لـبـنـــان الـوطـــــن..
خاص “المدارنت”..
لبنان، وطن نهائي.. شعار كان يرفعه سياسيو لبنان المسيحيون تمسّكا بلبنان، وطنا مميزا بدوره وثقافته وإنفتاحه في المحيط العربي كله، ومتميزا بالوجود المسيحي فيه الفاعل والريادي في أكثر من موقع وميدان..
واليوم، يتبنى بعض السياسيين المسيحيين، مطلب التقسيم مباشرة أو التقسيم المقنع بالفيدرالية تحسّبا..
لا شك أن الوجود المسيحي في لبنان، تميز له وكسب على دلالاته ومعانيه الإيجابية الكثيرة، فهو بأهم مقوّماته دليل تاريخي على حضارية الهوية العربية، وتشكلها التاريخي الحر بعيدا عن التعصب الديني أو الإكراه الطائفي او المذهبي، وعلى الرغم من علاقات ثقافية وتعليمية وخدماتية ربطت مسيحيي لبنان بالأمة الفرنسية، تحت غطاء ديني أو طائفي؛ إلا أن هذا الوجود المسيحي المتميز في لبنان، ظل دائما محلّ تقدير ورعاية عربية من العرب، الذين كانت لهم رؤية عربية مصيرية واحدة، وكان لديهم سياسة عربية، تعرف ماذا تفعل وماذا تريد، كان هذا لافتا في حقبتيّ الستينات والسبعينات، يوم كانت مصر طليعة العرب، وصاحبة مشروعهم التنموي التحرري..
وقد حدثت متغيرات أساسية ثلاثة في العقود الأخيرة، أثّرت بشكل مباشر على لبنان كله وعلى الوجود المسيحي فيه.
الأولى: غياب المشروع العربي الجامع ذي الرؤية المصيرية الواحدة، بابتعاد مصر عن ريادتها العرببة، وما نتج عنه من ضعف وتراجع، ثم إختطاف سوريا إلى دور وظيفي ذي طابع مغرق في عصبيته وخلفياته المصلحية..
الثانية: تقدم المشروع الصهيوني في المجال العربي منذ أواسط سبعينات القرن العشرين. وهو الذي يعمل في تفتيت المنطقة ونسف وحدتها الإجتماعية وتدمير هويتها، حينما غاب المشروع العربي الجامع، وغابت أية سياسة عربية ذات رؤية مصيرية، وإنبعاث عصبيات مذهبية إنقسامية تحرض عليها قوى إقليمية تحمل مشاريع توسعية تحريضية معادية للوجود العربي وهويته الحضارية، وفي طليعتها المشروع الإيراني التوسّعي والرعاية الغربية له..
الثالثة: إبتعاد فرنسا عن سياستها التاريخية حيال لبنان ومسيحييه، منذ أن تمكنت الدوائر الصهيونية فيها، وإقتربت من مواقع صنع القرار ورسم السياسات، ولا سيما منذ أفول نجم “الديجولية” بوفاة الجنرال ديجول، ثم الرئيس جورج بومبيدو، ثم الرئيس جاك شيراك، ومؤخرا تبنّي السياسة الفرنسية لمشروع حزب الله في لبنان، وإيجاد الذرائع المصلحية لذلك..
وهكذا وجد المسيحيون أنفسهم في وضع يهدد وجودهم ذاته، وليس دورهم فحسب، فتعالت وسطهم أصوات تطالب بالإنفصال عن الوطن اللبناني، وتأسيس كيان مسيحي مستقل يحمي وجودهم وحقوقهم..
فيستغلها بعض المسيحيين السياسيين، لتحقيق مشاريع حزبية فئوية، ليست محصلتها في صالح الوجود المسيحي في لبنان..
فما العمل إذن؟!
على المسيحيين أن يدركوا جملة متغيرات – حقائق، قبل المطالبة بالتقسيم أو الفيدرالية، وقبل تحديد خياراتهم وتصوراتهم عن المستقبل اللبناني..
! – مما لا شك فيه أن الوضع القائم الراهن في لبنان، غير مقبول من معظم اللبنانيين، ولا يستفيد منه إلّا أقلية عددية ذات فعالية كبيرة عمليا..
إن السبب الأساس في هذا الواقع السيء هو النظام السياسي الفاسد، الذي لا يزال قائما رغم كل فضائحه وعدوانه على الوطن والمواطنين، هو الذي فكك الدولة ومؤسساتها وفرغها من مضمونها الفعلي، فتخلت عن وظيفتها ودورها على الصعيد الوطني العام، والكل يدرك أن السياسيين المسيحيين، كانوا ولا يزالوا جزءًا أساسيًا فاعلا في هذا النظام، أسهموا في إفساده وإضعاف دولته ومؤسساته، وهم مستفيدون من وضعه الراهن، مشاركون فيه رغم أصواتهم المرتفعة بحماية المسيحيين ودورهم..
2 – إن تغوّل نفوذ حزب الله، وتفرده بسلطة التقرير والمنح والمنع؛ ليست بقوته الذاتية فقط، إن النفوذ الأجنبي الذي له إمتدادات تاريخية عميقة ومتشعبة في لبنان؛ ولا سيما النفوذ الأمريكي وتأثيره؛ هو الذي أدمج حزب الله المذهبي في النظام اللبناني الطائفي، وهو الذي فتح له الأبواب ومهد له السبل، وهو الذي وضع ويضع له الكثيرين من أدواته وتوابعه في خدمته لتسهيل سيطرته وإمتداده، ولولا هذا الدور الرعائي الأجنبي، لما إستطاع الحزب فرض سلطته فوق الدولة ومؤسساتها، يترتب على هذا أنه من العبث إنتظار المساعدة أو طلبها من قوى النفوذ الأجنبي، للحد من نفوذ الحزب، وحينما كان الحزب يبني مؤسساته الخاصة بديلا عن الدولة، كما في قطاع الإتصالات والأمن والقوة العسكرية، كانت السلطة تتفرج وبعضها كان يرى ويصمت أو يسهل أو يتواطأ، ومن هؤلاء مسيحيون سياسيون من أصحاب الصوت الطائفي المرتفع، وما تحالف التيار الوطني (التيار العوني) مع الحزب، إلا بيانا لهذا وتغطية عليه ومشاركة فيه، والتيار إياه، إنما هو في صلب الوجود المسيحي والماروني تحديدا..
3 – إن بقاء السلاح في أيدي الحزب أساسا ومع غيره من الميليشيات الطائفية؛ يهدد الوطن ويعرقل عمل الدولة ومؤسساتها إن وجدت أو أرادت العمل، ومما لا شك فيه ولا خلاف أن استلام الجيش اللبناني وحده مسؤولية الأمن الوطني، مما يقتضي مصادرة سلاح الميليشيات، وحلها جميعا، إنما هو خطوة أساسية لإعادة بناء دولة مسؤولة فاعلة..
4 – إن المشروع الصهيوني، يستهدف الوجود المسيحي – قبل غيره – في لبنان وفلسطين وسائر المشرق العربي، فهو وحده الذي ينفي صفة الصراع الديني بين العرب، ودولة الصهاينة (الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة)؛ فيؤكد أن المسيحيين، جزء أصيل من المجتمع العربي، ولهم دورهم التاريخي المتكامل مع أبنائه من المسلمين، فيعطون بذلك صفة حضارية تكاملية بين الأديان تناقض جذريًا أسس الفكر الصهيوني، الذي يدّعي ملكية فلسطين وحقه في بناء دولة قومية يهودية خالصة، ولهذا يعمل الصهاينة على تهجير المسيحيين، بأدوات محلية، وما أبلغه الموفد الأمريكي دين براون، للجبهة اللبنانية سنة 1976، “أن البواخر الأميركية جاهزة لنقل المسيحيين إلى أيّ مكان يريدونه خارج لبنان”، فغضب الرئيس كميل شمعون، وقيل أنه ضربه، هو تأكيد لهذه الرغبة الصهيونية..
يترتب على هذا، أن أيّ تفكير من أي مسيحي سياسي بالتوجه نحو دولة الصهاينة، لطلب مساعدتها في حماية الوجود المسيحي، إنما هو خطأ إستراتيجي جسيم، لا بل إنتحار سياسي ووجودي..
5 – من مصلحة المشروع الإيراني للبنان والمشرق العربي، أن يتقوقع المسيحيون على ذاتهم، وينفصلوا في كيان طائفي خاص بهم، فهذا يبرر له إستمرار سلطته وتمددها أكثر فأكثر على سائر المكونات اللبنانية، كما يبرر له تقوقعه في إطار عصبية مذهبية مماثلة، فهذه تبرر تلك وتتكامل معها والجوهر واحد: تقسيم المجتمع الواحد وتغذية عصبيات إنفصالية، لا يستفيد منها إلا أصحاب المشاريع الإقليمية الواسعة والتوسعية..
6 – إن تأسيس كيان مسيحي، إنما لا بد أن يقوم عملانيا في جبل لبنان، فماذا عن المسيحيين الموجودين في كل أرجاء الأرض اللبنانية؟! ألا يتركهم مثل هذا الكيان الإنفصالي رهائن في قبضة ميليشيات حزب الله والمشروع الإيراني؟! ثم كيف سيكون مصير الدولة ومؤسساتها؟! وكيف سيكون شكل الكيان وسبيل حياته وتواصله وإمتداده وإمداداته؟ أم أنه سوف يلتحف بالبحر ومن هم وراء البحر؟!
7 – لا يحمي الوجود المسيحي في لبنان، إلا مشروع وطني لبناني جامع، على قاعدة الولاء للبنان أرضا ودولة ومؤسسات، بعد أن تتم إعادة بناءها وصياغتها على أسس سليمة يشارك فيها جميع اللبنانيين، ويعيش في ظل قانونها جميع اللبنانيين أيضا..
ولا يمكن الحد من تسلط الميليشيات العسكرية المرتبطة بدول خارجية، وملتزمة بسياساتها وأطماعها في بلادنا، إلا بإشتراك جميع اللبنانيين الشرفاء في إعادة بناء دولة حديثة في إطار رؤية وطنية توحيدية مشتركة..
8 – لا يحمي الوجود المسيحي في عموم المشرق العربي، إلا مشروع عربي تحرري تنموي توحيدي، ولا يستعيد المسيحيون دورهم الثقافي والحضاري المتميز، إلا في إطار إنتمائهم العربي وتمسكهم بهويتهم العربية التاريخية..
أما في مواجهة هويتهم العربية، فسوف يجدون أنفسهم ضحايا النفوذ الأجنبي، الذي يريد إضعافهم وطمس شخصيتهم ودورهم التاريخي..
9 – إن الدور المسيحي الطليعي في لبنان وعموم المشرق العربي، إنما هو ثروة قومية وميزة حضارية على كل العرب الحفاظ عليها، وتدعيمها وإطلاقها مجددا، وإنتزاع أي خوف محتمل وأي تقوقع إنفعالي قائم..
إن أقصر طريق للقضاء على الوجود المسيحي أو إضعافه وإسكاته، هو طريق الإنفصال وتأسيس كيان طائفي خاص بهم..
أما تبرير الدعوة الإنفصالية، بأن المسيحيين أكثر تحضّرًا من المسلمين، هو وهم، لذلك يرغبون في الإنفصال عنهم، فتلك حجة بلهاء غبية، تتآمر على المسيحيين أنفسهم قبل غيرهم من أبناء وطنهم..
10 – وعلى ضوء الوقائع والأحداث الجارية في المنطقة؛ وضوء التردي العربي الراهن، وتقدم النفوذ الأجنبي وإمتداداته المحلية، حتى صارت صاحبة الحلّ والربط؛ فإن مستقبل لبنان لا يبدو مريحًا، لا بل يتجه نحو مزيد من إضمحلال الدولة وإختفائها، لصالح دويلات ميليشيوية وكيانات بديلة، وإذا ما حصل تعيين رئيس للجمهورية بالإنتخاب الصوري؛ فلن يكون إلا في خدمة دويلات الممانعة وميليشياتها..
تعليق واحد