“فورين أفيرز”: “إسرائيل” تنهار.. ومستقبلها مُظلم!
“المدارنت”..
“إسرائيل” تنهار، وينتظرها مستقبل مظلم بسبب الحرب على غزَّة، والأزمة القضائية التي سبقتها. وما لم تُسارع للتوصل إلى تسوية عادلة ودائمة مع الفلسطينيين، وتلتزم بالقانون الدولي وبالقيم الإنسانية، وتتعاون مع ما تبقى من اليسار السياسي والأحزاب العربية الإسرائيلية “فإنها تتحول إلى دولة تُدمر نفسها بنفسها تلوح في أفقها حربٌ أهلية، بعدما أصبحت شبه منبوذة ومعزولة”، بحسب تقرير نشرته مجلة “فورين أفيرز” للأكاديميين الأميركيين اليهوديين: إيلان ز. بارون، و إيلاي ز. سالتزمان
عند إنشاء “إسرائيل”، في مايو 1948، تصوّر مؤسّسوها “دولة” تقوم على القيم الإنسانية وتحترم القانون الدولي. وأصر “إعلان الاستقلال”- الوثيقة التأسيسية – على أن الدولة ستضمن المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس”.
ولكن هذه الرؤية لم تتحقق أبداً. فمنذ توقيع “إعلان الإستقلال” والفلسطينيون يعيشون تحت الأحكام العرفية. والمجتمع “الإسرائيلي” فشل في حلّ التناقض الحاصل بين “جاذبية مُثُل الإعلان” والإلحاح على تأسيس “دولة يهودية” هدفها حماية الشعب اليهودي فقط. وعلى مدى العقود الماضية، ظلَّ هذا التناقض الجوهري يبرَّز مراراً وتكراراً، ما أدَّى إلى اضطرابات سياسية أسهمت في تشكيل وإعادة تشكيل المجتمع والسياسة على نحو بات يدفع إسرائيل إلى نقطة الانهيار، خصوصاً بعد الحرب على غزَّة والأزمة القضائية التي سبقتها.
إن “إسرائيل” تسير على مسار عنيف ومدمر وغير ليبرالي على نحو متزايد. وما لم تغير مسارها، فإن “المُثل” التي وردت في “وثيقة التأسيس” ستختفي تماماً، وستنزلق البلاد نحو مستقبل أكثر قتامة، وستصبح أكثر استبداداً؛ ليس فقط مع الفلسطينيين بل وأيضاً مع مواطنيها، وستخسر العديد من الأصدقاء وتصبح منبوذة قريباً جداً؛ ما يعني أنها ستصبح أيضاً مستتنزفة بسبب الاضطرابات في الداخل التي تتسع يوماً بعد يوم مع اتساع الشقوق التي تهدّد بتفكيكها. وهذا الوضع، المحفوف بالمخاطر، ليس مستغرباً على الإطلاق. وإذا لم تستطع إسرائيل انتشال نفسها من حافة الهاوية عاجلاً، ستكون التكلفة باهظة للغاية، وقد يكون الثمن وجود “الدولة” نفسها.
نهاية الصهيونية
في 7 أكتوبر، أصاب “طوفان الأقصى”، “إسرائيل” في الصميم، في وقت كانت تعاني فيه قدراً هائلاً من عدم الاستقرار الداخلي. وتكفي الإشارة هنا إلى أنه منذ عام 1996 كانت هناك 11 حكومة مختلفة، بمعدل حكومة كل عامين ونصف العام؛ 6 منها بقيادة رئيس الوزراء الحالي (الإرهابي الصهيوني) بنيامين نتنياهو. وفي الفترة ما بين عامي 2019 و2022، جرت 5 انتخابات عامَّة، آخرها جعلت من أحزاب أقصى اليمين المتطرف لاعباً أساسياً في مواقع صنع القرار. في العام 2003، انفجرت أزمة “مشروع قانون الإصلاح القضائي” للحد من صلاحيات المحكمة العُليا، الذي يأمل منه بنيامين نتنياهو أن يحميه من قضايا جنائية جارية ضده، فيما يأمل حلفاؤه المتطرفون أن يسهل عليهم مخططاتهم، مثل إعفاء آلاف “الإسرائيليين” المتدينين من الخدمة العسكرية ومواصلة قضم أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات.
لقد أثار مشروع الإصلاح القضائي المقترح احتجاجات ضخمة في جميع أنحاء البلاد، وكشف عن مجتمع منقسم بعمق بين أولئك الذين يريدون أن تظل “إسرائيل”، “دولة ديموقراطية” ذات قضاء مستقل وأولئك الذين يريدون حكومة يمكنها أن تفعل ما يحلو لها. أدَّت الاحتجاجات إلى اضطرابات سياسية واقتصادية (الكثير من المستثمرين هدَّدوا بسحب أموالهم من البلاد) وامنيا (متدينون هدَّدوا بالعصيان).
ومع ذلك، تم تمرير نسخة من المشروع في الكنيست في يوليو 2023 ولكن تم إلغاءها من قبل المحكمة العُليا في بداية هذا العام. وفي الوقت الحاضر، يحاول الائتلاف الحاكم إحياء بعض عناصر الإصلاح القضائي حتى مع استمرار الحرب في غزَّة. وفي حين أن الاحتجاجات على المشروع كشفت عن مخاوف داخل “إسرائيل” بشأن طبيعة الديموقراطية في البلاد، لكنها لم تُثر أية تساؤلات حول مسؤولية “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال.
والواقع أن العديد من “الإسرائيليين” ينظرون إلى معاملة دولتهم للفلسطينيين على أنها منفصلة عن عملها كدولة ديموقراطية. فهؤلاء موافقون ضمناً على العنف الذي يمارسه الجيش والمستوطنون ضد الفلسطينيين، ولا يكترثون لمسألة انتهاك دولتهم للقانون الدولي عندما تفرض الأحكام العرفية على فلسطيني الضفة الغربية والقدس الشرقية. وبالطبع هؤلاء أيضاً سُعداء بتوسع المستوطنات على حساب أراضي الفلسطينيين ونسف مشروع إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة في المستقبل.
كذلك كشفت الحرب على غزَّة عن “دولة” تبدو عاجزة، أو غير راغبة في دعم “الرؤية” التي تضمنها “إعلان الاستقلال”. فهذه الحرب المتواصلة منذ عشرة شهور، أدَّت (حتى الآن) إلى سقوط أكثر من 40 ألف قتيل وأكثر من ضعفهم بين مفقود وجريح، نتيجة ممارسات الجيش “الإسرائيلي” (الإرهابي الصهيوني) الذي انتهك وينتهك كل لحظة كل القوانين والأعراف الدولية.
وبحسب اعترافات العديد من “التقدميين” داخل “إسرائيل”، فإن وحشية الاحتلال العسكري وضرورات كون إسرائيل قوة عسكرية محتلة لها تأثير مُفسد على المجتمع “الإسرائيلي” بأكمله. ففي عام 1968 علَّق العالم والفيلسوف “الإسرائيلي” شعياهو ليبوفيتز على ما ارتكبته “إسرائيل” في حرب 1967 محذراً من أن “البلاد على منعطف قاتم في المستقبل”، وأن الاحتفال بـ”وطن يقوم على المذابح لن يؤدي إلا إلى نقلنا من القومية الفخورة الصاعدة إلى قومية متطرفة.. وهذا سيؤدي إلى الوحشية وتراجع المشروع “الإسرائيلي”.. وفي نهاية المطاف نهاية الصهيونية”.
“سبارتا” مع القلنسوة اليهودية
هذه النهاية أصبحت الآن أقرّب مما يريد العديد من “الإسرائيليين” الاعتراف به. ففي مسارها الحالي، تنحرف “إسرائيل” في اتجاه غير ليبرالي تماماً. إن النهج اليميني المتطرف الذي تتبعه يُحوّلها إلى “دولة دينية قومية عرقية” يديرها مجلس قضائي وتشريعي يهودي ومتشددون.
والواقع أن التغيرات الديموغرافية والاجتماعية والسياسية، بما في ذلك الزيادة السريعة في عدد المتدينين المتطرفين، وميل الشباب اليهود نحو اليمين المتطرف، وانخفاض عدد الذين يعتبرون أنفسهم علمانيين، قد أنتجت هيئة سياسية أكثر تديناً وتطرفاً ، يديرها أمثال (الإرهابيان الصهيونيان) بتسلئيل سموتريتش، وإيتامار بن غفير، وأفي ماعوز ــ وهم يمثلون شريحة جديدة نسبياً ولكنها متزايدة النفوذ من الحركة الصهيونية الدينية المعروفة باسم “الحردال”.
وتشير الاتجاهات السياسية والديموغرافية إلى أن اليمين المتطرف في “إسرائيل” سيظل مؤثراً انتخابياً، بل ومهيمناً، في المستقبل المنظور. حتى العديد من “الإسرائيليين” الذين ليسوا متدينين جداً بدأوا أيضاً في الانخراط في هذه الأيديولوجية القومية العرقية المتطرفة على نحو متزايد، خصوصاً بعد “طوفان الأقصى”، حيث ترى الأغلبية أن البلاد تعيش في “حرب أبدية” وباتت أشبه بـ”سبارتا مع قبعة اليرمولك اليهودية”. مثل هذا التحول مرشح للإتساع. وقد يتحول إلى إجماع واسع النطاق وينتج “إسرائيل غير ليبرالية”، ويؤدي إلى التآكل الكامل للمعايير والمؤسسات الديموقراطية التي أضعفها نتنياهو وحلفاؤه.
لقد وفّرت الحرب في غزَّة بالفعل لحكومة نتنياهو ذريعة لتقييد الحريات المدنية. على سبيل المثال، روَّجت لجنة الأمن القومي في الكنيست مؤخراً لتشريع يسمح للشرطة بإجراء عمليات تفتيش دون أوامر قضائية. وازدادت وتيرة العنف الذي ترعاه الدولة ضد الفلسطينيين، وبات يُنظر إلى نشطاء السلام “الإسرائيليين” على أنهم خونة.
الإعتماد على أميركا!
إسرائيل التي يهيمن عليها اليمين المتطرف ستصبح أكثر استبداداً، مع تقييد الحريات المدنية وممارسة رقابة ضارة على التعليم العام. وستصبح أيضاً دولة منبوذة، وهي أصبحت بالفعل معزولة سياسياً ودبلوماسياً على نحو متزايد على المستوى الدولي، حيث تسعى العديد من المنظمات الدولية إلى اتخاذ تدابير قانونية ودبلوماسية عقابية ضدها. ويكفي التذكير هنا أنه؛ وبسبب جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش “الإسرائيلي” في غزّة وممارسات المستوطنيين في الضفة؛ قضت محكمة العدل الدولية بـ”عدم شرعية الاحتلال”، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، وغيرهما.
أضف إلى ذلك أن العديد من الدول والمنظمات سوف توقف تعاونها الأمني والتجاري (بما في ذلك صفقات الأسلحة). ومن المرجح أن ينتهي الأمر بإسرائيل إلى الاعتماد كلياً على الولايات المتحدة وتصبح عرضة للتحولات في المشهد السياسي الأميركي في الوقت الذي يُشكك فيه المزيد والمزيد من الأميركيين في أحقية دعم بلادهم غير المشروط للدولة اليهودية.
إن العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في “إسرائيل” معلق حالياً في الميزان. وإذا نجح نتنياهو وحلفاؤه في تحقيق أهدافهم ومبتغاهم، فإن الديموقراطية “الإسرائيلية” ستصبح جوفاء. وهذا من شأنه أن يضع البلاد على مسار غير مُستدام سيؤدي حُكماً إلى هروب رأس المال، وهجرة الأدمغة، وتعميق التوترات والاضطرابات الداخلية. الحرب الأهلية تلوح في الأفق هذا التحول غير الليبرالي لن يخفي الانقسامات المتزايدة داخل المجتمع الإسرائيلي. سوف تفقد الدولة بشكل متزايد احتكارها للاستخدام المشروع للقوة، وقد تشتعل الانقسامات إلى حد الحرب الأهلية.
والواقع أن المواجهة العنيفة الأخيرة التي وقعت في معتقل “سديه تيمان”؛ حيث تم اقتياد الجنود المتهمين بارتكاب اعتداءات جنسية بحق معتقلين فلسطينيين؛ تنبئ بما ينتظر مستقبل “إسرائيل”. فقد هاجم جنود احتياطيون ومدنيون، وحتى نائب برلماني من أقصى اليمين، الشرطة العسكرية داخل القاعدة، وطالبوا بالإفراج عن المتهمين! وفي المستقبل، قد تصبح مثل هذه الحوادث أكثر شيوعاً.
ومن بين العلامات الأخرى للتشرذم الجاري بالفعل داخل جهاز الأمن الإسرائيلي نمو ميليشيات المستوطنين ــ الجماعات التي لم تكن الدولة راغبة في قمعها على الرغم من هجماتها العنيفة على الفلسطينيين ــ وحقيقة مفادها أن الجنود أبلغوا حراس الأمن بوقف تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزَّة بشكل غير قانوني. إن سيادة القانون معرضة للإنهيار.
قد يبقى الاقتصاد ــ الذي يشكل جوهر ادعاء “إسرائيل”، بأنها “دولة ناشئة”- قادراً على العمل لبعض الوقت. وقد تبقى هناك جامعات ومستشفيات ونظام تعليمي عام. ولكن “الدولة” سوف تعمل من دون سيادة القانون، وهذا ما يفضله اليمين المتطرف. وسوف يتحول الأمن إلى نظام مجزأ بلا قيادة، مع تآكل احتكار الاستخدام المشروع للقوة.
وسوف تزعم مجموعات مختلفة الحق في ممارسة العنف، بما في ذلك ميليشيات المستوطنين المسلحين، والمدنيين الذين يتحالفون مع أقصى اليمين، وقوات الأمن القائمة. هذا المستقبل المتصور ليس نتيجة تشاؤم، ولا مقطعاً من الخيال العلمي. الحرب في غزَّة أدّت إلى تأجيج التوترات وتكثيف الانقسامات السياسية، خصوصاً بين الجماعات اليمينية التي تدعو إلى اتخاذ تدابير عسكرية وأمنية متطرفة تتجاهل القانون الإنساني الدولي تماماً، وأخرى تدعو إلى اتباع نهج أكثر تصالحي تجاه الفلسطينيين.
إن إضعاف السلطة المركزية للدولة يُنذر بتفكك أكثر إثارة للصدمة. فإلى جانب إدارة الاقتصاد، لن تتمكن الحكومة (بل ولن ترغب) في الوفاء بأي من مسؤولياتها السياسية التقليدية الأخرى، بما في ذلك توفير الأمن والحفاظ على نظام تشريعي مستقر للحكم يضمن المساءلة. ومن شأن وجود مجموعات أمنية متنافسة وإشراف برلماني متراخٍ أن يُضعف الردع الأمني ويقوَّض أي نظام متماسك للحكم في المؤسسة الأمنية “الإسرائيلية”.
و”إسرائيل” في هذه الحالة قد تكون على خلاف مع نفسها. وقد تتحول إلى نوع من الكيان المقسم إلى أجزاء حيث تعمل العناصر اليمينية الدينية والقومية على بناء دولتها الفعلية، على الأرجح في مستوطنات الضفة الغربية. ويمكن أيضاً أن تشهد تمرداً من المتطرفين من شأنه أن يُدخل “إسرائيل” في حرب أهلية عنيفة ، أضف أن استمرار اللا-إستقرار يعني انهيار الاقتصاد تماماً تاركاً “إسرائيل” دولة فاشلة.
الخروج من الفوضى
إن ثقل الأحداث والقوى السياسية السائدة يدفع “إسرائيل” في هذه الاتجاهات الخطيرة. وللخروج من الفوضى يتعين عليها أن تستعيد الاستقرار السياسي من خلال دعم أسسها الدستورية، وتعزيز سيادة القانون، والسعي للتوصل إلى تسوية دائمة للصراع مع الفلسطينيين، وتعزيز مكانتها في المنطقة والمجتمع الدولي.
سوف يتعين عليها أن تلتزم بالقيم الإنسانية، والتعاون مع ما تبقى من اليسار السياسي والأحزاب العربية الإسرائيلية. كما يتعين عليها فرض سيادة القانون بشكل أفضل سواء داخل “إسرائيل” أو في الضفة الغربية، وهذا يعني عدم التسامح مع العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد الفلسطينيين. فضلاً عن ذلك، لا بد من إنهاء الاحتلال العسكري للفلسطينيين والشروع في عملية سلام مُلزمة تتضمن مفاوضين محايدين من أطراف ثالثة. وعلى أقل تقدير، يتعين على “إسرائيل” أن تلتزم بمعالجة قرار محكمة العدل الدولية بشأن احتلالها للأراضي الفلسطينية.
إن الخطوات الموصوفة أعلاه قد تواجه معارضة لا يمكن التغلب عليها في “إسرائيل”، ولكن هذه المعارضة لن تؤدي إلا إلى مستقبل مظلم للبلد. ففي مسارها الحالي، هي تتحول إلى “دولة تدمر نفسها بنفسها”.