شبح الحرب المدمّرة في شبه القارّة الهندية!
“المدارنت”
على الرغم من أن الحرب ظاهرة لازمت المسار الإنساني منذ الأزل، فإنها ليست خيارا محبّبا لدى الحكومات أو الشعوب. فمهما كانت نتائجها من حيث النصر أو الهزيمة، فمن يشارك فيها يشعر بالخسارة. وهل هناك خسارة أكبر من إزهاق الأرواح؟ فضلا عما ينجم عنها من خسائر مادية كبيرة.
الدول تبذل جهودا كبيرة وتستثمر بسخاء لتطوير البنية التحتية، لكن هذه البنية التي تستغرق سنوات أو عقودا لإنشائها سرعان ما تتعرض للتدمير الهائل عند نشوب النزاع. وتقضم جهود إعادة إعمار البلدان بعد ما يصيبها من دمار بسبب الحرب نسبا هائلة من موازنات الدول، على حساب المشاريع الاجتماعية والمعيشية. صحيح أن الحرب الحديثة تسعى لتفادي استهداف المدنيين والقتل الجماعي على نطاق واسع، ولكن ليس هناك «حرب نظيفة» بل أن النزاعات المسلّحة تؤدي لدمار هائل. وإطلاق الصواريخ من مسافات بعيدة يسهم في توسيع الخسائر المادية الهائلة. وكما هو معروف في الثقافة العسكرية فإن من غير الممكن كسب الحرب من دون إنزال الجنود على الأرض لتحقيق سيطرة جغرافية ملموسة. فالحرب الجوّيّة تحدث دمارا هائلا في البنى التحتية، كما يكشفه الدمار الهائل الذي لحق بقطاع عزّة بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل، ولكن حكومة الاحتلال أدركت أنها لم تحقق الهدف الرئيسي الذي أعلنته بعد حوادث 7 أكتوبر، وهو القضاء على المجموعات المسلّحة. بينما كان الدمار المادي شاملا، الأمر الذي أغضب العالم بدون استثناء وجعل قوات الاحتلال مستهدفة بالدعاوى القضائية بتهم ارتكاب جرائم حرب واسعة.
لذلك ليس غريبا ان يتحاشى طرفا النزاع في شبه القارة الهندية الدخول في حرب مباشرة تشمل القوات البرّيّة. فقد خاض الطرفان ثلاث حروب منذ التقسيم في العام 1947، وشهدا حجم الدمار الذي حدث. فبعد كل حرب كانت مشاريع إعادة الإعمار تستغرق سنوات عديدة وتقضم أموالا هائلة. ويصعب على كل حاكم أن يرى ما حققه من إعمار مهددا بالخراب في حرب أخرى. وعلى مدى أكثر من ثلاثة أرباع القرن، بقيت قضية كشمير نقطة خلاف بين الهند وباكستان. إذ لم يكن تقسيم شبه القارّة الهندية حدثا سهلا، بل نجمت عنه مشاكل ما تزال عالقة أهمها الصراع على كشمير. إذ يفترض أن تنال استقلالها كاملا، ولكن البلدين احتفظا بنفوذ واسع فيها، ولذلك لم تتوقف المناوشات بين الطرفين بشأنها.
في بداية أزمة التقسيم لم يكن أي من البلدين يمتلك سلاحا نوويا، وكانت الحروب بينهما تقليدية، ولم تحقق انتصارا ساحقا لأي منهما. ولذلك تواصلت الأزمة بدون أن تجد حلّا. صحيح أن الأمم المتحدة أصدرت قرارات بهدف احتواء الأزمة والسعي لحلها، ولكن في ظل حالة التنافس والتسابق على النفوذ يصعب احتواء الوضع خصوصا مع بقاء مستقبل كشمير معلّقا.
ومنذ أن انضمت الهند الى النادي النووي في العام 1974 في أول تفجير نووي باسم «بودا المبتسم» سعت باكستان لامتلاك القنبلة النووية، واشتهر عالمها النووي، عبد القدير خان، الذي توفي في أكتوبر 2021، بدوره في تأسيس المشروع النووي الباكستاني، وتحت إشرافه قامت باكستان بعدد من التفجيرات النووية في مايو 1998، بعد أن قامت الهند بتجارب نووية عديدة في تلك الفترة. ويعتقد أن باكستان تمتلك حوالي 170 رأسا نوويا، في مقابل الهند التي تحتفظ بـ 180 من الرؤوس النووية. ويمكن القول إن امتلاك البلدين أسلحة نووية بهذا الحجم ربما ساهم في تقليص نزعتهما للحرب، فالسلاح النووي يعتبر رادعا نظرا للخشية من تحوّل أي نزاع محدود إلى حرب نووية مدمّرة لا تبقي ولا تذر. وتبقى منطقة كشمير نقطة التماس بين البلدين النوويين، يمكن أن تشتعل في أية لحظة. فقد بقيت أوضاع تلك المنطقة مضطربة منذ حرب التقسيم. وما التوتر الحالي بين البلدين إلا نتيجة الحادثة التي وقعت في 23 أبريل في باهالغام في كشمير عند جبال الهيمالايا. وقد أسفر الحادث عن مقتل 26 سائحا هنديا. ونجم عن تلك الحادثة أمور عديدة.
أولها أن رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي قطع زيارته للمملكة العربية السعودية التي كانت الهند تراهن عليها كثيرا لتحسين العلاقات وتوسيع فرص التبادل التجاري والتعاون السياسي بين البلدين.
ثانيها: اندلاع موجةً جديدة من الاضطرابات في منطقةٍ تُعدّ بؤرة صراعٍ إقليميٍّ طويل الأمد، وهذا من شأنه زيادة الأوضاع توترا في ما لو وقع المزيد من الضحايا.
ثالثها: أن نيودلهي قررت على الفور خفض مستوى علاقاتها مع إسلام آباد، وأغلقت معبرًا حدوديًا رئيسيًا، وعلقت لأول مرة مشاركتها في معاهدة حاسمة لتقاسم المياه، من بين إجراءات عقابية أخرى. وفي المقابل أعلنت باكستان سلسلة من الإجراءات الانتقامية، بما في ذلك تعليق التجارة. وألغى كل جانب تأشيرات دخول لمواطني الطرف الآخر. رابعها: بروز دور الجماعات المسلحة المحلية في كشمير التي تطالب إما باستقلال كشمير أو بانضمام المنطقة إلى باكستان.
إن بروز المجموعات المسلّحة بهذا الشكل والوضوح، يفتح ملفّا آخر يحظى باهتمام دولي حول هويّة المجموعات المسلّحة في العالم. فهناك نزعة دولية لتصنيفها على قائمة الإرهاب، بينما يستمر السجال حول ذلك التعريف ومدى شموله التعريفات المتعددة. ومن ذلك مصطلحات ذات دلالات واسعة من نوع: النضال الوطني، المقاومة المشروعة، حق تقرير المصير، بالإضافة لمقولة الحوار الديني في مناطق الصراع، والسعي للتعاطي مع قضايا التحرير الوطني بمنطق مختلف ومحدد عما هو سائد لتوصيف المجموعات المسلّحة التي ظهرت في افغانستان خلال الغزو السوفياتي وما صاحبها من تحوّلات أيديولوجية. وبرغم مرور أكثر من نصف قرن على توسع دوائر النضال الوطني وخوض معركة الحرّيّات في العالم الثالث، ما يزال الغربيون يحصرون نقاشهم ضمن الدائرة الضيقة المتصلة بالعنف السياسي. لذلك فما لم يكن هناك وضوح من جانب المجموعات المسلّحة الكشميرية حول أيديولوجيتها السياسية وتوجهاتها السياسية واستراتيجياتها العسكرية، فليس مستبعدا تصنيف بعضها على قائمة الإرهاب، خصوصا إذا قرّرت أمريكا الانحياز إلى الهند. وقد برزت جبهة المقاومة الكشميرية إلى الواجهة بعد إعلان مسؤوليتها عن هجوم باهالغام الأخير. وعبّرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن استيائها من «الغرباء» الذين استقروا في المنطقة وتسببوا في «تغيير ديموغرافي». وتعتبر جبهة المقاومة جماعة مسلحة جديدة نسبيًا، ولا يُعرف عنها الكثير، إذ لم تعلن عن وجودها إلّا عام 2019 بعد أن أعلنت مسؤوليتها عن هجوم بقنبلة يدوية في سريناغار، كبرى مدن جامو وكشمير. وصنّفت الهند جبهة المقاومة الكشميرية «منظمة إرهابية» وربطتها بجماعة «لشكر طيبة» المحظورة، التي كانت وراء هجمات مومباي الدامية عام 2008.
وهكذا تبدو آفاق النزاع المسلح بين الهند وباكستان مصدرا لقلق مضاعف، إذ لن ينحصر بالمناوشات الحدودية والاقتصار على الأسلحة التقليدية، بل ثمة خشية من تفاقم الأمور بما يخرجها عن السيطرة. وهرعت دول عديدة للتحرك من اجل احتواء الموقف، وحدثت اتصالات سرّيّة مع كل من نيودلهي وإسلام آباد لمنع تفاقم الوضع. ويبدو أن هناك مبادرات في هذا الاتجاه من أطراف عديدة من بينها المملكة العربية السعودية وإيران، تهدف للوصول إلى أرضية للتفاهم بين الأطراف المعنيّة على أمل ان تستقر الأوضاع في شبه القارّة الهنديّة. فبرغم من وجود حزب متطرف على رأس الحكم في الهند، فإن هناك استيعابا لدى رموز ذلك الحزب بالمآلات الكارثية لأيّ مواجهة عسكرية. فلدى الطرفين مصالح مشتركة تؤكدها الاتفاقات الثنائية حول عدد من القضايا من بينها معاهدة مياه نهر السند، وهي اتفاقية مهمة لتقاسم المياه بين الهند وباكستان دخلت حيز التنفيذ منذ عام 1960 وتعتبر قصة نجاح دبلوماسية نادرة بين الجارتين المتناحرتين. كما أعلنت الهند عن إغلاق معبر حدودي رئيسي، وفرض مزيد من القيود على تأشيرات الدخول المحدودة أصلا للمواطنين الباكستانيين. وطردت مستشارين عسكريين وبحريّين وجوّيّين من المفوضية العليا الباكستانية في نيودلهي. هذه الخطوات المتسارعة لا تبشر بخير لاستقرار المنطقة، على حد قول أحد الخبراء. يقول الأستاذ المساعد في العلوم السياسية بجامعة تافتس الأمريكية، فهد همايون: «لا يُعد تعليق المعاهدة انتهاكًا لالتزامات المعاهدات الدولية فحسب، بل إن الحق في المياه، كدولة تقع على ضفاف نهر السند، يُنظر إليه على أنه قضية أمن قومي بالنسبة لباكستان، وسيُعتبر تعليقه عملاً عدائيًا».