لا لنزع سلاح “المقاومة الفلسطينية”
“المدارنت”.. لا تبدو النهايات قريبة ولا ممكنة بسلاسة في غزة، كيان الاحتلال لا يكف عن إطلاق التهديدات بالعودة إلى حرب الإبادة الجماعية، وحوادث ارتقاء الشهداء متصلة على نحو شبه يومي من رفح إلى خان يونس إلى حي الشجاعية وبيت حانون، وحروب التجويع وقطع الكهرباء والمياه متصاعدة منذ أكثر من أسبوعين، والمفاوضات في القاهرة والدوحة تبدو متعثرة، ولم يجر الانتقال الحاسم بعد إلى مفاوضات المرحلة الثانية لاتفاق وقف النار ثلاثي المراحل، وصيغ المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف لمرحلة وسيطة تتوالى، وقد يحدث اتفاق ما على صيغة محسنة، ترى «حماس» فيها إمكانية لانطلاق إلى التفاوض النهائي الأصعب الأعقد.
ربما الجديد فيما يجري كله على الجبهة الفلسطينية.
إن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دخلت مباشرة على الخط، وقررت إجراء تفاوض مباشر مع حركة «حماس»، ربما دون تشاور مسبق مع حكومة بنيامين نتنياهو، وكان ذلك تطورا غاية في الإثارة، فحركة «حماس» منعوتة بالإرهاب عند واشنطن منذ عام 1997، والحوار المباشر معها خروج على قواعد الدبلوماسية الأمريكية، ولا يعني هذا شيئا عند إدارة رجل الأعمال ترامب، الذي يتصرف على نحو براغماتى، لا يراعي سوى ما يتصوره مصلحة لأمريكا، جعلته ينتقل من التهديدات لـ»حماس» بنيران الجحيم إلى التفاوض معها في الدوحة، وعبر مساعده رجل الأعمال اليهودي الصهيوني آدم بولر، فلا يثق ترامب إلا في أشباهه، ولا يعتمد إلا على رجال أعمال من طينته، من ويتكوف رجل العقارات اليهودي الصهيوني، إلى نظيره بولر.
وفي مفاوضات بولر مع قيادي حماس خليل الحية، لم يتطرق الحوار إلى اختناقات مراحل التفاوض، بل كان يبحث عن صفقة كلية شاملة مع حركة «حماس»، وعرض بولر لما جرى في سلسلة حوارات تلفزيونية متواقتة أجراها من واشنطن إلى تل أبيب، بدا فيها كأنه يقفز فوق رأس نتنياهو وحكومته، ويدعي أنه وإدارة ترامب ليسوا عملاء لإسرائيل، وأن الأولوية عندهم لمصلحة أمريكا الخاصة، وأنه سعى لاستكشاف فرصة التوصل لصفقة مع حركة «حماس»، تلتزم فيها «حماس» بنزع سلاحها والابتعاد عن السياسة، مقابل هدنة حربية مع «إسرائيل» تستمر من خمس إلى عشر سنوات.
وبدا بولر متفائلا بما سمعه من قادة «حماس»، ومن دون أن يكشف بالضبط عما سمع، في حين بدت تصريحات قادة من «حماس» متفائلة هي الأخرى، ليس فقط بسبب فك الحظر السياسي عن التعامل المباشر معها، وهو في ذاته حدث سياسي ودبلوماسي لافت، قد يذكر بما جرى بين فتح عرفات، وواشنطن قبل نحو أربعين سنة، بل بدت تصريحات «حماس» متفاعلة أيضا مع فكرة الهدنة المطولة، ومذكرة بسوابق عرضها لهدنة طويلة منذ أيام مؤسسها الشيخ أحمد ياسين، وإن نفت «حماس» تقبلها لمناقشة فكرة نزع سلاحها، أو حل جناحها العسكري، وربطت تصريحات قادة «حماس» على نحو غامض بين مباحثاتها المباشرة مع الأمريكيين ومفاوضاتها مع المسؤولين المصريين بالذات.
وقالت إنها أبلغت القاهرة بخلاصة موقفها، وقبولها للخروج من حكم غزة بعد نهاية الحرب، ودعم «لجنة الإسناد» التي اقترحتها الإدارة المصرية، ولا تضم في عضويتها أحدا من حركة «حماس» ولا من حركة «فتح»، وإن كان عملها يتم بغطاء من السلطة الفلسطينية في «رام الله»، ويدعم على الأرض بقوات شرطة فلسطينية يجري تدريبها في مصر والأردن، وتسهل عمل خطة إعادة الإعمار التي اقترحتها مصر، ووافقت عليها «قمة القاهرة» العربية، ولا تتطرق بحرف إلى نزع سلاح «حماس» ولا غيرها من حركات المقاومة الفلسطينية، ورغم اعتراض الإدارة الأمريكية علنا على الخطة المصرية، التي صارت عربية، فقد عاد ترامب مؤخرا إلى تراجع لافت عن خطته الشهيرة، وقال إنه لا أحد سيطرد أحدا من غزة!
قبلها، أشار ويتكوف مبعوث ترامب، إلى جوانب جاذبة في خطة مصر، لكنه عاد للتأكيد على ضرورة نزع سلاح «حماس» في النهاية، ما يعني ببساطة، أن تجريد «حماس» وفصائل المقاومة من سلاحها، هو النقطة الجوهرية في التصور الأمريكي «الإسرائيلي» لطي صفحة حرب الإبادة، وإن اختلفت التصورات وطرق التنفيذ، ففيما يتصور ترامب أن تهديداته بالجحيم وإفناء «حماس» لها مفعول السحر، وأن تلويحه ببناء «ريفييرا» في غزة قد يرعب أطرافا في المنطقة، وأنه يمكن تحقيق أهداف «إسرائيل» بغير حرب فعلية جديدة.
فيما يريد «الإسرائيليون» أن يأخذوا تصورات ترامب كعناوين مرشدة، وأن يتولوا التنفيذ على طريقتهم، واستثمار إمدادات السلاح الهائلة المتطورة، التي زودهم بها ترامب، بقيمة نحو ثمانية مليارات دولار إضافية، وبينها شحنات قدرها 40 ألف قنبلة خارقة، تزن الواحدة منها ألفي رطل، واستخدامها لشن «قصف سجادي» على غزة كلها، يجرب بها إيال زامير رئيس أركان حرب جيش الاحتلال الجديد حظه، ويمسح بها قطاع غزة من الشمال إلى الجنوب، ويدفع ملايين الفلسطينيين المتبقين في غزة إلى الهروب عبر الحدود المصرية.
وفيما يتصور ترامب، أن تهديداته الجحيمية أقوى تأثيرا من حروب «إسرائيل»، التي أثبتت فشلها عبر حرب إبادة جماعية قاربت 16 شهرا، ومن دون أن تنجح حتى في إعادة الأسرى الأمريكيين و»الإسرائيليين» بالضغط العسكري، ولا في إفناء حركات المقاومة المسلحة طبعا، ورغم ضيق نتنياهو وحكومته من بعض تصورات ترامب اللينة نسبيا، وخصوصا اندفاعه لتفاوض مباشر مع «حماس» وأخواتها، وتصوره المبسط لما يمكن أن تؤدي إليه من إيحاءات بسعي إلى سلام، وفتح الباب لاتفاق شامل مع السعودية على الطريقة «الإبراهيمية»، يجلب معه استثمارات وعوائد تريليون دولار يرغب في اقتناصها.
ومن دون أن يتوقف عند منطوق مطلب إقامة دولة فلسطينية، تعلن عنه السعودية كشرط لإقامة علاقات تطبيع مع «إسرائيل»، وهو ما ترفضه «إسرائيل» بدورها كليا، ولا تقبل إقامة كيان فلسطيني من أي نوع، ولا ترى سبيلا سوى اتصال حرب الإبادة وتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة معا، وتطالب ترامب فقط بدعم مطلق في حروبها النهائية، ومن دون تداخلات ضارة بأهدافها، على طريقة تفاوض بولر مع «حماس»، وتسعى على نحو ضاغط صامت، لأن تكون الواقعة هي الأخيرة في بابها .
صحيح، أن نتنياهو يريد تجنب أي صدام علني مفتوح مع ترامب، ويعرف أن تقلب مزاج ترامب، قد يعصف به وبحكومته الأكثر تطرفا، ويريد أن يظل يلعب في تفاصيل المفاوضات الجارية، وهو ما لا تتيحه له كثيرا تدخلات ترامب واقتراحات مبعوثيه، التي لا يملك رفاهية رفضها، ومحصلة التصادمات الخفية بين «حكومة إسرائيل في واشنطن» و»حكومة إسرائيل في تل أبيب»، أن تظل المفاوضات مع «حماس» والفلسطينيين معلقة، قد تحرز تقدما هنا أو هناك، وفي تفاصيل وقتية عابرة، قد تسمح بإطالة مدى وقف النار لأسابيع أو لشهور، لا تكون فيها حرب معلنة ولا صفقة هدوء مستدام، فقد يصعب تصور أن توافق «حماس» وأخواتها على نزع سلاحها.
هذه النقطة هي مربط الفرس عند «الإسرائيليين» والأمريكيين، وكل تجارب نزع السلاح قبل تحرير الأراضي أثبتت فسادها، وإقامة مظاهر لسلطة سياسية على أرض محتلة، كما جرى في السياق الفلسطيني بعد «أوسلو» وأخواتها، لم يؤد إلى كسب تحرير بقوة الدبلوماسية، بل إلى آمال تداعت بالتدرج، وبعصف قوات الاحتلال، التي راحت تشن حروب الإبادة ذاتها في الأراضي تحت حكم السلطة الفلسطينية ذاتها، وتوسع نطاق القدس «المهودة»، وتغرق الفلسطينيين بالقدس في طوق من المستوطنات، وتكثف الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، وتواصل خطة ضم الضفة كما ضم القدس، وتوالي عمليات القهر والتنكيل والتدمير، ودفع الفلسطينيين إلى النزوح من مخيمات الضفة بعد هدمها، إلى أن بلغ عدد النازحين قسرا نحو 50 ألفا في الخمسين يوما الأخيرة.
وهذا ما تريده «إسرائيل» ـ حسب المعلن ـ تكراره على نحو أكبر بعشرات المرات في «غزة»، وكلها مؤشرات ومخاطر داهمة تعني شيئا واحدا، هو أن نزع سلاح المقاومة قبل التحرير عمل غير شرعي، لا بشرائع السماء ولا بقوانين الأرض، فوجود الاحتلال يتبعه لزوما وجود المقاومة المسلحة، ولو افترضنا جدلا، أن «حماس» أو غيرها قبلت نزع السلاح قبل التحرير الكامل، فلن تكون تلك نهاية سيرة المقاومة الفلسطينية، تماما كما ولدت «حماس» وأخواتها بعد موجة «فتح» وأخواتها، ولن يكون من معنى لنزع سلاح «حماس» لا قدر الله، سوى أن الحركة كتبت نهايتها بيدها، ووقتها لن تكون من قيمة لمزاعم كسب سياسي وتفاوض مباشر مع واشنطن وأوهام اعتراف عبثي.