تربية وثقافة

رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. “الجزء “9”..

رولا عبد الله/ لبنان

خاص “المدارنت”.

يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “9”، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.

قرطاج

  حين سألت عن موطئ شيخة الأشجار، عايرتني العجوز داخل دكّان السمانة الوحيد في القرية بأننا نحن الأولاد كنا السبب في يباسها ومن ثمّ سقوطها المدوّي في إحدى الليالي العاصفة ذات شتاء. وكيف أننا كنا السبب؟ تعلل: “المسامير الصدئة التي دكت في جذعها، أكثر من عشرين مسمارا كانت كافية لهلاكها”. أمّا العرزالة التي نصبناها فيها، فتشير إلى شجرة سنديان متوسطة الحجم مطمئنة : “هناك في الأعلى نصبتها مجدداً. كنت أعرف بأن لا بد أن يعود أحدكم ويسأل عنها”.

شكرتها فيما خيط الذاكرة يردني صبياً إلى أيام كان عمري سبع سنوات. حينها كنت الزبون المدلل لتلك العجوز التي تجيد تحضير “الدقة” وبيعها في أكياس ورقية صغيرة للأولاد لقاء مئتين وخمسين قرشاً لا غير. أمّا كيف كانت تصنع الدقّة، فما عدت واثقاً من المكونات المطحونة التي قد تكون حمصاً أو ذرة مع قليل من السكر..ولم أسأل لأن النعاس كان بدأ يتغلغل في جسدي الذي مددته على عرزالة منصوبة بين الأشجار بعلو نحو مترين ، أطرافها مصنوعة من القصب ووسطها من نبات البلان وفوق الأخير لباد صوفي مغلف بوصلات ملونة من قطع القماش . والعرزالة موصولة بسلم خشبي مثبت بالقصب من الأمام، أما الطرف الآخر فمثبت  بالأرض.

دقائق غفوت بعدها مستسلماً للنسيم ولحلم جعل من إلينا كتلة حياة نابضة. تقدمت إليّ وبيدها البيضاء اليمنى أمسكت بيدي وسحبتني إلى ما يشبه سحابة بيضاء في آخرها لافتة زرقاء تشير: من هنا الطريق الى قرطاج  التونسية. وكان أن عبرنا نفقاً  في البحر محاصرين بأجراس تقرع وباحتفالات وأوركسترا وثمار برقوق ملونة فيما كل الأشياء تصلصل وتقعقع من حولنا.

وكان ذلك النور الذي خرج من بين الكثبان الرملية صوب البحر تظلله طيور البجع، فلا العواصف الرملية أثنته ولا البحر غمره، وكانت تفوح رائحة زكية في الأرجاء، وكلما هاج البحر احتدّ الضوء لتعود صفحة المياه إلى الهدوء مرة أخرى.

ووقفنا على مفترق مائي، وأشارت: من هنا إلى جبيل ومن ثم إلى مرافئ دلتا النيل، ومن أوغاريت إلى شواطئ آسيا الصغرى ، ومن صيدون وصور إلى مدن كنعانية ، ومن صور إلى امبراطورية قرطاج فأي الطرقات نعبر؟ خيّرتني.

 وبلغنا أليسار بلمح المخيلة، متلألئة على هضبة مرتفعة. كان في محاذاة الشاطئ ميناء طبيعي وقوارب. وببديهية رجل التاريخ، رحت أعاين حدود جلد الثور الذي ابتدعته الملكة لانتزاع أكبر قطعة أرض ممكنة لبناء مدينتها، ولاحقت خط بناء الأساسات، منذ عثر البناؤون على رأس ثور، وقالوا: فأل الخصبة ولكن من الصعب أن تنمو والمدينة مصيرها العبودية الدائمة. ثم انتقلوا إلى حيث وجدوا رأس حصان، فقالوا: هذا فأل قوة، ما يعني أن الشعب سيكون قديراً حربياً وقوياً، فبنيت المدينة.

 وعلى مداخل المدينة تعرفت إلى جيش قرطاجة الملون والمرابض هناك، جيش علمت من جنوده بأنهم من المرتزقة المكلفين حماية الامبراطورية على اعتبار أن حياة أبناء قرطاج ثمينة لا يخاطر بها إلا عند الضرورة. وأخبروني بأنهم من البربر ومن متشردي الأرض، ولكل جندي بزته وأسلحته الخاصة به ودينه ولغته.  فكان النوميديون يلبسون جلد الأسد ويركبون خيلاً سريعة ويطلقون القوس وخيولهم تعدو عدواً. وفيهم الليبيون وجلودهم سوداء مسلحون بحراب، وفيهم الأيبيريون في إسبانيا لباسهم بياض مزين بحمرة وسلاحهم سيف طويل وجماعة مدربة على رمي الحجارة أو كرات الرصاص بالمقاليع، أما القواد فكانوا من القرطاجنيين.

وفيما دخلت وإلينا في غمامة بيضاء رطبة، وكان إحساسي بأني معلق بين السماء والأرض، رحت أنصت لصوتها وهي تحكي:

“كان بناء المدينة جميلاً ومنظماً، وميناؤها يشبه ميناء مدينة صور التي أرغمت على مغادرتها بعد وفاة والدها ملك صور ميتينوس وتسلم شقيقها بيجماليون الحكم وقتله لزوجها ومحاولته استهدافها. لهذا اختارت الساحل الإفريقي مقراً لمدينتها التي أثارت إعجاب أحد الملوك النافذين في الجوار، وكان أمامها إما القبول بعرض الزواج به أو وضع حد لحياتها واحترام ذكرى زوجها، فأقامت محرقة كبيرة عند أبواب المدينة لتقدم عليها الضحايا لروح زوجها، قبل أن تصعد إلى تلك المحرقة وتفتدي بحياتها شعبها الذي عاش يبجلها مدافعاً عن مدينة غدت قوة سياسية سامية جديدة في غربي البحر المتوسط إلى حين انتصر الرومان على القرطاجنيين، فسويت المدينة بالأرض، وقد منعوا بناء أي مسكن عند موقع المدينة المهدمة، التي تركت طعاماً للنار لمدة سبعة عشر يوماً، حتى أصبحت كومة رماد، فأعملوا المحراث فيها، وأزيلت عن الأرض لتبقى في ذاكرة التاريخ الفينيقي”.

وكان عليّ – وما زلت محاصرا بالغيمة البيضاء – أن أتجاوز أنقاض خرائب قرطاجنة، وعويل النسوة يمزّقن الجزء العلوي من أرديتهن ويخدشن وجوههن وصدورهن بأظافرهن، ويضربن أنفسهن بالأحذية ويقصصن ضفائرهن وينشرنها على القبور أو يلففنها على رأس الضريح، أو يثبتن وتدين في الأرض، أحدهما عند رأس الضريح والآخر عند مؤخرته، ويربطن ما بين الوتدين بحبل يعلقن عليه خصلات الضفائر.

وأن أبقى في الجانب الجميل، وأن أغض الطرف عن خرائب مدينة كانت في وقت ما واسعة على شكل هلال حيث وجدت أحجاراً منحوتة كبيرة ذات أبعاد مختلفة، وعثرت بين الخرائب على تابوت، ولكنني لم أعثر على أي كتابة فوق تلك الأحجار أو على ذلك التابوت. والأجمل في المكان المسرح الروماني الصامد على ضفاف هضبة، بهندسته وزخرفته وبمدارجه نصف الدائرية التي يفوق قطرها المئة متر تتخللها أعمدة متوجة من الرخام المزركش.

أخذتني إلينا مجدداً إلى مدفن قرطاج. أخبرتني بأنه عالم فوقي مليء بالكائنات المقدسة، وفيه يجدر القيام ببعض الطقوس من أجل ضمان الرخاء والسعادة في الأرض وأيضا الخلاص الأبدي للروح.

.. وردّني الحلم إلى العرزالة على وقع قرصة بعوضة مؤلمة. كانت العجوز لا تزال في الجوار تنده على قطيع الماعز.  تخاطبه بلغة خاصة موفقة، وإلا كيف حضر القطيع واستدار ودخل الحظيرة…

(في الخامسة من عمري أصبت بنقفة حجر في كتفي . كنا نلعب سويا نحن صبية الحي في حرب النقيفة وقوامها غصن زيتون عريض يشبه الحرف “y ” وحبل مطاطي معقود. أذكر بأن صبياً حضر من الحارة الفوقا ليشاركنا اللعب، وكان كثير الشقاوة ، متغطرساً ومزايداً بنقيفته الملونة وحجارته التي تعمد أن تكون مسننة، وأن يصيبني بإحداها. ما زلت أملك ذلك الختم في كتفي تذكاراً من صبي الحي الآخر وقد غدا تاجر جملة لأدوات الصيد ولوازمه. لهذا انتقيت النص الذي يحمل الرقم ثمانية بين النصوص المختارة، ولا زال أمامي الكثير لأنتقيه من بين النصوص التي لم أكتبها ، والتي كأنها تكتبني مؤطرة ذاكرتي بزمان مضى).

جرح

 وفي كل الفصول أبقى العاشقة لذلك الجرح المضموم أعلى الكتف مثل رائحة الحجر، وانهمار الجرح في الجرح، أتحسسه تعرجات وخطاً يجمع بين الشفاه، وأتحزّر: هل كان نقفة، أم تركة عوالم من السند إلى الهند إلى الشرق كتذكار على جسد، وأضم الكتف والجرح العاري وأنحني في هوج الريح ألثم نرجس ماض يحكي الصدى وأنين الصدى وطفرة الدروب، وأهمّ بقبلة أطبعها على الجرح، تكون أوسع من الجرح، قبلة بذاكرة أنف يثمل من عطر حجر يبدّل في تقاسيمه من اللازورد إلى الياقوت إلى الفيروز إلى عنبر الكهرمان إلى المرجان إلى اللؤلؤ، ومن النخيل إلى الصندل إلى الخزامى إلى الندى إلى البنفسج إلى المسك إلى العود.

وأكتب على الجرح ذاكرة: أنا الشفاء أتسرب في مجرى دمك نبع حب أبدي، أنا النبع، يهبط في النفس الهابط والصاعد، وأنا العناق، في آلاف الأشكال أنفذ من مركز الجرح إلى الكون إلى حدائق دفء تطفئ ثلج الخجل، وأنا التوهج من مسارب خرم إبرة أقدح الشرارة في القالب المنسكب بنا، أنا الخصب منك ولدت ومن ريشة في صدرك حملت اسمي وشهادة حبي ومولدي فيك، وأنا أعالي الضياء والشغف والحب والشجن وعقلك السري، أنا الأفعى في فحيح تعويذة ألسعك، وألثم الجرح وأداويك وألسعك من جديد، وأنا زنار النار، أحاصرك ونشتعلً، برائحة الخشب الأبيض، نشتعل.

وأنا العاشقة مغامرات يخبئها الجرح ولا تحكيها: تراك كم سرت فوق لهيب الصحارى وجبال الثلج، فوق الأفيال والاشجار الضخمة، فوق تلك الصخرة التي تحطمت عليها عوالم، وفوق شاهد مكتوب بالدم والبارود والصراخ والأنين، وفوق رائحة تسبح في الهواء، وتطلع من الجلد، تسكر في الغروب، وتطرب لموسيقى الحجر المعتّق بالأنغام الهامسة، ولاستدارة الريح المبلول طرفها بملح البحر، ولاقتران الأشجار بزيوتها وبندى الزنابق، ولشفتين مضمدتين بك حتى إندمال الجرح.

 وتظل قمراً يا حبيبي ألتمسك في المساء، أداريك كمن يخبئ ياقوتة في القلب، أطوّقك بحرز وأعرف أن لا شيء يعوض غيابك في الحب كما في النسيان كما في تميمة محفورة في شريان في مكان ما للذكرى.

 وأبحث عن خواص السر في تقوقعه، في انفلاشه في الداخل أيقونة تلمع بصمت، في تلقينه السنابل غزل الأسرار وغمز الرجال، في احتفالية تحط في الشريان وترقص في الوريد وتطلع من صمام الأيام المعبأة بك حتى آخر قطرات العمر، وليس في المرفأ بحار سواك، وليس فيه مراكب إلا في عينيك، وليس فيه نوارس إلا في صوتك، وليس فيه نبض إلا في يديك، وليس فيه هدير إلا ذاك الذي يأخذني اليك ويردني موجة تتكسر على شواطئك بلذة انكسار الحبيب في الحبيب، بلذة توهاني فيك وتناثري زبداً في زبد في بياض على رمال.

 وأشتاق لاحتضان السر تحت سقيفة المساء، أحاصره من خصره، من روحه، من أنفاسه، من يديه، من التماعه، من لألأته، من سطوعه، من سريانه تحت الجلد، من شريط فضي أحزمه به وأطوي البطاقة وأتحزّر في ما كتبت، أتكون كلماتي: كل سر وأنت حبيبي، كل يقظة، كل ذكرى، كل أفق وأنت رفيقي شراعاً بعد شراع، نغني الموج ونغني الريح ونغني الحب ونغني البرق..، أوليس البرق من أسرار العيون حين تتلاقى؟ حين تتوهج؟ حين تشتعل؟حين تعدو؟ وحين لا تجد غير الدمع ملاذ فرح وملاذ شوق وملاذ ارتباك وملاذ اعتذار من أمر ما دخل في العين ودخل في القلب وتمترس في الروح.

 أم تكون كلماتي: كل سر وأنت جاذبيتي، نبضي الذي تختصر سبعين منه في طرقة تلوّح لطيفك بهجة ومطراً وخفقاناً. أوليس الخفقان من أسرار القلوب حين تتقابل، تتناغم، تنجذب، تتشابك، وحين تتطاير مثل فقاعات الهواء دوائر أنفاس مخطوفة في دوائر ارتباك فرح في دوائر أمنيات محلقة في أرض أنت نبضها وسر دورانها.

 أوغاريت

 ثمّة قرقعة!.

هل تكونين أنت؟ تلاحقينني؟ أو أني ألاحقك وصولاً إلى أطلال مملكة ترقد في الساحل السوري، وفي فيء مساحات شاسعة من حقول الحمضيات. وكانت المناسبة بحث ميداني جامعي لطلاب قسم علم الآثار الذين اختاروا أن تكون مملكة أوغاريت المدثرة بنبات الشمّر العطر والجاثمة تحت أنقاض مدينة رأس الشمرا محور بحثهم.

وفي الحقيقة لربما أكون أوحيت إليهم باختيار المكان، وفي نيتي أن أطأ أرض الملاحم من بعل إلى دانييل وكات وأقهات الذي أديت دوره في آخر عام دراسي جمعني بمايا. وكانت تلك البقعة الغنية بالتاريخ والحضارة بين أمكنة قليلة لم أعاينها بالعين المجردة، وها إني في حضرتها أتقدم ثلاثين من طلابي من الساحة الغربية المجاورة للموقع خارج السور المعدني، عبر الباب الرئيسي الذي يحمل لوحة كتب عليها باللغتين العربية والإنكليزية اسم الموقع الأثري. وكانت طالعتنا لجهة اليمين بوابة كبيرة تتوسط التحصينات من الجهة الغربية للموقع، ثم صعدنا بضعة أمتار درجا حجريا بُنيَ منذ بضع سنوات لتسهيل الحركة والوصول الى مكتب الاستقبال والإدارة الموجودين في الموقع على التل الأثري.

داخل المكتب تزوّد الطلاب بمخططات وبروشورات وكتب وبطاقات بوستال ومصورات مأخوذة عن الموقع الأثري ، وأهم المكتشفات فيه ، اضافة الى نماذج من الجبص لأبجدية أوغاريت والرأس العاجي لإحدى أميرات المدينة ، و نموذج للإله بعل ومجسم من الجبص لمدونة موسيقى أوغاريت مع CD خاص بهذه الموسيقى التي تعد كأول نوتة مبتكرة في التاريخ. وهناك ميداليات برونزية واخرى غير برونزية تحمل صورا لأهم المواقع الأثرية الاخرى.

أمام اللوحة التي بجوار المكتب، وتمثل مخططاً عاماً للمدينة الأثرية على شكل منضدة بواجهة زجاجية، التقط الطلاب بهواتفهم صورا مساعدة تبين بوضوح الأقسام الرئيسية للمدينة كافة ، وذلك قبيل انطلاقنا برفقة أحد الأدلاء الذي أوضح لنا بأن التل الأثري يقع شمال مدينة اللاذقية وكان عاصمة لمملكة سورية قديمة خلال الألف الثاني قبل الميلاد ، وهي تمتد فوق هضبة أثرية ارتفاعها عشرون مترا عن سطح البحر ومساحتها حوالي ثلاثين هكتارا.‏

ومن حيث اكتشفت المملكة، بدأت الجولة ليستعرض الدليل كيف اصطدمت سكة محراث فلاح من أهالي قرية رأس الشمرة بحجارة منحوتة ضخمة تبين أنها سقف لمدفن أثري عائلي يقع في واحدة من أشهر الممالك السورية في تاريخ الشرق القديم .‏

القرقعة نفسها تعود ليتبين بأنها صادرة عن أواني فخارية كانت مسنة في عقدها السادس تتولى شطفها. ومنذ تحلقنا حولها، لم تنتظر أن نسألها إذ بادرت إلى الحديث:” هذه القطعة واحدة من بين عشرات القطع التي تعود إلى خمس حضارات تعاقبت على أرض المملكة”.

ومن مجسم الخريطة الذي بين أيدينا، كان علينا أن نبدأ أحجية السؤال: أين نقف؟ . وبحسب الأوراق والصور التي حظينا بها مدفوعة ، رحنا نخمن في غياب الدليل الذي انشغل عنا بوفد سياحي أجنبي .

خاطبت الطلاب متتبعا الخريطة:

لعلنا في الحي الإداري الذي يأخذ إلى ركام القصر الملكي وملحقاته، وإلى مسكن الحاكم العسكري، ومنه الى قصر الملكة وأقسام واسعة من أحياء المدينة : معبد الإله دجن، معبد الإله بعل، المكتبة، عدد كبير من القبور. معصرة زيتون. قصر إدارة التجارة الخارجية والحوانيت. بقايا أدوات كانت تستخدم في الحرف وصناعة الأقمشة، والأصبغة الأرجوانية.

ضحك طالب، وكانت يدور حول نفسه مستوضحا:

-أين كل الذي ذكرته وليس من حولنا سوى بقايا حجارة متناثرة.

بدوري بادلته الابتسام معلقاً:

-شغّل مخيلتك .مهمتنا أن نرى ما لا يراه الآخرون.

في ذلك الحين انطلق صوت إحدى طالباتي . وبلا لعثمة أخذت تقرأ من ورقة بين يديها:

“… وإلى جانب المعبد لا تزال عازفة الطبل تتضرع بأدواتها الموسيقية مناحة ورثاء لآلهة القمر في أن يعمّ الخصب مملكة الحقل المحروث، لكن الآلهة وقفت متفرجة على النيران التي دكت المملكة من قبل شعوب البحر الذين لم يبقوا فيها أي حياة أو روح قبل أن تغطي الرمال مملكة كانت السبّاقة في تصدير أول الأبجديات، أول نوتة موسيقية على السلم السباعي، أوّل قالب صب للسبائك البرونزية، ريادة في الملاحة..”.

تتوقف الفتاة قليلاً، وكانت نجحت في تصويب الأنظار إليها، وتتابع:

“ولكن منذ تاهت فتاة اللغات توزعت الأبجدية في الأرض. كانت تحب التجوال في الأحراش، ولم يعثر والداها على أثر لها. فأخذا يبحثان عنها أياماً عديدة حتى اعترض طريقهما تنين مهول كان يأكل في نهم في ظل الأشجار، فاجتمع الناس حول التنين وطعنوه برماحهم وسيوفهم، وما إن فعلوا حتى تغيرت أشكالهم ووجدوا أنفسهم يتحدثون لغات مختلفة، ثم انفصلت كل جماعة تتحدث لغة واحدة عن الجماعات الأخرى، وأصبحت هذه الجماعات المختلفة أجداداً للأمم المختلفة التي تعيش الآن على وجه الأرض. حدث هذا على أرض اللغات ولم ترجع الفتاة والجمع تفرق كل يحكي لغته..”.

لا أنكر.. حيّرتني الفتاة. كانت تقرأ بنبض الأوراق التي صارت أبرز لقى عثرت عليها. ولم يتأخّر التوضيح الذي أتى من الخلف إذ بادرت بالاعتذار:

– سقطت الورقة  سقطت من جيبك. راقتني ..فقرأت…

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى