عربي ودولي

“سندباد السودان” أحمد حسن مطر..

كتب عبد الناصر طه/ لبنان
“المدارنت”
أحمد حسن مطر، أو “سندباد السودان” كما يحلو له أن يلقِّب نفسه، صحافي ورحّالة وكاتب سوداني قلَّ نظيره، كان الترحال ديدنه، والمغامرات شغله الشاغل. ولم يألُ جهداً أو وسيلة لاكتشاف ما غمض من أسرار قارات الكون الفسيحة، فجاب العالم بشرقه وغربه، انطلاقاً من بلده الأم السودان، في رحلة عمرٍ ناهزت واحداً وثمانين عاماً، حين عاد إليه مريضاً ومودِّعاً.

أ‌- الطفولة والنشأة:
ولد أحمد حسن مطر عام 1904، في مدينة أم درمان السودانية، من أبوين سودانيين. كان جدّه ذا أصولٍ مصريّة، هاجرت أسرته إلى الحجاز ليعمل والده في سكّة حديد الحجاز التي أنشأتها الدولة العثمانية، وهناك درس المراحل الأساسية الأولى، وأتقن اللغة التركيّة.
عاد مع أسرته عام 1911 إلى السودان، وتعرَّف هناك على الأوزباشي يوسف نجيب والد اللواء محمد نجيب، الرئيس المصري لاحقاً عام 1952، واستقرَّ في مدينة “ود مدني” إحدى كبريات المدن الأفريقية آنذاك.
إلتحق أحمد هناك بمدرسة غلب عليها الطابع البريطاني، وكان يعشق الجغرافيا ويتفنَّن في رسم الخرائط، ورسم الأنهار والطرق والمدن الرئيسة في كلِّ دولة. ثمَّ التحق بمصلحة البريد والبرق بعد عجزه عن إكمال تعليمه، وتعلَّق آنذاك بحبِّ فتاة يونانية من عائلةٍ محافظة، ما كان سبباً لتغييرٍ جوهري في حياته، بعدما اشتكاه والدها إلى المحامي العام في السودان الذي أمر بفصله من وظيفته.

ب‌- الترحال والسفر
عاد إلى الحجاز، والتحق بالثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، وله من العمر خمسة عشر عاماً فقط، ثمَّ تواصل سرّاً مع حركة عبد العزيز بن سعود، وانكشف أمره للهاشميين، فهرب عائداً إلى السودان عام 1922، وابتدأت حكايته مع الأسفار والترحال، فارتحل إلى عدن، ثمَّ إلى كينيا، ثمَّ إلى ميناء مرسيليا جنوب فرنسا، وهناك أتقن اللغة الفرنسية كتابةً وقراءةً، وفي فرنسا تعرَّف على عمّالٍ مغاربة واطَّلع منهم على ثورة عبد الكريم الخطّابي ضد فرنسا وإسبانيا.
عام 1924، انتقل إلى المغرب للإلتحاق بالثورة، والتقى الثائر علاّل الفاسي ثمَّ الأمير عبد الكريم الخطّابي الذي كلَّفه إدارة ملف الدعاية والإعلام للثورة، ثمَّ واكب حركة الزعيم المصري سعد زغلول، وتوجَّه إلى لندن لمرافقته في لقائه مع الحكومة البريطانية، وبعدها عاد إلى مصر ليقابل حاكم عموم السودان السيد لي ستاك الذي صودف اغتياله في أحد شوارع القاهرة، فكان أحمد من ضمن الموقوفين المتَّهمين بالاغتيال. وبعد ثبوت براءته، منعته السلطات من الإقامة في مصر أو السودان، فاختار البرازيل وجهة سفرٍ قادمة.
ج- بين أمريكا الجنوبية وأوروبا
سافر إلى جنوى من الإسكندرية، ومنها إلى البرازيل التي وصلها عام 1925، ووصف مهاجريها بقوله: “ممّن تنكَّرت لهم الأيّام في أوطانهم، فخرجوا مهاجرين إلى ذلك الفردوس الموعود، كلٌّ يحمل في جنبيه أملاً في حياةٍ جديدة، ومستقبلاً باسماً مشرقاً”.
هناك تعلَّم البرتغالية، وعُيِّن رئيساً لتحرير صحيفة “تساهيل” لصاحبها جورج شدياق، وهي صحيفة عربية أسبوعية في مدينة ريو دو جانيرو، وصار ذا مكانة مرموقة في أوساط الجاليات العربية من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، ما ساعده على بناء علاقاتٍ واسعة في الأوساط الصحفيّة، وتمَّ اختياره مراسلاً لصحيفة “الجورنال” البرازيلية في القارة الأوروبيّة، وما لبث أن أصبح عضواً في معهد الصحافة البرازيلية، ثمَّ عيّنته السلطات البرازيلية سفيراً لها في دولة تشيلي فيما بعد، وهناك حصل معه ما لم يكن بحسبانه، حين مرَّت الدولة التشيليّة في مرحلة فراغٍ رئاسية أسندت سدَّتها إلى الصحافي الدبلوماسي أحمد حسن مطر، “لينتخب بعدها رئيساً لدولة تشيلي لمدّة تسعة أشهر كأوّل رئيس أجنبي في التاريخ” .
عاد بعدها إلى مرسيليا لمساعدة الثورة المغاربية إعلاميّاً، وانضمَّ إلى منظمة عالميّة لمناهضة الاستعمار، كانت تضم أسماء لامعة عالميّاً مثل “إينشتاين” و”جواهر لال نهرو”. وتعرَّف إبان تلك الرحلة على الزعيم الألماني “أدولف هتلر”، ورافقه طيلة ستة أشهر.

احمد حسن مطر

بعدها، سافر إلى بروكسل لحضور مؤتمر دعم الشعوب المضطهدة عام 1927، بحضور قادة من أنحاءٍ متفرقة من العالم منهم محمد حافظ رمضان من مصر، وليوبولدو سنغور من السنيغال والأمير شكيب أرسلان من لبنان وجواهر لال نهرو من الهند.
وكعادة السندباد، لا يستقر في بلدٍ حتّى تحرِّكه أشواق السفر والترحال، جاب أحمد مطر الآفاق، فذهب إلى برلين ولندن، وقادش في إسبانيا، ثمَّ رحل إلى داكار في السنيغال وليبيريا في غرب إفريقيا، ثمَّ إلى الإتحاد السوفياتي، ليعود للإستراحة المؤقتة في باريس عام 1929، ويؤسِّس مكتب الصحافة العربية، وداعماً للثورة البرازيلية التي كافأته بمنحه جنسية البرازيل، التي عاد إليها للعمل الصحفي، ولكن بعيداً عن الثورات والسياسة، متفرِّغاً للعمل الفني وتغطية حفلات ملكات الجمال عالميّاً، ليتمكّن من إنجازه النوعي بنقل مسابقة انتخاب ملكة الجمال في البرازيل عام 1931، وليختار لنفسه إسماً لاتينيّاً هو “روبرتو لويس دي باروس”. وفي العام ذاته 1931 التقى بالأمير برنس أوف ويلز.
أهَّله نشاطه المميّز للحصول على امتياز في شركة الملاحة البحرية للسفر إلى الشرق الأقصى، فانطلقت رحلته الجديدة إلى جيبوتي، ومنها إلى كولومبو وسنغافورة وشنغهاي، ثمَّ عادت إلى سان فرنسيسكو فالبرازيل.
عمل مراسلاً حربيّاً في تغطية حرب بوليفيا- البراغواي عام 1933، التي سمِّيت حرب “تشاكو”، وكان مصدر الخبر الأول فيها. وبعدها سافر إلى مدينة ليتيسيا الكولومبية المحاذية لدولتي البرازيل والبيرو على مثلث نهر الأمازون، لتغطية نزاع كولومبيا- البيرو الحدودي، غير آبهٍ بالمخاطر التي كادت أن تودي بحياته.
من هناك أرسلته الصحيفة إلى أثيوبيا لتغطية حربها مع القوات الإيطالية عام 1935، وهناك تألَّق في عالم الصحافة حين نجح بإجراء مقابلة حصريّة مع الأمبراطور الأثيوبي “هيلا سيلاسي”. وكان مراسلاً لأبرز الصحف البرازيلية والمصرية آنذاك: المصوّر، دار الهلال والمقطّم.
قرَّر ترك السياسة، واتجه لحياة الصخب والمرح، وصار مراسلاً لصحيفة “المساء” التي عرضت عليه تمثيلها في تنظيم مسابقة باسمها لانتخاب ملكة جمال العالم، فشارك في اختيار المتسابقات، وزار كلٍّ من بروكسل، أمستردام، جنيف، مدريد ولشبونة، ونجحت المسابقة باختيار الفرنسيّة ملكةً لجمال العالم.
قام أحمد حسن مطر بتأليف العديد من الكتب، تمحورت في معظمها حول توثيق الجاليات العربية في أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى وجزر الكاريبي، ما أضاف مصدر معلومات لا غنى عنه للمكتبة العربية، وسردَ في بعض تلك الكتب تجاربه ومغامراته في مناطق الحروب الإقليمية الملتهبة، ولعل أهم كتبه وأشملها هو كتابه “سندباد من السودان”، الذي يروي فيه سيرته الذاتيّة من البداية إلى النهاية.

مطر.. “سندباد السودان”

عام 1933 ألَّف كتابه “مطر بقلم مطر” في مدينة ماناوس البرازيلية عاصمة الأمازون، ونشر كتاباً بعنوان “الحرب على ضفاف الأمازون بين كولومبيا والبيرو”، نفدت جميع نسخه وجمع منه مالاً وفيراً.
وفي العام 1936، طبع كتابه عن حرب أثيوبيا بعنوان: “مغامرات صحفي في أثيوبيا”، ونشر مذكِّراته المتعلقة بحياته منذ الصغر تحت عنوان “البرازيلي الجديد” وضمَّنها أربعون مقالاً.

د- العمل الدبلوماسي
عام 1946، عاد الرحّالة من المنفى إلى وطنه بعد ربع قرن، ومنه انتقل إلى الأرجنتين ملحقاً صحفيّاً في المفوَّضيّة المصريّة، لكنه أقيل من منصبه عام 1951، ليعود إلى مصر عام 1952 لتهنئة صديقه اللواء محمد نجيب بالرئاسة المصريّة الأولى بعد الثورة، والذي كافأه بتعيينه في وزارة الخارجيّة برتبة مستشار، ثمَّ أودع السجن بعد عزل الرئيس نجيب.
عندها توجَّه إلى السودان، وكتب مذكّراته في كتابه الشهير “سندباد من السودان”، وساهم بتأسيس وزارة الخارجيّة السودانيّة إبان حكومة إسماعيل الأزهري، واستمرَّ عمله فيها خلال حكم الرئيس جعفر النميري.
تعرَّض أحمد حسن مطر لحادث سيرٍ أثَّر على دماغه، ما دفعه إلى بيع كلِّ أملاكه بعد شفائه، ليسافر حول العالم في رحلة استجمام، ويعود بعدها إلى السودان حيث وافته المنية عام 1985.
ذلك هو أحمد حسن مطر، الصحافي العربي الأوروبي اللاتيني، الثائر العالمي الذي شارك في ثورات الحجاز والمغرب والجزائر والبرازيل.
هـ- محطات هامة
1- تم تصنيفه كأغرب شخصية في العالم
2- مع قيام الحرب العالمية الثانية لجأ إلى الأرجنتين، فربطته الظروف بالثائر العالمي تشي غيفارا، وأصبحا أعز صديقين.
3- تعرَّف على أهم الكتّاب والشعراء العرب في الأمريكيّتين وفي طليعتهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة.
4- توفَّرت له رؤية موانئ العالم الخمس: ريو دي جانيرو، إسطنبول، سان فرنسيسكو، سيدني ونيويورك.
5- كان صديقاً للملك عبد العزيز آل سعود، وربطته علاقة صداقة مع الشريف حسين بن علي.
6- تُرجم كتابه “سندباد من السودان” إلى 11 لغة عالميّة.
7- اعترفت تشيلي أنَّه كان من أوائل رؤسائها، وسجَّلت له الجزائر أنَّه كان واحداً من محرِّريها.

مقتطف من كتاب: “دليل اجتماعي للجالية الناطقة بالعربية في كولومبيا” (تحت الطبع)، للكاتبَين الزميل عبد الناصر علي طه ومروان محمد درويش.
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى