سوريا الجديدة.. هل يصمد الإعلان الدستوري أمام التحديات؟!
“المدارنت”..
في كلمة متلفزة يوم الخميس الثلاثين من يناير، قال الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع «سنعلن في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، الذي سيكون منصّة للمداولات والمشاورات والاستماع لوجهات النظر حول برنامجنا السياسي المقبل. وبعد إتمام هذه الخطوات سنعلن عن الإعلان الدستوري ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية».
وكان ذلك بعد أن اختاره «مؤتمر النصر» قبل يوم واحد لرئاسة البلاد للمرحلة الانتقالية، بحضور بضع مئات من قادة الفصائل العسكرية، وبعض الضباط المنشقين. ربما أراد الشرع بتلك الكلمة أن يقدّم نفسه بشكل أكثر وضوحاً، بعد أن أثار المؤتمر السابق وما طُرح فيه من اللغط والملاحظات.
أحصر موضوع هذه المقالة بمسألة الإعلان الدستوري، الذي يُقال فيه إنه مجموعة من المواد القانونية، لتنظيم الدولة في حالة سقوط النظام، وحدوث تغيير جذري في نظام الحكم، وهو عبارة عن دستور موجز، مكون من عدد قليل من المواد، يسمح للسلطة الحاكمة بحكم البلاد بصورة قانونية، وإصدار قوانين تسهل الحياة في البلاد، حتى يتم وضع دستور جديد، وتكون إعادة النظر فيها عند اللزوم أسهل وأقلّ أعباءً.
من دونه إذن يحتمل بقوة أن يصبح النظام الجديد ديكتاتورياً؛ وبه يثبت حسن نيّته في تمثيل ما أراده ويريده شعبه. ليس بعنوانه وحسب، بل بمضامينه المعيارية على وجه التحديد. في سوريا، يُثبت بذلك ما يقوله من أنه امتداد للثورة التي قامت في مارس 2011، بأهدافها المفهومة والمتكرّرة. وليس ما يقوله من يشكّك بذلك، ويثير في معرض قوله ذاك تاريخ هيئة تحرير الشام وتصنيفها، الذي سيحمل وصف «السابق» قريباً على الأغلب- والأيديولوجيا التي حملتها. بناءً على ذلك، فإن إعلان المبادئ الدستورية سوف يتوجّه إلى مجتمع يطمح إلى أن تكون دولته الجديدة حرّة ديمقراطية، وفقاً للمعايير التي تتمتع بها الديمقراطيات الناضجة والمتقدمة. تلك الديمقراطية التي نطق الشرع باسمها- أخيراً- في مقابلته مع «إيكونوميست» البريطانية، وقال فيها، «في منطقتنا، هناك تعريفات مختلفة للديمقراطية، إذا كانت الديمقراطية تعني أن الشعب هو من يقرر من سيحكمه ومن يمثله في البرلمان، فنعم.. سوريا تسير في هذا الاتجاه».
وتلك قولة حق يريد الشعب المعنيّ سماعها حتماً من حكومته الانتقالية؛ لكنّها ليست وحدها الديمقراطية، التي لا تكون ما لم تكن في قلبها حقوق الإنسان والحريّات الأساسية. ذلك هو المضمون الرئيس المطلوب للإعلان الدستوري، الذي يعبّر عنه في بنوده وموادّه. حين كانت الديمقراطيّة لا تزال جنيناً، أو رضيعاً في أحسن الأحوال، بعد ستة أسابيع فقط من سقوط الباستيل في الثورة الفرنسية، تمّت كتابة لائحة حقوق الإنسان والمواطن، التي أصبحت أساساً جميلاً لكلّ اللوائح الدولية الحديثة.
كتب مسوّدتها الأولى الماركيز لافاييت، بالتشاور مع توماس جيفرسون صديقه حين كان في أمريكا لتقديم الدعم والخبرة العسكرية للاستقلال الأمريكي عن بريطانيا، الذي جاء إلي باريس سفيراً بعد الثورة الأمريكية. جيفرسون أيضاً كان قد كتب مسوّدة «إعلان الاستقلال»، وأسهم في وضع دستور الولايات المتّحدة. كان الشعب الفرنسي الثائر حريصاً منذ البداية على وضع أعزّ أهدافه في «ورقة» موجزة مستعجلة تسبق وضع الدستور، وتسدّ فراغاً بتكريس أهمّ أهداف الثورة، لذلك احتوت تلك الورقة على مقدّمة وسبع عشرة مادّة تحدّد «حقوق الإنسان الطبيعية غير القابلة للتصرّف».
نصّت المادة الأولى على أن» الناس يولدون ويظلّون أحرارا ومتساوين في الحقوق»، وحدّدت الثانية هدف أيّ كيان سياسي بأنّه «الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية وغير القابلة للتقادم. وهذه الحقوق هي الحرية، والتملّك، والأمان، وحق مقاومة الظلم»، ثمّ حصر حقّ السيادة الكاملة بالأمة. عادت المادة الرابعة لتبيّن كيف تقف حرية الإنسان عند حدود حرية الآخرين، الأمر الذي يتطلّب وجود القانون وسيادته.
لكنّ ذلك القانون يستطيع منع ما يضرّ بالمجتمع، ولا يمكن منع أحد من القيام بما لا يأمر بمنعه (المادة الخامسة)؛ ولا تمييز بين المواطنين المتساوين في الوظائف العامة سوى كفاءتهم وقدراتهم (المادة السادسة)؛ كما أنه لا يجوز اتّهام إنسان أو اعتقاله واحتجازه إلّا في إطار القانون، مع وجوب تلبيته وإطاعته لأيّ استدعاء أو قرار احتجاز، ولكن مع معاقبة من يصدر وينفّذ أيّ أمر تعسّفي (المادة السابعة). ولا يجوز إقرار عقاب قانوني إلّا بموجب قانون صادر قبل وقوع الجريمة (المادة الثامنة)، لكنّ كلّ إنسان يبقى بريئاً حتّى تثبت إدانته، وينبغي قمع أيّة شدّة مخالفة للقانون (المادة التاسعة). تلك المواد تشرح بعض مناحي سيادة القانون في ذلك الزمن.
بعد ذلك تعود المادة العاشرة لتنصّ على أنه» لا يجوز إزعاج أحد بسبب آرائه، حتى الدينية منها، بشرط ألا يخل إظهارها بالنظام العام الذي يقرره القانون»، ويحدّد في الحادية عشرة أن» حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي من أثمن حقوق الإنسان: لذلك يحق لكل مواطن أن يتحدث ويكتب ويطبع بحرية، مع تحمل المسؤولية عن إساءة استخدام هذه الحرية في الحالات التي يحددها القانون».
نصّ الإعلان هنا على أن «ضمان حقوق الإنسان والمواطن يتطلب وجود قوة عامة: وبالتالي يتم تأسيس هذه القوة لصالح الجميع، وليس من أجل المنفعة الخاصة لأولئك الذين أوكلت إليهم» (المادة الخامس عشرة)؛ لكنّه أكّد أيضاً في السادس عشرة على أن أي» أي مجتمع لا يتم فيه ضمان الحقوق، ولا يتم فيه تحديد الفصل بين السلطات، لا يوجد فيه دستور» أيّ ليس دولة على النمط الحديث الذي قامت الثورة من أجله. وختم الإعلان موادّه بالنصّ على أن» الملكية حق مقدس لا يجوز المساس به، ولا يجوز حرمان أحد منها إلا إذا كانت هناك ضرورة عامة تفرض ذلك، استناداً إلى القانون، وبشرط تعويض عادل ومسبق».
وعلى الرغم ممّا ورد في المادة الأولى والعاشرة والحادية عشرة، وتأسيساً عليها ثمّ تحديثاِ لها، أصبحت الحريّات الأساسية جزءاً مكمّلاً ومكافئاً تقريباً لحقوق الإنسان، وصارت جزءاً مهماً من الدساتير التي جاءت بعد الثورات الكبرى. والحريات الأساسية هي الحريات السياسية الأساسية المطلوبة في النظام الديمقراطي. ومع الحقوق تضمن الحريات أن الفرد قادر على التصرف أو التفكير أو الوجود أو التصرف، دون تدخل الحكومة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. تختلف طريقة التعبير عن تلك الحرّيات في اللوائح والدساتير الحديثة، لكنها عموماً حرية الضمير والفكر والرأي والعقيدة والتعبير، وحريّة التجمع والتظاهر السلمي مع حرّية التنظيم وتشكيل الأحزاب والجمعيات، ويدخل في ذلك كلّ ما يشجّع تطوير المجتمع المدني وازدهاره…
تنشيط وحماية تلك الحريّات ضمان لتلافي الأخطاء في البدايات، ولجعل المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية شاملة، تعزّز فرص بلاد دخلت في طور التغيير الجذري – مثل سوريا- بأن تنجو وتقطف ثمار تضحيات أبنائها. ولا بدّ من تقليص حمايات» الخصوصية القومية» وغيرها، التي استخدمها النظام السابق مراراً وتكراراً للتهرّب من التزامات الحريات والحقوق التي تشمل كلّ مكان وزمان.
بلغ عمر اللوائح المذكورة أعلاه عمرها قرنين ونصف القرن تقريباً، لكنّها عموماً أساس لدولة العصر الحديث، ولإعلان مبادئ دستورية يحتوي عليها، وتكون جزءاً لا يجزّأ من دستور البلاد المقبل حين يتم إنجازه و»طبخه» بهدوء من خلال التوافق والتسويات والتنازلات المتبادلة. يمكن كذلك للإعلان أن يحتوي على نقاط سهلة التمثّل، مثل «وحدة البلاد» و»سلامة حدودها» و”هوية مواطنيها الجامعة”، وحتى تضمين «اللامركزية» من دون أيّ تفصيل حتّى يتمّ تحضير طاولة ملائمة لكلّ تفصيلات الدستور، التي تجمع بلداً يغلب عليه التنوّع وتؤلّف بين القلوب والعقول.. وهذا أيضاً باب للحوار.