شَجاعةُ اللـّغة العربيـّة..
خاص “المدارنت”..
الشّجاعة ُ في اللـّغة تعني “شدّة القلب عندَ البأس”، كما جاء في لسان العرب لابن منظور، أو ” شديد القلب عند البأس” كما في القاموس المحيط للفيروز أبادي، فالشّجاع هو الـّذي يـُقـْدِمُ على أمر ٍ يخشاهُ غيره، ويتجرّأ على فعل ٍلا يقوم به أيّ كان. وهي صفة للإنسان بين أقرانه، فأين تكمنُ شجاعة اللـّغة العربيـّة بين أقرانها من اللغات؟
إنَّ تفوّق اللـّغة العربيـّة في عدد مفرداتها ومشتركها اللفظيّ وترادف مفرداتها وتنوّع أضدادها وتمايز دلالتها وفقا للسياق، قد يقابله ما يوازيه بين اللـّغات، بغض النظر عن الكثرة والقلة. فعلى ماذا أقدمت لغتنا حتى تكون شجاعة بين أترابها؟
لقد تمايزت لغتنا العربيـّة عن لغات العالم بأساليب لم تجرؤ لغة في العالم على استخدامها، ما جعلها تزداد روعة ًورقيًا في التعبير، إنها الحذف والتقديم والتأخير واستعمال الحروف بعضها مكان بعض.
حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف، أمّا الجملة فمثلها في قول: والله لا فعلت وأصلها أقسم بالله لا فعلت، فحذفت جملة القسم (أقسم). وحذفت الإسم في مثل قوله عزّ وجل “وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ.. 82 سورة يوسف”، والمقصود فيها (اسأل أهل القرية)، وحذفت المضاف إليه كقوله تعالى “لله الأمر من قبل ومن بعد”4 سورة الروم”، أي ( من قبل ذلك ومن بعده)، أو الخبر كما لو أجبت على سؤال: من عندك؟ فتقول: زيدٌ، والأصل في الكلام أن تقول زيدٌ عندِي، عوضًا عن حذف الموصوف كقولك: مررت بطويلِ، أي برجل طويل، والمفعول به كقوله تعالى “وأوتيتْ من كل شيء “23 سورة النمل”، أي أوتيت منه شيئا. والعرب تحذف الفعل أيضًا ومثال ذلك قولك: أزيدٌ قام والأصل أن يُقال :أقام زيدٌ، وقد فسره ما بعده وهو قام. وتحذف الحروف كحذف النون من الأفعال الخمسة كقولهم: لم يكتبوا أو الألف المقصورة في: لم يرَ .
استعملت العرب في لغتهم التقديم والتأخير، فقدّموا المفعول به على الفاعل كقولهم: ضربَ زيداً عمرٌو، أو على الفعل كقولهم: زيدًا ضربَ عمرٌو، وقدّموا الظرف كما في: سارَ يومَ الجمعة جعفرٌ والأصل سارَ جعفرٌ يومَ الجمعة، وكذلك الحال فقالوا: جاء ضاحكـًا زيدٌ والأصل جاءَ زيدٌ ضاحكـًا، كما قدّموا الخبر على المبتدأ كقولهم: في الدار صاحبك والأصل صاحبك في الدار.
وضعت العرب الحروف مكان بعضها، فنجد في قوله عز وجل “مَنْ أنْصارِى إلى الله” 14 سورة الصف فـ(إلى) هنا جاءت بمعنى (مع)، وفي قوله تعالى “ولأصلبنَّكم في جذوع النخل” 71 سورة طه، وُضعت (في) بدلا من (عليها).
هذا غيض من فيض، ما تجرأت على استعماله اللغة العربية، أساليب لم ولن تجدها عند غير العرب، وهذه أدواتهم في زيادة التشويق عند المتلقي، والتفضيل بين المُتحَدَّث ِ عنهم، والإيجاز في الكلام، أدوات لم تجرؤ لغة ٌفي العالم على استعمالها، فاستحقت العربية بها صفة الشجاعة.
المرجع: الخصائص، ابن جني.