قمة ذلك الجبل على ارتفاع 2814 م، إلى تلك القبة المخروطية التي ترتفع عما حولها من الأرض نزولا إلى الأسفل مرافقاً حجارة صغيرة يرميها الزوار ثم لا تلبث أن يحملها آخرون معهم إلى الأعلى كرجع الصدى.

وفي ذلك اليوم أخبرتني مايا عن ترجيح بأن تكون الكعبة المشرفة بنيت من حجارة أحضرت من خمسة جبال كان حرمون أحدها. وشرعت تحكي لي عن الجبل ذي القمم الأربعة والذي رأسه مكلل بالثلج كما يكمل الشيب رأس الانسان. وحكت عن جلجامش الذي وطأ في الأسطورة الملحمية السومرية أرض الخالدين حرمون.وهناك نام في سفح الجبل وحلم رؤية تصور مصير الكون، ومنها اكتسب الجبل توصيفه بأرض الرؤى.

وبينما أخذتنا الطريق يومها إلى هيكل “بعل” الذي بناه الفينيقيون على الصخرة الكبيرة التي تكلل قمته، وهو مبني بالحجر الأزرق المدقوق دقة ناعمة، ومحاط بسور مستدير من الحجر ذاته والدقة ذاتها في خرزات متساوية الأحجام، ارتمينا على العشب الرطب نصغي إلى الدليل بينما يصوغ حكاية المكان:

“… وكان الفينيقيون يحجّون إلى حرمون أواخر الصيف لتقديم القرابين. وكان من عاداتهم سكب جرار الماء التي يحملونها من البحر على أرضه، إيماناً منهم بأن فعلتهم هذه تنيلهم رضا الإله، فيستمر بتزويد الينابيع بالمياه إلى آخر الصيف”.

ومن الدليل كنا نتسلل أبعد بقليل لأتسلّم مهمته وأخبر مايا عن جانب من طفولة لم ترافقني فيها:

     “كانت جدتي لأمي، وهي من أصول يمنية تواظب على زيارة قصر شبيب المجاور للمعابد باستمرار، وبرفقتها كنت أعاني مشقة الصعود إليه، منهكاً أعيد ترتيبه في ذاكرتي من عام إلى عام، على ضخامته وروعته والآثار التي يحويها. وعلى حد ما كانت تروي لي، فإن الملك شبيب، الذي كان له قديماً نفوذه الواسع في المنطقة، يأتي من اليمن ليقضي الصيف في هذا المكان، حيث أي إطلالة عليه تضفي لوناً مختلفاً يتبدّل ويتنوّع في النهار الواحد بتبدل الساعات ومواقع الشمس. فعندما تميل الشمس إلى المغيب، تتحوّل السمرة التي تغلب على الجبل إلى صفراء، وتغدو التربة بنفسجية، حين ينعكس عليها الغسق، ثم يمّحي المشهد المزخرف عند هبوط الليل ملتهماً تيجاناً مشابهة لمعابد باخوس وجوبيتر في بعلبك.

 وكانت جدتي من على قمة حرمون تطلب الصحة لأولادها، لإيمانها بأن الدعاء من أعلى تلك القمة مستجاب لأهمية المكان الذي كان واحداً من خمسة جبال أحضرت منها حجارة الكعبة المشرّفة. وهناك العشبة القاتلة للأمراض، كانت تنبت في تلك الأرض، ويقصدها الرحالة والزوار بحيث تبعث إشارات ضوئية تحدد بوضع الرماد عليها لتمييزها في الصباح بعد شروق الشمس. وفي ذلك الجبل ظهر نبات الزلّوع، ومنه يوزع للعالم عسل جبل الشيخ “.

وها إني أعود إلى المكان وحيداً أبحث عن أثر لحياة .أسند قامتي للصخرة العالية المسماة قديما ب “قدس الأقداس” فأتذكر بأنها مثقوبة بفتحة دائرية في الوسط بعمق ثلاثة إلى خمسة أقدام وتستخدم مكانا لإيداع الندور من جانب الصاعدين إلى الجبل . أبحث في جيبي، فلا أجد سوى السلسلة القديمة الموصولة بساعة  تعطلت عقاربها. ألقي بها في الفتحة ، وأنتظر صوت ارتطامها على حجارة تزاوج بين احتمال أن تكون كلسية أو بركانية . وفي الحالتين أتحسب لفكرة أن تكون البوصلة أيقظت الموتى ، وربما يغضبون ، وربما ينفجر المكان الذي كان بركاناً. أبتسم للفكرة التي حملتها إلي مايا قبل سنوات.وأبتسم لأحوالي أنا رجل العلم المكبل بذكرى أنثى مجبولة بالأساطير و بالحجر.

-5-

(النص الخامس يسلمني للعبة قديمة تبدأ من نزع أوراق زهرة بيضاء لا يبقى منها الا قلبها الأصفر ونتيجة من احتمالين: يحبني ..لا يحبني)

  نزق

  أيها الراقص على شوار الليل، يا حبي الطالع من مجد الأرض، من عنفوان نجمة، من نزق الفجر، من فنجان قهوة معتق بشفتيك، من غزل لحن وأغنية وعود، من غفوة على صدرك الخافق بأنفاسي، من اعترافي في عينيك أحبك يا ماكر يا روحي يا نغمة الدمع تتدحرج كالنوتة.

  أحبك يا أنت، يا نظرة، يا وصيّة الشمس، يا أشعة فوق بنفسج الروح، يا زهرة القيامة، يا بيلسان العطر في عبق الجسد، يا احتراقي فيك وبك ولك كل هذه المذاقات، الأسماء، المدن، وأجزائي التي ألملمها واحداً واحداً.

   وأبقى أحبك في اشتعال اللحظة، وفي اللحظات المتجاورة، تزاحمني على ظلك تحت قناطر تنحني لينبوع في الصخر، لعريشة تتدلى، لمصطبة ياسمين، لنبتة متسلقة على كتفينا، لتثاؤب الطير في نصف غفوة ونصف يقظة وبينهما أبحث عن عينيك، عن اشتعال الماء فيهما، عن اسمي، وأسألك: ماذا كان اسمي منذ ألف عام؟ وماذا أكون بعد ألف عام؟ وماذا نكون بعد ألف قصة حب، مليون نجمة وكسر من الشهب وبضع احتراقات.

   وفي التيه أحبّك بعدد الدقائق بيني وبينك، وفي الدروب بعدد خطاك أقتفي براعم العمر وأسأل ورق الزهر: يحبني، يحبني أكثر، يحبني أكثر أكثر، يحبني العمر كله وبعد العمر أصير نافورة ماء ومجرى نهر وصفصافة وحورة ماء ومقعد جاهز وجسد يمسح على جبينك كما في الخيال، وفي الغمام كما في ثنايا القبل، وأعيد وأقول: أحبّك بلا رجوع.

   وتجلس في طريقي، ضوؤك قمري، أرجواني، وشعلة الحياة بها أغسل وجهي، وأردها اليك في النبض وفي الحواس وفي اللمس، وفي اشتعال الصمت بيننا، وفي خدر اليد في اليد، وفي شوق الهتاف لاسمك يا حبي السرمدي الماسي المسافر إلى دمي، ويا زحمة الحياة في الأمسيات تأخذني إلى مدنك المعلقة، تتأرجح بين جفنيك، تنام على كتفي وتحلم بك من كل مكان تأتي، ومن كل صوب أنده: يا روحي في روحك كيف الحال.

 -6-

مصارع عمريت

   في حضرة لغز جديد تلقي بي الأوراق والرسوم . وحدي في ساحة مدرج روماني بمواجهة مصارع مدجج بأسلحة بدائية. أدقق في الرسم، فإذا به رسمي مع لحية خفيفة و سمنة زائدة . خلفي جمهور عريض ، وفي المقدمة إلينا من بين الحشود تصرخ ، تبدو ملامحها متوترة ، قبضة يدها مشدودة نحو الأعلى ، ربما كانت تهتف مثل حال الجماهير في فيلم “المصارع”  لراسل كرو : اقتله ..مزقه إربا إربا .

   أهلا بي إذا في عمريت هذه المرة ، وقد أخذتني إلى هنالك في رسومات لا أعرف إن كنت عشتها في الحقيقة أم لا ، لكن الأكيد بأنّ صاحبة الأوراق تعرفني كثيرا وإلا من أخبرها بالجرح الذي في كتفي والذي يظهر في الرسم على أنه طعنة خنجر . غريب أمرها وأحوالي معها تلك السارحة في ملاعبي كما تشاء.   ولم أصمد كثيراً في ميداني المنحاز لها مصوّباً وجهة بحثي عن دليل إليها من جهة عمريت، حيث عبرت من جبال لبنان إلى أقصى الركن الجنوبي لسلسلة الجبال السورية الساحلية . وكنت اعتدت مثل تلك الرحلات الاستكشافية في المعمورة العربية ، يساندني “GPS” الهاتف الذي غدا بوصلة رحالة هذه الأيام.

  ساعات وصلت بعدها إلى قلعة يحمور التي راقتني في زيارات سابقة حجارتها الحمراء. تتبع القلعة ناحية خربة المعزة من محافظة طرطوس ، وهي مبنية أيام احتلال الفرنجة للساحل السوري. وبحسب الحفريات المتتابعة فإنها تقوم فوق أقدم مناطق ظهور الانسان في عهد ما قبل التاريخ ، وفيها عثرت البعثات ومن ضمنها واحدة كنت في عدادها على تمثال إلهة الحب أفروديت ، وتمثال مجهول الهوية ناقص الرأس والسيقان جالس على كرسي ونصل سيف متوسط الطول من البرونز نقش على سطحه اسم الفرعون “منبتاح” من السلالة التاسعة عشرة الحاكمة في مصر ،إضافة الى قطعة نقد فينيقية مؤرخة من القرن الرابع قبل الميلاد تصور على الوجه سفينة حربية مبحرة فوق أمواج بشكل خطوط متعرجة ويعلو مقدمتها رجل يوجه المسير وتعرف عنه القطعة النقدية بأنه ملك صيدا “عزبعل”…وكل المكتشفات أودعت في حينه لدى متحف طرطوس.

 أمّا لماذا أعرّج بداية إلى القلعة التي تعد جزءاً من مملكة عمريت ، فذلك لأني كنت سمعت من المسنين في قريتي بأنه يوجد نفق تحت الأرض يصل المعبد الأثري الموجود في قريتي بطرابلس وأرواد وبرج صافيتا وبرج ميعار وقلعة العريمة وصولا الى عمريت ضمن شبكة اتصالات متكاملة كانت تستخدم في أوقات الحروب والأزمات ، إلا أن لا أثر لتلك الشبكة لغاية اليوم ، ولا حياة في القلعة بعد أن كانت مأهولة بالسكان لفترات قريبة .

ومن قلعة يحمور دخلت الى عمريت حيث بدا كل شيء مطلياً بلون الرماد، حتى الأشجار والتراب ، مع بقايا بقع داكنة تصلح لأن تكون دماء في ذلك المكان الموحش من زمن المنشآت الرياضية العملاقة وحلبات المصارعة الرومانية. وكما توقعت فإنّ عشرات التماثيل موجودة على أدراج أقدم ملعب فينيقي في عمريت، أكبر مدن الشرق القديمة على المتوسط. وكنت تعرفت في السابق إلى مدرجَي “أودنا” و”الدجم” في تونس، وإلى مدارج “بوتسولي” و”بومبي” و”الكولوسيم” و”فيرونا” في إيطاليا، وإلى ساحة “لبتيس ماجنا” التي أسسها الفينيقيون في ليبيا، وإلى مدرج “نيم” الذي كان مسرحاً لمصارعة الثيران في فرنسا، وإلى مدرج “بولا” في كرواتيا، وإلى مدارج صور وقرطاجة وغيرها… إلا أن  مدرج عمريت يفرض هيبة خاصة ووهرة المكان المزدحم بال”أكشن”.

وكان الملعب الأولمبي يتربع على خط سير المبادلات التجارية الدولية بين بلاد اليونان والمدنيات الشرقية، قبل أن تدمره مملكة أرواد المجاورة، وتبقى عمريت المدينة الفينيقية الوحيدة التي لم تُبنَ الحضارات اللاحقة على أنقاضها، وإنما إلى جوارها.

     على ناصية المدرج عثرت على التمثال في نسخة طبق الأصل، إنما بشق في الرقبة، فما الذي أخذها إلى هناك؟ وما الذي أخذني إلى منطقة الشاليهات في عمريت مخطوفَ الأنفاس لولا الشوق إليها، وتلك النظرة اللامبالية لامرأة متأهبة على الدوام لاستقبال الموت أو الحياة بكل رحابة صدر. وتماسكت في حضور لجنة تعاين المدرجات، لكني ضحكت وشخّصت حالها: سمنة زائدة.. أوليست هي؟ أما أنا فلا أثر لي إلا في الرسومات وذاكرة الأوراق التي اقحمتني بها عن عمد وترصد.

وفي حضرة الملاعب أنحني لهيبة المكان وأبحث في الأوراق عما تخبئ عن عمريت:

من أوراق إلينا: “كانت الألعاب تجري في تلك الملاعب لأغراض دينية وطقسية متداخلة مع منافسات رياضية تكريماً للإله ملكارت – هرقل مع ما يرافقه من مراسم وطقوس بدأت في فينيقيا وانتقلت عن طريق الفينيقيين إلى اليونان، وجاء الرومان ليحولوا تلك الملاعب إلى مسارح ترصد تاريخ المصارعة الرومانية القديمة بكل ما فيها من وسائل ترفيهية وطقوس دموية متوحشة تحلل تقديم القرابين في ساحات المسارح والمدرجات الرومانية الممتدة حيث كان الأباطرة يروجون لهذه العروض من أجل استغلالها في الدعاية السياسية تعبيراً عن تضامنهم مع الشعب وتقاربهم من الجماهير، إلى جانب تأكيد بسط سيطرتهم على البشر والحيوانات معاً.

  إذ كانت المصارعة تبدأ بطقوس وحشية بين السجناء والحيوانات، ثم سباق المركبات في السيرك وعلى المدرجات. وخلافاً لطقوس الفراعنة الذين ابتكروا فنون المصارعة، فإن الرومان استخدموا الأسلحة الفتاكة، ومن ينتصر يقتل الخاسر بوحشية. وكانت مضبوطة بالوقت والساعة والمكان وممنوع خلالها هروب المتصارعين من الحلبة وإلا عقابهم القتل، وغالباً ما كانت تنتهي المباريات بالقتل، والملك هو من كان يأمر الفارس بقتل الخاسر، ومن يرفض يُقتل من قبل الحراس، والأسود كانت تستعمل جداً في هذه العروض، وبذلك فالمصارعة الحرة الرومانية هي الأكثر وحشية ودموية بين كل أنواع المصارعة، بحيث يتواجه مُجالدان مسلَّحان في حلبة مصارعة رومانية. ‏ وعندما تصيب ضربات السيف الأولى الترس، يهتف الجمع الشديد الاهتياج محمِّساً المُجالد المفضَّل لديه. ‏ فيجري قتال مرير. ‏ وسرعان ما يُجرَح أحدهما ويصبح غير قادر على مواصلة القتال. ‏ فيسدل يديه ويجثو على ركبتيه معترفاً بالهزيمة وملتمساً الرحمة. ‏ فيتعاظم الهتاف،‏ ويصيح بعضٌ من الجمع طالبين ان يُرحَم،‏ وآخرون أن يُقتل. وتشخص كل العيون إلى الأمبراطور الذي يعي رغبات الجمهور، ‏ ويكون باستطاعته ان يعفو عن المحارب المهزوم، ‏ أو أن يأمر بقتله إذا ما أشار بإبهامه نحو الأسفل. ‏وكانت تلك المباريات تُقام أصلاً في مآتم الوجهاء. ‏ ويُعتقَد أن أصلها يعود إلى تقديم الذبائح البشرية لاسترضاء أرواح الموتى. ‏ وكانت تلك المعارك بالنسبة للرومان هي تدريب جيد لأمة من المحاربين في بعض الأحيان.

وكانت إجراءات الإعدام هي التالية في البرنامج. ‏ وقد بُذِلت الجهود لتقديمها بإبداع، فتُعرَض مسرحيات أسطورية يموت فيها الممثلون فعلياً. ‏ ومن ثم ّ ترفع الستارة عن المصارعة النسائية، الخدش وتمزيق الثياب والمفاتن التي تقف في مهب العنف والسباب وشد الشعر… وكل هذا غدا خارج دائرة اهتمامي أنا المشغول بك والخائف عليك مثل خوفي على كنز في أن يسبقني اليه آدمي”.

  في طريق العودة مررت بمدافن عازار التي تعتبر رحم عمريت… حيث اعترض طريقي حارس واحد ببارودة قديمة. بضع كلمات وتحول الحارس إلى مرشد سياحي في المكان. نزلت حفر التنقيب المغطاة بشوادر من نايلون، قبور منحوتة بالصخر، قبور توحي بأن الأجداد كرّموا موتاهم… وكانت قبور عمريت تحفاً فنية وهندسية مليئة برموز وفلسفة الخلود، ومن سوء حظ تلك الآثار أن تقاليد الفينيقيين كانت تقضي بدفن ممتلكات الميت بما فيها من حلي وذهب معه، فكان أن تعرضت للسلب والنهب.

 وثمّة أمر استرعاني في أن وجوه الموتى تعلوها ابتسامة اللامبالاة والسخرية واستقبال الموت برضا واطمئنان وعدم خوف… ما يدفعني لأسأل: أهذه عادة.. أم أنها ليست فينيقية؟

ووصلت إلى نُصُب بعل عمريت. كان يحمل هراوة بيده اليمنى وشبل أسد في اليسرى. اقتربت منه وخلت أنه يهمس في أذني؟ انتظرت في أن ينطق الحجر، أن يسرّ إليّ بأمر، حكاية مثل التي تخبر عنها مايا، وربما أكثر تشويقاً وغرابة.

انتظرت وبقي صامتاً صمت الجبابرة.

 

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى