زمـــــن الــشُّـــــــرْفــــــــة..
خاص “المدارنت”..
جالس على كرسيه المتحرّك؛ في الشرفة العريضة… يستعد لِمَلْءِ رئتيْه بالهواء النّقيّ.. يستعدّ ليعيش حكاية جديدة من حكايات الشارع الطويل…حيث البشرُ في ذهابٍ وإياب، تسْتعْبِدُهُم الحرَكة، ويجْري بِهِمُ الزّمَن بيْنَ مشاغل الحياة… هذا صاعد… وذاك نازل…هذا يائس… وذاك آمِل… هذا أعمى…. وذاك بصير… هذا عنترة… وذاك أرْنبة….! وبين هذا وذاك، وَقورٌ هادئُ الخطوات، مُشاغبٌ؛ نزِق في مِشْيته؛ وكأنّه يسْتعجل فوْضى الأشْياء ليقطف راحته، وينْعَمَ في هذيانه…! آخر؛ يُراقب المارّة؛ متى تحين فرصة السطو على حقيبة امرأة، أو جيوب شيخ طاعن في السنّ بعد أن خرج من مصلحة تقاضي المعاشات..
كعادته؛ ارتخى “أيْمن” وراح ينْظر إلى أفواج المارّة الذين يقطعون الشارع الكبير في اتجاهاتٍ مختلفة، وبهُمومٍ مُتناثرَة…
بحَثَ بِعَينيْهِ الوَاسِعَتيْنِ عن “ندى الصباح” بين الأقدام المُتدفّقة؛ على أرْضٍ؛ عدَدُ قبورِها أضعاف عدد أحيائها….! مدّ يدهُ إلى كأس الشاي الدافئ وتناول حبّاتٍ من المكسّرات؛ يُمَلِّحُ بها ريقه؛ فقد جفّفتْهُ جرعات الأدوية منذ شهور… عندما قرّبَ كأس الشاي مِنْ فِيهِ؛ ظهرتْ “ندى الصباح” – كما كان يحلو له أنْ يُسمّيها – فتاةٌ من الأفارِقة السّود؛ الذين غزوا هذه المدينة بأعداد مُعْتبرة… حتى أصبحت المدينة تغُصُّ بِهِمْ، فلا يكاد يخلو شارع أو حيٌّ منهم، وكأنّهم خطّطوا للتّوَزُّعِ المُنَظّم في أفْوَاج، تتناوب على مدار الأسبوع بين المحلات والأسواق والحدائق والمساجد وحتى بين المقابر يوم “الجمعة”، حيث يُلاحِقون زُوّارَ المقابر للفوْز بما يُتصَدَّقُ به على الأمْوات… ونجحوا في مسْعاهم، حتى أصْبحت العلاقة بينهم وبين كثير من الزوار؛ علاقة طيبة؛ دفعت بالطرفيْنِ إلى الاتفاق على اللقاء في الجمعة المقبلة، من أجل أخْذِ التبرُّعات المختلفة: ثياب، أفرشة، أغطية، أواني، حقائب بالية، بالإضافة إلى الصدقات الرئيسية؛ والمتمثلة في التمر والفطائر وقوارير الماء وبعض الحلوى للصبيان…
ظهرت “ندى الصباح” بلونها الأسود البراق؛ تحمل بين يديْها الصَّغيرتيْنِ وعاءً بلاستيكياً تجْمعُ فيه الصدقات… ابتسم طرَباً … وراح يتابع حركاتها وخطواتها وابتساماتها وقد لمعت أسنانها لمعاناً مُلْفِتاً. اليوم …تغيّر لوْنُ الوِعاء وحجْمه أيْضاً.. إنه بنفسجي وأكبر من وعاء الأمس… رأسُها الصغير، نِصْفُ مُغَطى بخمارٍ مزركش، داعبتْ أطرافه أوتار البِلى، فبهُتَتْ ألوانه، وانسلّتْ خيوطه.. كانت تتحرك في كل الاتّجاهات.. تقطع طريق المارة وهي تبسط الوعاء أمامهم، عندما تتوقف المركبات امتثالاً لإشارات المرور؛ يُهرْول الطيف المتحرّك… تمدُّ ذراعيْها الهزيلتيْن وهما تعانقان الوعاء البنفسجي داخل نوافذ المركبات، تفترّ شفتاها عن كلمات…تسقط بعض الصدقات في الوعاء… تُغافِلُ المارّة أو تُغافل “اللحظة”، ثمّ ترمي بالصدقات في جيب فستانها الطويل.. حالُه من حال الخمار..صِنْوان في التآكل، وانطماس اللون…
يُنْهي “أيمن” كأس شايه؛ رنّات هاتفه؛ تُلْهيهِ عن مُتابعة حركات الفتاة… ينظر إلى الرقم.. إنها عمّتُه، تسأل عنه في كل حين… تتفقّد أحواله.. يعرف مدى حبّ هذه العمة له… يعرف مدى انشغالها بشأنه…. أنْهَى “أيمن” المكالمة؛ بضحكة كبيرة، سببُها نُكتة جميلة حَكتْها العمّة.. فَهِمَ أنّها تريدُ أن تُخفّفَ عنْه، وَدّعَها وهُوَ مُمْتنُّ لها…. وضع الهاتف جانباً، وبدأ يتابع حركات “ندى الصباح” في هذا الصباح المشرق…تظهر كالظلّ تارة، وتختفي بين الجموع تارة أخرى… تتسلل بين السيارات والشاحنات بِقَدَمَيْنِ ونعليْنِ مُهْترئيْنِ؛ تخرج منهما أصابع طويلة، مُغْبَرّة، تُلاِمسُ التّرَاب… بِانْشراح؛ تتفقّدُ الفتاة جيْبَ فسْتانِها… تسْتشْعِرُ امْتلاءَهُ وربما ثِقَله… تضعُ يدها الصّغيرة بإحْكامٍ على فتْحةِ الجيب… يُتابعُها بعيْنيْه الواسعتيْن، تغيبُ لفترة… ينْتظرِها حتّى تعود…
يُحدِّث نفسه: “لعلّها ذهبتْ لتضع ما جمعتْ بين يديْ أسرتها…فعلاً إنها صغيرة ومسؤولة!” لحظات وتعود الفتاة… تعود ومعها طفلٌ لا يتجاوز الثامنة من عمره.. يتأملها “أيمن”، يلاحظ أنها استبدلت النعليْنِ بشبشب أحمر قديم، يبدو كبيراً على مقاسها، تجُرُّهُ بعناد كلما حاول التملّصَ من قدميْها الصغيرتيْن… لعلها صادفتْهُ بجانب سور قُمامَة الحيّ، أيْن اعتادتْ بعض النساء التخلص من الأشياء القديمة، حتى لو كانت ما تزالُ صالحَة للاسْتعْمال…
وقفتْ تتحدّثُ مع الطفل، وكأنها تُلَقِّنُهُ آليات الحِرْفة…! تارة؛ يهزُّ الطفل البريء رأسه الصغير الخالي إلا مِنْ شُعيْرات خشناتٍ مُبعْثرات مُدوّرَات، وبِيدِه قطعَة خبْز كبيرة؛ يسيل مرَقُها على مِرْفقيْه كلما وضعها بيْن أسْنانه النّاصِعة البياض.
تثاءب “أيمن” وشبّك أصابع يديْهِ ووضعهما وراء رأسه وغاب في ملاحقة المنظر… عندما أنهى الطفل خبزه؛ ناولتْه الفتاة وِعاء بلاستيكياً أصفر، أصغر من وعائها البنفسجي… ثمّ أشارتْ بيدها، تدُلُّهُ على الطريق الذي يجب أن يتواجد فيه طِوال اليوم… هرول الطفل ضاحكاً، مسروراً وكأنه تسَلّمَ القيادة…!
وقفتْ “ندى الصباح” تُعَدّل من شأن خمارها الذي كاد يسقط من على رأسها…تُثبّتُهُ بإصرار رغم أنه أصبح شبْهَ خِمار… بعيْنيْنِ حادّتيْنِ؛ التفتت يمينا وشمالاً، أخرجتْ قارورة ماء صغيرة، أدْنتْها مِنْ فيها، وبدأتْ تشرب والقطرات تسيلُ على صدرها وتُبلّلُ فستانها، تُحاول أنْ تمسح بيده الأخرى ما تقاطر… تغلق القارورة بإحكام، ثمّ تبدأ نشاطها من جديد… الوعاء البنفسجي في وجه المارّة.. منهم مَنْ يتفضّل بما تيسّر، يضعه في الوعاء، منهم مَن يتجاهل الفتاة ووعاءها، ومنهم مَنْ يذهب ثمَّ يتدارَك؛ وكأنّه غفل عن شيء؛ فيلتفتُ ويعودُ بعد بضْعِ خطوات؛ يضعُ ما في يمِينه؛ وينْصرفُ وقد تلألت بسمة الفتاة شكراً وامتناناَ لهذا الكريم النبيل…
ثآليل الشارع الطويل..
وهو يتابع حركات “ندى الصباح” يُفاجِئهُ صُراخ امرأة، يتصاعد من الجهة الأخرى المقابلة للصيدلية الكبيرة… تتجمهر الجموع، يكثر اللغط، تتلاحق السيارات في طابورٍ طويل، يتعقّدُ نظام المرور، تحْضرُ الشرْطة، تفضُّ الاكتظاظ… يظهر رجلٌ غاضب؛ يُلَوّحُ بـ: “كارط” الترخيص في الهواء.. هيجانُهُ وما يتلفظ به مِنْ وعيد وتهديد وكلمات نابية؛ كل ذلك؛ يُثْبِتُ أنه من المُدْمنين…تناهى إلى مسمع “أيمن” من الشرفة؛ أنه ضرب البائعة في الصيدلية، لأنها لم تُعْطِهِ ما يطلب، رغم امتلاكه للوصفة الطبية و”كارط “الترخيص… أفهَمَتْهُ أن هذا المطلوب قد نفد… تعنّتَ… أقسَمتْ له الأيمان…لسوء حظها؛ كانتْ وحدها في المحلّ، جرّها، رفسها، واقتحم المكان كالثور الهائج، يبحث بنفسه بين صفوف الأدوية.. جرتِ المسكينة نحو الشارع وأنفها ينزف، تصرخ وتستنجد…
رُمِيَ الرجل في سيارة الشرطة المصفّحة، وهو يغلي غليان الماء في القِدر… شيئاً فشيئاً؛ بدأ الانفراج يتحقق في الشارع… يتذكّر “أيمن” أن مثل هذه الحادثة؛ قد سبق ورآها منذ شهور… وقعتْ ليلاً، ولِحُسْن الحظ؛ كان البائعُ المناوِبُ رَجُلاً؛ تسلّط عليْه اثنان مّمنْ فقدوا السيطرة على النفس، ومع ذلك استطاع أن يُخِرجَهما من المحلّ بأقلّ الأضرار، وتحت أنظار عُشّاق السهر على كراسي الشارع الطويل الذين سارعوا إلى مُساعدته…
تفقّد “أيمن” “ندى الصباح”… يمسح المكان بعيْنيْه…. أين هي؟ لعلها خافتْ؟ لعلها غيّرتِ المكان؟ أين هي؟؟ تساءل: ” ولماذا أبْحثُ عنْها…” حاول أن يُوهِمَ نفسَهُ بأنّهُ غيْر مُهْتمّ…! لحظات وعاد يبحث… انتابه القلق، غمره القنوط، ضاقتْ به الشّرْفة…يريد أن يُطلّ بكامل جسمه على أبْعَد مكانٍ في الشارع… ينْظر إلى رِجليْه المُتصَلّبَتيْن أسْفل الكرسي المُتحرّك، يشعر بحُمّى تأكل رَأسه، تشْخَصُ عيْناه، يضع يديْهِ على حافة الكرسيّ، يقطع الأنفاس، يعضُّ على شفتيْه، يُغْمض عيْنيْه، يضغط بكل قوة على حافة الكرسي، يتريّث وكأنه يستعد لِلّحْظة… ثمّ يئنُّ أنيناً خافتاً مُتلاحقاً، و…. يقف…. على قدميْه….! يتصبّبُ عرَقُه، يحمرّ وجهه، تنتفخ أوداجه، يتسمّر في وَقْفتِه…. يراها من بعيد؛ والوعاءُ بيْن يديْها، تمْشي بخطواتها الواثقة… يشْعُرُ بِالِانْشِرَاح… تمنى لوْ ترفع رأسها قليلا لتراه….ليلوّحَ بإحدى يديْه نحْوَها..