عُراةٌ في دمشق.. من مُنجزات الرئيس!
“المدارنت”..
استأنَفَتْ فكرة التعرّي نصّاً بصريّاً محدوداً للغاية، طرأ على بعض شوارع دمشق في الآونة الأخيرة، تقديمَ نفسها نسقاً طارئَ الدلالة، يتأرجحُ بين استنتاجاتٍ أُمّيةٍ تدينُ تبرؤ الجسد من أغلالِ هندامه وكياسة حضوره الاجتماعي، وبين تورّط المعاناة العامة في شكل تعبيري غير اعتيادي، وذي هيئةٍ نازفة المضمون وغير مُتّزنة، عبر تحدّي دولة الخوف والبوليس الأعمى، تلك التي سَجن بواسطتها النظام السوري كامل المجتمع، طيلة أكثر من نصف قرنٍ مضى.
فأن يظهر شخصٌ مُعتمراً قبّعةً صيفيّةً سوداء، منتعلاً حذاءً، يسيرُ مُجرّداً من ملابسه، قاصداً ساحة الأمويين وسط العاصمة دمشق، وثمّة من يصوّره من الخلف، فهذا معناه الاستقواء بسردٍ بصريّ ناقمٍ على المألوف، ولا يطيقه أيضاً، وقد تجرّأ على نقض سيمياء الجسد المكترثِ بملابسه، في بلدٍ مسلمٍ كسورية، لكنّ عاصمته مخطوفةٌ من مجاز “المتعة”، التي دوّنها الإيرانيون ثقافةً دخيلةً إلى عاصمةٍ أفسدها من احتلّها، وليس القول هنا إنّ ذاك المشهد هو صنيعةٌ إيرانية، وسواه، كالصبيّة التي ظهرت وهي تستحمّ عاريةً في حديقة الجاحظ القريبة من مكتبة الأسد، وساحة الأمويين أيضاً، وجرى تصويرها كذلك.
ولعلّ التنكّر لارتداء الثياب في الحالتَين السابقتَين يقتبسُ شيئاً من التذمّر والرفض للتموضع داخل إطارٍ ثابتٍ من الامتثاليّةِ الجمعيّة، وكأنّ فعل التعرّي هنا، ينتهزُ فرصة الحرّ الشديد، أو الافتقار إلى المياه ذات الاستخدام المنزلي، ليعلنَ صراحةً عدمَ التريّث في قبول ما هو قائم، بل التمادي في التمرّد الحسّي عليه، فمذهب التعرّي أو “الطبيعاتيّة”، ومرادفه في اللغة الإنكليزية (Naturism)، هو في الأصل حركة ثقافية وفلسفية ظهرت على أنّها معنيّةٌ بالدفاع عن حرّية ممارسة الحياة من دون ملابس، وكان الألماني “ريتشارد أونوغوتير” في كتابه “التعرّي” الصادر عام 1906، عرّاب تلك الحركة، التي قمعتها ألمانيا النازيّة بشدّة، لكنّها أبصرت دروبَ تمظهرٍ جديدةٍ في الولايات المتّحدة، وبريطانيا، وكندا، ثمّ، في عام 1974، عرّف الاتحاد الدولي الطبيعاني مذهب التعرّي بأنّه نمطُ حياةٍ يحقّق انسجاماً كلّياً مع الطبيعة من خلال ممارسة التعرّي بقصد احترام الذات، واحترام ذوات الآخرين أيضاً، وهذا الذي يتناغم بعمقه مع الطبيعة الأمّ.
والرجلُ الذي لا نعرف اسمه بعد، لكنّ أحدهم صوّره وهو يمشي عارياً وسط دمشق، قد يكون غير مكترث بتعريف الاتحاد الدولي الطبيعاني لمذهب التعرّي في الحياة، على الأقلّ، هذا ما أوصلته إلينا منصّة المسبر الإعلامية، حين عرضت عُريّ الرجل، وقالت إنّه خريجٌ جامعي، وموظّف حكومي، لكنّه باع ثيابه ليشتري بثمنها دواءً لابنته المريضة، وبالرغم من الطابع الدرامي النمطي، الذي تكتسي به هذه السرديّة، كما معظم سرديّات المحنة والحاجة الشديدة، غير أنّها جاءت هنا لتُبرّئ الرجل من تهمة الجنون، التي طابَ لكثيرين وسْمَهُ بها، ليتطابق عُريّ هذا الرجل سيميائيّاً مع عُريّ النظام الحاكم لسورية، وهو نظامُ عصابةٍ نهّابة، اغتنت مكوّناتها جرّاء إفقار الناس ونهبهم بصورة متواصلة، وبرعاية حثيثة من بشّار الأسد وزوجته التي أخفاها سرطان الدم عن أنظارنا أخيراً.
وتحت أنظارنا رأينا امرأةً تستحمّ عاريةً في حديقة الجاحظ وسط دمشق، كانت تسكب الماء على جسدها من دلوٍ كان إلى جوارها، وهذه فعلةٌ لا تُطالبُ بحيّزٍ من الاجتهاد لأجل فهمها، حتماً لم تجد ماءً في حمّام بيتها لتغتسل به، لكنّ الاستقواء بعُريّها، كما استقوى الرجلُ الذي باع ثيابه بعُريّه أيضاً، إنّما هو إدانةٌ لنظام دمشق العاري مُجدّداً، فالعورتان الظاهرتان هنا، يكون في مقدورهما أن يذمّا من عرّاهما، أو لنقل، من أوصلهما إلى طردِ ثيابهما عنهما، كما يبدو من الصعب أيضاً، استدراج ذاك العُريّ إلى مشهديّة الإغواء والاشتهاء، وتناوله وفق ما تُمليه هذه الفرضيّة، باعتبار أنّه عُريٌّ منكوبٌ بالحاجة ومحنتها.
عام 2007 قرّرت السلطة في سورية أن تحتفل بالفنّانة التشكيلية الأميركية هالة فيصل، ذات الأصول السوريّة، بأن تقيم لها معرضاً كبيراً في فندق فورسيزونز بعد مرور عامين على تعرّي هالة فيصل في ساحة واشنطن سكوير بارك في نيويورك، بعدما كتبت على ظهرها العاري، وباللون الأحمر، عباراتٍ تدعو إلى وقف الحرب على العراق، وفلسطين، لكنّ عُريّ هالة فيصل، في حينه، لا يشبهُ في منبته عُريَّ كل من الرجل والمرأة، اللذين ظهرا في دمشق أخيراً، فأن يكون العُريّ لأجل اللحاقِ بقضيةٍ عامةٍ بهدف تحفيز الانتباه إليها، مع استعارة قربان تخليص الجسد من أوزار ثيابه هو شأنٌ مُنفصلٌ عن العُريّ لأجل الإمساك بقضيةٍ شخصية قبل أن تتلَفَ، حتّى وإن تقاطعت هذه القضية الخاصّة مع الهمّ العام في جوانبَ عديدة.
ومن غير الشائك أيضاً، الاعتقادُ بأنّ حالتي العُريّ اللتين نتحدث عنهما في دمشق صارتا هما القضية في ذاتها، أكثر من كون الجسد، الذي غادرته ملابسه، قادراً على الحديث بطلاقةٍ عن أصل المشكلة، التي قادته إلى تلك الحالة بتموضعها الصادم للعامة، في وقتٍ لا يزال فيه النظامُ السوري ماضياً في افتعال العُريّ العام، واختبار مأزقيّته، ومن ثمّ، تحديد هويّته، وما إن كانت هويةً مؤذيةَ الدلالةِ، أم لا.
في القرن الرابع قبل الميلاد استطاعت جماعاتٌ من الرجال الذي يعيشون عراةً في الهند، إدهاش الإسكندر الأكبر، حينها أُطلق عليهم اسم “الفلاسفة العراة”، الزهدُ والتقشّف هما اللذان يقودان رؤى تلك الجماعات حين تواكب الحياة من منظورٍ مختلفٍ كلّياً عن السائد والعام، ولا يمكن بأيّ حال أن نتحايل على حالتَي العُريّ المرصودتَين أخيراً، في دمشق، وأن نحشرهما في مثل هذا الاقتران الفلسفي الذي يأخذ الزهد والتقشّف على محمل الجدّ، كما لا يمكن قبول ما قاله الأستاذ المساعد في مادة التاريخ المعاصر في جامعة برلين أرند باويركامبر، ذات مرّة، بأنّ العُريّ هو جزءٌ من الحركة التي ظهرت ردّة فعلٍ على الحداثة الصناعية، وعلى المجتمع العصري، الذي أفرزته التحوّلات الكُبرى أواخر القرن التاسع عشر، لدى مقاربة هذا الاستنتاج مع عُريّ كلّ من الرجل والمرأة في العاصمة دمشق، إذ نحن نقف هنا، أمام حادثة لها قوامها الخاص، وربما انبثاقها التلقائيّ من دون ادّعاءاتٍ فلسفية، فحالتَا التعرّي هاتان، في عاصمة النظام السوري، بإمكانهما أن تُدافعا عن ظهورهما بتلقائيّةٍ مُحبّبة لا تتقصّد إبهار أحدٍ بها، وليست معنيّةً بأن تُسيَّج بإطار معرفيّ لتبسيط فهمها، تبقى إذاً من منجزات بشّار الأسد الأكثر إثارةً للدهشة من سواها، خلال مسيرة تعريته الطويلة لبلاد صارت الآن، هالكةً كلّها، عاريةً بلا ملابسَ أو مأوى.