فلسفة الغرب الاستعمارية..! الجزء (3-4)
خاص “المدارنت”..
كيف نما العقل الإستعماري المعادي لحريات الشعوب والأمم في ظل النظام العالمي السائد منذ خمسة قرون:
“نظام رأسمالي ليبرالي علماني ديموقراطي”؟! وكيف أصبح العقل الغربي مستغلا جشعا إمبرياليا إلى الدرجة التي تبيح له عن سابق تصور وقناعة وتصميم؛ حروب الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج والنهب المنظم والسلب اللا متناهي؛ دون أيّ آعتبارات إنسانية أو أخلاقية من أي نوع، فالهدف عنده كان وسيبقى هو الربح والكسب المادي وتسويق الإنتاج باعلى منسوب من الربح وسرقة موارد الأمم، لتكون كلفة الإنتاج بأدنى منسوب ممكن، ثم تحويل البشر إلى مستهلكين بأكبر قدر من الإستهلاك وإلى خدم في مصالح رأس المال ومصانعه او جنود في الدفاع عنه.
فما هي فلسفته الفكرية التي تبيح له هذا المستوى من الإنحطاط الأخلاقي؟!
تقوم فلسفة العقل الغربي في الحياة على المفاهيم العقائدية التالية:
الرأسمالية
الرأسمالية، هي نظام إقتصادي يقوم على مبدأ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهذا يعني العمل الفردي لكسب الربح وزيادته، شعارها الأساسي: “دعه يعمل دعه يمرّ”. ومؤداها أن كل إنسان يعمل لتحقيق مصلحته الخاصة، وهكذا يتقدم المجتمع بإعتباره جماعة من الأفراد، ولما كان كل فرد يعمل لمصلحته الخاصة فمن الطبيعي أن تتحقق بذلك مصلحة المجتمع، وهذا يقتضي عدم تدخل الدولة في النشاط الفردي للإنسان، فلا حدود لعمل الإنسان في سبيل الكسب المادي وزيادة ارباحه من ناتج عمله، فالكسب المادي وزيادة الربح هي الغاية والمبتغى، وضمان تحقيق مصلحة الفرد والمجتمع وتقدمهما معا..
الليبرالية
الليبرالية، هي منهج فكري فلسفي يؤمن بحرية الإنسان التامة التي تسمح له أن يفعل ما يريد، من دون أي إكراه من أيّ سلطة خارجه، سلطة مادية أو روحية أو معنوية، فلا سلطة أو ضوابط تقيد سلوكه خارج نطاق قناعاته الذاتية وحريته وإستقلاليته التامة، (وعدم إيذائه لأحد غيره إحتراما لحريته الفردية أي حرية الفرد الآخر)، وهذا يعني تحرير الإنسان من ضوابط المجتمع وقيم الدين وأخلاق الجماعة أيًا يكن مصدرها أو مبعثها..
العلمانية
العلمانية، بالمفهوم الغربي الليبرالي، تعني تحرير الإنسان في حياته العامة – وليس في حياته الشخصية – من سلطة الدين وضوابطه ومفاهيمه وقيمه السلوكية، وشعارها فصل الدين عن الدولة، وهو ما كانت مبرراته تاريخيا ذلك التحالف الذي كان قائما بين النظام السياسي، وسلطاته المستبدة مع المؤسسة الدينية أي الكنيسة، وبها تم إستبعاد الدين عن شؤون الدولة وعن شؤون المجتمع أيضا، ليبقى شأنا فرديًا خاصًا تختصره جملة “الدين علاقة بين الإنسان وربه”، وليس له شأن فيما يتعدى ذلك..
الديمقراطية
الديمقراطية، ومضمونها الأصلي أن يختار الشعب بحرية تامة، شؤون حكمه ونظامه السياسي والإقتصادي والإداري، من دون وصاية من أحد، كما تتضمن مبدأ فصل السلطات الذي يهدف إلى إستقلالية القضاء والإعلام، ليمارسا دورهما في ضبط وتوجيه السياسة والإدارة والقوانين، ثم تداول السلطة، عبر الإنتخابات بما فيها تشكيل أحزاب تتنافس ديموقراطيا، لتمثيل الشعب والدفاع عن مصالحه والتعبير عنه..
هذه هي بإختصار قواعد وضوابط الفكر الغربي، وأسسه النظرية التي تحركه ويسترشد بها، فيما هو يعمل على تحقيق مصلحته..
وهي فيما هو ظاهر منها تبدو منسقة منمقة ومقبولة، ولكن التجربة التطبيقية أوصلتها إلى ميدان آخر، مختلف جذريا عما تتحدث عنه نظريا، فهي التي بالإجمال؛ أدت إلى تلك السلوكيات اللا إنسانية واللا أخلاقية في تعامل دولها مع كل دول العالم الآخر..
فالرأسمالية، أنشات وحمت وطورت نظام الإستغلال والإحتكار، وسنّت القوانين والتشريعات التي تحميه، كما أنتجت ذلك التفاوت المرعب في مستويات المعيشة والدخل والفوارق الإجتماعية التي تتعمق يوما بعد يوم، حتى وصلت الى مرحلة مقلقة للغاية، تهدد مصير شعوب بأكملها ومجتمعات بملايينها؛ لا بل تهدد مصير البشرية كلها..
والليبرالية، تقف وراء كل الظواهر السلوكية المتحللة من أيّ ضوابط أخلاقية، بحجة الحرية الفردية، وهي التي صاحبت نشوء ورعاية ذلك الإضطراب الإجتماعي النفسي والروحي الذي يلاحق المجتمعات الغربية، ويميزها إلى أن وصلت أمورها إلى الإنهيار الأخلاقي الذي تترجمه سلوكيات الفرد حيال ذاته نفسها، بما يتضمن تشريع كل أنواع الشذود والإنحراف، وكل ظواهر السلوك المخالفة للطبيعة الإنسانية وفطرتها، وتهدد مستقبل الأنسان الغربي ذاته…
وجاءت العلمانية، لتبعد المصدر الأساسي للإنضباط الأخلاقي في مجتمعات الغرب، والذي هو الدين المسيحي، فازاحته من مكانته الإجتماعية، لتحصره في سلوك فردي للمؤمنين، بعد محاصرتهم نفسيا ومعنويا وقانونيا وإجتماعيا، لتلغي دورهم في الرقابة الأخلاقية، وتلغي المصدر الإيماني للقيم الأخلاقية، حيث خلطت عمدا بين المؤسسة الدينية والدين وقيمه وضوابطه، ليتبين بالتجربة أنها تعادي الدين أصلا، وليس هدفها تصحيح مسار المؤسسة الدينية الكنسية، فأفقدت المجتمع مصدرا أساسيا للإنضباط السلوكي للفرد والجماعة، لتبقى سلطة القانون هي وحدها مصدر ذلك الإنضباط المطلوب، وهو المصدر – أي القانون – الذي تبين بالتجربة قابليته للإنتهاك والإستبعاد، بسبب سطوة وقوة نفوذ المؤسسة الرأسمالية، بما تملكه من إمكانيات هائلة ومن نزعة مادية للتحكم والسيطرة وإمتلاك كل شيء، ومن مقدرة على ضبط العقول وتوجيه الرأي العام وصناعة الوعي الذي يلائم مصالحها..
اما الديموقراطية، فتحولت في إطار القواعد الرأسمالية الليبرالية إلى شكل مفرغ من المضمون التمثيلي الحقيقي، ثم صارت غطاء لأصحاب المصالح الرأسمالية الكبرى، يتحكمون بكل مصادر القوة والتشريع والنفوذ، ومطية لهم للتحكم بالسياسة، وكل ما يتبعها من شؤون الحكم والإقتصاد والإدارة، فأفرغوها من مضمونها الإيجابي، ومسخوا قواعد تداول السلطة وفصل السلطات، وباتوا يتحكمون بها جميعا وفقا لما يخدم مصالحهم المادية والمالية وإستثماراتهم، وحولوها إلى مظهر أو شكل ديموقراطي عبر إنتخابات يملكون هم كل إمكانيات توجيهها، ومعها توجيه الناخبين في الإتجاه الذي يريدون، بعد أن تحولت العمليات الإنتخابية والسياسية أمرا بالغ التكلفة المادية، بما لا يستطيعه سوى كبار الأغنياء ورجال المال والأعمال الكبار، ومن هذا الباب دخل هؤلاء في عالم السياسة، ثم إنتقلوا من ممولين مؤثرين على أصحاب القرار؛ إلى أن أصبحوا هم أنفسهم أصحاب القرار..
إذن والحال كذلك، فإن التجارب تبين وتثبت كل يوم، كم أن سلوك السياسة الغربية بعيد تماما عن أيّ إلتزامات إنسانية أو أيّ ضوابط أخلاقية، تجتمع تلك الأسس والنظريات الفكرية والثقافية في إباحة كل هذا السلوك الغربي اللا أخلاقي واللإنساني، وحيث لا قيود على وحشيته وإجرامه بحق الإنسان والبشرية جمعاء.
وعلى الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير الذي تم في العالم الغربي؛ وأفاد البشرية كثيرا في مجالات عديدة؛ إلا أنه بقي غير منضبط بقيم أخلاقية بل وظفته القوة الراسمالية في خدمة اهدافها، المتمثلة ببساطة في العمل على تحقيق مصالحها المادية، وزيادة ارباحها بما يستدعيه من سيطرة تامة على الموارد الطبيعية والبشرية المتاحة على كوكب الارض؛ ولو اقتضى ذلك قتل الملايين من البشر الأبرياء..
فكان نشوء تلك الظاهرة الأخطر في تاريخ النظم الغربية في القرون الخمسة الأخيرة، ونعني ظاهرة الإستعمار الغربي لشعوب ومجتمعات العالم، وهي الظاهرة التي جسدت مفاهيم الغرب الفكرية والثقافية بكل وضوح، بمثل ما جسدت تنحيته لكل إعتبار إنساني أو أخلاقي، ضاربة بعرض الحائط حتى تلك القواعد السلوكية التي شاركت في صياغتها عقول بشرية غربية، وجسدتها في منظمات ومواثيق واتفاقيات دولية، كالأمم المتحدة، وما ينبثق منها ويتفرغ عنها من مؤسسات دولية في مجالات متعددة..
إن تاريخ التعامل الغربي مع شعوب العالم أجمع، تلخصه كلمة: “الإستعمار”، بكل ما فيه من إحتلال وتخريب وفتن ونهب وسلب وحروب وتدمير..
يمكن القول بكل أريحية وضمير حرّ وبكل موضوعية وامانة علمية إن ما دخلت دولة غربية بلدا ما، إلا وتعاملت معه بعدائية تعبر بدقة عن عقل الإستعمار ومنطلقاته الفكرية والثقافية ومفاهيمه المنهجية العقائدية، تحتل تنهب تخرب تفتن تقهر تفجر الحروب تقتل تدمر وتولي عملاء لها محليين ينوبون عنها، حينما تفتضح أمورها أو تعجز في مجال ما أو تضطر للخروج الشكلي أو للإنسحاب التكتيكي الآني.
هذا هو بالتمام والكمال، مجمل سلوكيات دول الغرب التي خرجت من حدودها الجغرافية لتستعمر العالم..