صدمة أرقام الانتخابات الجزائرية!
“المدارنت”..
تذكّر نتائج الانتخابات الرئاسية التي أعلنتها السلطة المستقلة للانتخابات الرئاسية في الجزائر بالمثل الجزائري “شكروا إبراهيم وقالوا عليه حرَّاث، حرث الجبانة”… هذا حال السلطة المكلفة بتنظيم الانتخابات في الجزائر، فالأرقام التي أعلنتها، بدءاً بتضخيم نسبة المشاركة، وانتهاء إلى إعلان النتائج، لم ترقَ إلى قبول جميع المترشّحين، وأولهم الفائز، الرئيس عبد المجيد تبّون، إذ يبدو أنه ومحيطه رفضوا سمّاً في عسل النتائج، ولم يتقبلوا أرقام جمهوريات الموز، ففي موقف غير مسبوق، أعلن المترشّحون الثلاثة، عبد المجيد تبّون (الفائز بنسبة حوالي 95%) وعبد العالي حساني شريف ويوسف أوشيش، في بيان مشترك لهم، رفضهم النتائج التي أعلنها رئيس السلطة الوطنية للانتخابات، محمد شرفي، والسبب في رأيهم “ضبابية وتناقض وغموض وتضارب في الأرقام”، ذلك أن قراءة متأنّية في لغة الأرقام تجعل مصداقيّتها مثار شك وريبة.
الصدمة الأبرز هي نسبة العزوف وعدم قدرة الأحزاب والمنظّمات على حشد الناس إلى الذهاب إلى صناديق الاقتراع. لم تنفع وعود المترشّحين، ولا خرجاتهم الميدانية، ولا نشاطات الأحزاب الأخرى المؤيدة للرئيس تبّون، ولا لفيف الجمعيات الأهلية التي تدور في محيطه، من إقناع المواطنين الجزائريين بضرورة الذهاب إلى تأدية حقهم الانتخابي، بل إن تهريج بعض أعضاء الطبقة السياسية أدّى إلى إفشال ترويج الانتخابات، بل أحياناً كان سبباً في عزوف بعضهم عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع، وكما قال أحد المتابعين، “في النهاية كان يُمكن لتبّون أن يفوز بدونهم جميعاً”.
يُمكن لعملية حسابية بسيطة أن تظهر حجم التضارب في الأرقام المعلنة من سلطة تنظيم الانتخابات. بلغ عدد المسجّلين في القوائم الانتخابية 24.3 مليون ناخب، وبلغت نسبة المشاركة المعلنة 48%، وهو ما يعادل كتلة ناخبة قدرها 11.66 مليون صوت، غير أن السلطة المعنية بالانتخابات أعلنت أن مجموع الناخبين (الذين صوّتوا للمرشّحين الثلاثة) بلغ 5.63 ملايين ناخب. وهنا يلح السؤال الذي بات يطرحه الجميع، أين ذهب فارق الأصوات، البالغ ستة ملايين و300 ألف صوت؟.
لم تعلن السلطة المستقلة للانتخابات نسبة المشاركة، وهي معلومة أساسية في تقدير الأصوات، وتعمّدت اعتماد طريقة حساب غريبة سمتها “معدّل نسبة المشاركة” وبعد تمديد التصويت ساعة، أعلن رئيس سلطة الانتخابات محمد شرفي نسبة مشاركة “لمعدل الولايات”، في حين أن نسبة المشاركة المتعارف عليها هي عدد من أدلوا بأصواتهم، مقسوماً على عدد الناخبين المسجلين.
معالجة العزوف الانتخابي مهمّة السلطة من خلال
توسيع العمل السياسي العام ومنحه مزيداً من الحرّيات
تناقضٌ صارخٌ وبيِّنٌ يطرح سؤال الحقيقة، ويطرح قبل ذلك سؤال العزوف الذي كان الجميع يخشونه. لم يكن غياب الناخبين الجزائريين عن أداء حقهم الانتخابي استجابة لأي مقاطعة، فالمقاطعة كما تُعرَّف عمل سياسي بالدرجة الأولى، وسُكُون العمل السياسي في الجزائر منذ فترة لا يدع مجالاً لمثل هذه الدعوات، كما أن بعض من دعوا إلى المقاطعة لا يتمتّعون بكثير مصداقية لدى الشعب الجزائري، خصوصاً أن أصواتهم جاءت من خارج البلاد، وهو ما يتحسّس منه الجزائريون كثيراً ويرتابون في نياته وأهدافه.
تبقى معالجة قضية العزوف أمراً ملحّاً، وهي مهمة السلطة أولاً، من خلال توسيع العمل السياسي العام، ومنحه مزيداً من الحريات والشفافية، والاهتمام بالانخراط السياسي الفعلي المبكر لدى طبقة الشباب خصوصاً، وتنظيف المجتمع المدني والجمعيات الأهلية من أدران الانتفاع المادي، وتنزيه الإدارة من التدخّل في الشأن الانتخابي والسياسي.
حمَّل المرشح عن حزب جبهة القوى الاشتراكية، يوسف أوشيش، الحاصل على نسبة 2.16% من إجمالي عدد الأصوات، بحسب أرقام السلطة الرسمية المسؤولية الكاملة للسلطة المشرفة على تنظيم ومراقبة الانتخابات، مطالباً بفتح تحقيق معمّق لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء ما وصفه “بالتزوير الذي شاب عملية الإعلان عن النتائج الأولية”. أما الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات فهو المرشّح الإسلامي، عبد العالي حسّاني شريف رئيس حركة مجتمع السلم الإسلامية، الذي وصف ما حدث بـ“التزوير” في نسبة المشاركة، مع اعترافه بفوز الرئيس عبد المجيد تبّون بولاية ثانية. وتتمثل خسارته في النسبة التي أعلنتها لجنة الانتخابات، والتي بلغت 3.17% بعدد أصوات 178 ألفاً و797 صوتاً. وهي نسبة ضئيلة جداً، بالرغم من أن حسّاني قال، في مؤتمر صحافي عقده لإعلان رفضه للنتائج، إن النتائج الحقيقية أكثر من ذلك. ما يهم في هذا السياق هو النتيجة التي أعلنتها لجنة الانتخابات، والتي قاربت بين حزبي “حمس” وجبهة القوى الاشتراكية، رغم أن “حمس” موجود في كل المحافظات، وهياكله منظّمة في معظم الدوائر الانتخابية، وله كتلة انتخابية وفية وعاملة. أما انتشار “جبهة القوى الاشتراكية”، عبر المحافظات فمقتصرٌ على عدد منها، ولم يُعرف عنه انتشار واسع في جل الدوائر الانتخابية.
على الجميع سلطة وطبقة سياسية القيام بعملية نقد ذاتي
عميق من أجل إعطاء الانتخابات مصداقية
تؤشّر قراءة للنتيجتين إلى عدم توفيق “حمس” في فهم المُناخ السياسي في الجزائر، وهو الذي زكّى منذ التسعينيات (أيام مؤسّسه محفوظ نحناح) سياسة المشاركة، والنأي عن سياسة الفراغ، بل المساهمة سنوات طويلة (أيام حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة)، برفقة حزبي جبهة التحرير الوطني والتجمّع الوطني الديمقراطي، في تسيير دواليب السلطة، والتي تبنّاها يومها أمينه العام أبو جرة سلطاني، وتخلى عنها فيما بعد أمينه العام عبد الرزاق مقري، فهل ستسمح النتائج المعلنة أخيراً للحزب بمواصلة الانخراط التشاركي في العمل الانتخابي مستقبلاً، وهل يستطيع الحزب تجاوز هذه النتائج، أم أنها، وقد ضيّقت على “حمس”، ستمكنه مستقبلاً من الحفاظ على مبدأ المشاركة؟ كما ستطرح على السلطة سؤال وجاهة مشاركة الأحزاب وجدواها، وسبل العمل السياسي والحزبي الممكن في الجزائر.
كان واضحاً أن لنسبة التصويت المتدنية من المبرّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكثير، وأن على الجميع سلطة وطبقة سياسية القيام بعملية نقد ذاتي عميق من أجل إعطاء الانتخابات مصداقية، وتجاوز شبح العزوف، وبناء مؤسّسات قوية تستطيع مواجهة التحديات، وتحقيق التنمية.المصدر:”لعربي الجديد”