رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. الجزء “15”.. والأخير..
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “15”، والأخيرة، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.
الجامعة
أصعد الدرجات بخفّة الصوت المنبعث من القاعة الجامعية المزدحمة بمقاعد حمرٍ مخملية. كان نفسه الصوت الذي لطالما أربك لياليّ وناجاها؟ فهل تكون بعثت بعد كل هذا الدوار الذي دوّخني؟ وأي دور اختارته للمرحلة؟ أسأل فيما أقف مشدوهاً، أتملى من خلف باب نصف مشقوق في وجوه الطلبة وفي حركة العيون والشفاه. أيتها المحاضرة على بغتة، هل سبق أن التقينا؟ أو تحادثنا؟ أو جمعتنا زمالة..؟ وماذا عن عطرك الذي يفوح في الأرجاء، وأنت مسترسلة تأخذين دوري.
وهل أخبرتك عن قهوتي أنت التي تسألين:
ـــ هل ما زلت تحب القهوة البيضاء؟
أربكني سؤالك الذي ترك في السؤال: كيف أنّك تعرفين مذاق قهوتي.
وأربكك سؤالي الذي تداركته متذرعاً:
ـــ العتب على ذاكرة دخلت عامها الخامس والأربعين.
وارتبكت أكثر لأني تهت بينكما مرتاباً، فإلى أيٍّ منكما أصغي وأنحاز: تلك المولودة من رحم الأرض أم الزميلة الجامعية المستجدة، وبقيتُ محرجاً لأنك تعرفين عني الكثير: إقامتي ومزاجي وصخبي وتجوالي وأسلوبي في التعاطي مع الريشة والأرض والمنفاخ والحقبات وتأويلاتها، حتى القهوة التي شربناها معاً تعرفين مكوناتها: ماء وزهر، وإلى كل هذا أشكك بهويتك، وأخجل من السؤال تاركاً أجوبتي مفتوحة في مدارات افتتاني بك ولهفتي لأعرف عنك، وأعرف عني وأدوزن خطواتنا الهاربة أمامنا كأنها طابة القدر في جنوحها صوب تسجيل هدف به نبش في الذاكرة ونبش في الأرض وفي الأنثى التي تكونين.
وكانت تلك الأفكار تزيد في حيرتي بينما تسترجعين سنوات من أيام كنا نلعب الغميضة، وتؤنبيني:
ـــ هل ما زال يروقك نزع الأزهار من جذورها؟
وكنت بالفعل أبحث في ما تحت الجذور، ليس من أجل الافتتان بباقة زهر، وإنما لأنّ جدتي بقيت تخبرني في حكايات قبل النوم بأنّ الورود لا تنبت إلا حيث يكون مدفوناً سر ما. وفي البحث عن ذاك السر، اخترت النبش في حيوات ما زالت في عهدة الأرض.
وماذا عن عهدتك فيّ أيتها المرأة التي برق صوتها في أذني؟ وأمطرت ذكريات وحنينا واشتياقا إلى زمن مضى.
أعاصفة مدارية دافئة هبّت، وكنت في توق إلى أنثى برائحة الأنثى، تسير حافية على الرمول والصخور، ومن موطئ قدمها تسرق الأرض طيبها، ويسرق البحر زبده، أو لنقل إني أحنّ إلى حكايا أمي المقتفاة من السوما والأسكيا والظل والقناع والين واليانغ والأنيما والأنيموس والباردغما والفارماكوس، وكلها مفردات متوارثة تناقلتها من جدة إلى جدة، أو لأسلّم بأنك “مايا”، أو “إلينا”.
وتعاتبيني لأني لم أعد أسأل.
وتفاجئينني بالمزيد: إني دعوتك للرقص على أنغام موسيقى التانغو، هناك حيث التقينا على السور جالسة على حجارة صُفرٍ، ثم إني تقدمت إليك، وحاصرت خصرك بيدي، وكنت مشدوهاً بالجسد اللين والحركات الرشيقة. صحيح هذا أيضاً، لكنّك انسحبت في ذروة هذياني بك، وفاتني أن أرقب وجهة انسحابك. وتبررين بأني لم أتذكّرك، وكنت كمن يراقص جسداً في امرأة أخرى منحوتة من حجر، لهذا انسحبت وحقك علي.
أتراك ما زلت شقية يا ماضيّ المغامر.
كيف تفعلين هذا بي من المنحوتة الى الصندوق الى المخطوطة إلى الهمس والصفير ، وتقولين:
لو أنك زرت معرض رسومي لوجدت منحوتتك هناك، أسميتها “الفاتنة” وكنت عرفت أني من نحتها وشكّلها، ومن تدخّل في التاريخ ورسم لك حكايات ممالك ومدن وكتابات من مثل تلك التي كنت أحكيها لك في طفولتنا الشقية، وكنت عرفت أن الفتاة التي كانت تدلك إلى مفاتيح ممالك ومدن من خيالي الذي طعّمته بكثير من الواقع. وأوافقك الشبه: تشبه منحوتتي تلك التي عثرت عليها على أدراج عمريت، وفيها من روح الممالك ، وفيها من غوى الشرق وصلابة ملكاته وفتنتهنّ.
وأخبرتني بأنّي منذ أنهيت اغترابي لم ألحظ وجودك من حولي. وأني اكتفيت بالسؤال عنك ولم أنتظر إجابة.
وتأخرت.. ومع ذلك انتظرتني.. وتبررين.
في الحجر راكمت جراح حياة بدءا من نقفة حجر في الكتف الى الحجارة التي انهارت وخطفت روح والدتك الى عشقك للحجر من باب مؤاخاته والخوف منه ..أنت مريض بالحجر وداويتك بالذي كان هو الداء ، جارعا نبيذ الحجر الى حيث لا تطفو الأرواح..
وتسألين:
بالمناسبة هل أعجبتك المنحوتة؟
وأي اسم حمّلتها؟
وتمازحينني:
لـ”إلينا” رفيقات جميلات ، تعال لأقدمك إليهن.
أقول: هذا يكفي.
كثير عليّ هذا.
كيف اختلطت في رأسي الخطوط واللغات والأزمنة والأمكنة.
كيف حصل كل هذا في تسديدة موفقة في مرمى رجل علم إنما نذر عمره لوقار الأرض..
تقولين: الحب قادر.
وماذا بعد؟
وتقولين: وجدتني في حال من عدم التوازن…
وماذا بعد؟
وتقولين: كنت بحاجة إلى صدمة؟
وماذا بعد؟
وتقولين: إننا عدنا من غربتنا؟
وماذا بعد؟
هل أسامحك؟
وأنا في الأساس اخترتك شقية. ونسيتك سهواً.
وماذا بعد؟
قد أطرق بابك حوالى العاشرة.
وماذا بعد؟
(النص الأخير الذي أختاره وقد عرفت الهوية والمرسل …)
ختام
مسك الغرام نظرة أم عناق أم شفتين أم عمر جانح إلى ذكراك؟
مسك الليل غمرة أم فيض من جسد أم فجر يطلع من عينيك؟
مسك الكلمات غزل يتسكع في الشوارع أم فجر يولد في شاعر؟
مسك الصوت عنبر يدخل في الأذن أم يفوح في المزاج؟
مسك اللمسة حرارة الروح تصرخ أم ترتد في النبض إليّ، إليك، إلينا؟
مسك الحروف مركب بمجاذيف يدخل أقصى أفق النون أم يشكلها بوردة؟
مسك النَفَس إرث عطر وهمس مسكون أم شمس البساتين وما تبقى من شوق؟
مسك الحبيب سنا الروح في الأمكنة، أم المطارح، أم الحدائق، أم الشوارع، أم كل أرض يطالها؟
مسك الضياء تراتيل عاشق وبخور وفتنة ونغمة أم نظرة بسبع أعين؟
مسك النداء اسمك يقطف ما يشاء من حروف ويقضم اسمي أم ثمرة قيد النضوج.
مسك الوجود كل شيء منشغل بنا، حتى الطيور، البحر، السماء، المدن، الواحات واللقى أم ماذا..؟
مسك الشمس بوح ملتهب مثل كرات كلام، تلك الأكثر بعداً، أم انتظار صلاة؟
مسك الأرض رؤيا المطر يهبط قطرات قطرات ويزهر لوزاً أم شوقاً؟
مسك القبلة خيال وغمضة عين وظل نخلة ونسمة بطعم السكون أم بطعم السكون؟
مسك الشجرة لقاء عاصف يعانق أربعين غصناً يلويها جميعها أم يلاطفها؟
مسك الجسد واحات شريدة برسم من لا يهذبها على صهوة حصان؟
مسك المدن حكاياتنا تزهر على كل شفاه حروف وسنابل وصخب أم محطات مبعثرة مثلنا؟
مسك الحقول تعفيرة من شعاع التراب تنبثق إلى شعاع راحتيك ام إلى الكون الذي يضيق بنا؟
مسك أحلامنا أن يجنّ الحلم في هزيع الليل ويخطفنا شريدين تحت المطر أم تحت الضباب؟
مسك الهوى أن يهبط مثل نيزك، شرارة، ريشة تحط في القفار النائية، وينبت طائر؟
مسك البوح حفنة اعترافات من شوق وأقحوان وجدول حنّ للماء أم للشذى؟
مسك الختام كيف يكون أم كيف يبوح؟
الى اللقاء قريباً، مع رواية “الحجر الأحمر” للزميلة الكاتبة رولا عبد الله، التي تتحدث عن القدس المحتلة.
======================