رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. الحلقة “3”..
خاص “المدارنت”..
ينشر موقع “المدارنت”، الحلقة “3”. من رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”، للزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله.
تانغو
وأخطو إليكَ، إلى عطر التانغو، رقصة بلذّة الشغف والعشق والحزن وعبق الزنبق النابت بين الصخور، وفي ثنايا الجسد، وفي ثنايا الأزقة المهجورة والعناق وذكرى عاشق تبارز على صبية، وفي ثنايا احتضار بساقين تدوّران الأرض، وتحفران دوائر، وفي الحفرة كانت الصبية تصرخ، لا أملك إلا روحك ، لنتقابل باليدين والذراعين والساقين والعنق والعيون والحواجب والجبهة والجسد، ولنختبر معا أول رقصة، أول خطوة، أول لفتة، أول لمسة، أول عناق، أول يد تنسدل على الشَعر إلى الرقبة إلى الكتف إلى حرارة القلب إلى الشِّعر. ولتولد الترنيمة الأولى: “أريد أن أموت وحيداً، من دون اعتراف، مصلوباً بألمي، كما لو أني أحتضن حزني”، ترنيمة غدت نبض حياة، ووجع جسدين يتلوّيان على مسرح مخملي.
وأخطو وأراقص عينيك، وغمازتين تحفران في خديك، وروحك تعانقني أن اقتربي أكثر، أرقص التانغو، وأقترب من عطرك الذي يدور بي، إلى موسيقى وإيقاع لا ينفع معهما عدُّ الخطوات، إلى أرض تدحرج حروفها في المسار الذي يأخذني لجهة القلب، بخطوات إليك، وخطوات إلي، ونتقابل، رجل ببدلة سوداء وغجرية تجيد ختم الأرض، بصكّ قدميها، بفستانها الخمري الطويل، وبوشوشة النبض المتسارع إلى بوح المكان. وتلتقط يدي اليمنى بيسراك فيما تلتف ذراعك اليمنى حول خصري، ونحلق في الرقص، ونحفر على رؤوس الأصابع التفافاتنا، وتنعقد الساق على الساق، وتلتف حول الساق وحول أعلى الخصر، كما الشرنقة، حين يفلت خيط الرغبة منها إلى شفتين مبللتين بالرقص، وبأثير الذاكرة الهارب من ثقب في الأرض.
ونواصل خطواتنا على وقع الليل، فوق الظلال المشبوكة بالهمهمات. النقرة تلو النقرة، إلى أن يستيقظ المكان بفتنة الشغف لافظاً ذخائره من بقايا نواويس وفسيفساء، وهياكل.
وتجاريني صوب الرواق، إلى حيث يصير الرقص طفل الحب. أقترب منك، فتنحني مغازلاً خطواتي، على وقع لحن وجسدين، متروكين للريح والعتمة، وأنامل تعزف على الزند وعلى فسحة جميلة بين النفس والتقاطه. وندور معاً، أصابعك خلف ظهري، تحزم كومة شوق، رزمة عطر، وذلك الحاجز الفاصل بين الوعي واللاوعي، بين الظلال واللاظلال، بين الوجود واللاوجود، بين الصوت والصمت، بين القبل والبعد، بين الحركة والسكون، بين الجسد اللين والعشب النامي بين أقدامنا، بيني وبينك ومن حولنا روح الوديان تصفق وننحني وتطبع ختم قبلة ولمعة بين عينيّ.
-2-
أرتوزيا
هل ينبغي ألا أبحث عنها وأنفض يدي بعيداً في الاتجاه الذي لا يأخذني إليها؟
كان هذا عين العقل الذي أخذني إلى عتبة عيادات الطب النفسي ممدداً أفضفض في واحدة من الغرف المظلمة عنها وعن الصوت الذي ينطلق مثل الصافرة.
ويشخّص الطبيب حالتي فيها:
“تشوّه حواس”.
ولا أقراً في كلامه الذي يرفقه بتكملة:
“بعض الأوهام تشوّه الحقائق”.
سوى نية في تبرير وجودها في حياتي مع إقصاء الصوت باعتباره هلوسة البيئة المحيطة.
“مع أن الأوهام موجودة في حياتنا”.
يعقّب مستعرضاً كلاماً لديكارت الفيلسوف، وفيه تشكيك في الحواس: “ننظر لكوكب ما فى التليسكوب و هو اضخم من الأرض ثم نقنع أنفسنا بأننا نراه فى حجم قطعة نقود معدنية.. وهكذا حواسنا قاصرة و تحتاج لـ”أدوات مساعدة”.
ويتابع الطبيب مستدرجاً خوفي إلى دائرة الأمان:
“وكذلك يجب أن تشك فى الحياة الشعورية بمعنى وأنت نائم قد تعتقد أنك فى حياة واقعية، ولكنك تصحو لتعرف أن هذا كان خيالاً وأنك تعيش فى الواقع، وأحياناً يروقك الحلم فتستمر به على أنه واقعاً وليس مجرد حلم بعمر قصير… والأخير هو ما حصل معك.
لكن “إلينا” ليست وهماً.. ينبئني حدسي في أنها تشاركني من زاوية ما خطواتي وأفكاري وهواجسي، ولا بد أنها غاضبة الآن. أخمّن فيما الطبيب يهزني من كتفي مستغرقاً في حديثه من زاوية ” فلسفة الوهم”.
ووفقاً للفرضية التي يطرحها، فالعالم عبارة عن وهم . وأكثر من ذلك هو:
“صورة لشخص في المرآة، وهو غير حقيقي بالمقارنة مع الواقع، ولا يعد زائفاً أيضاً إذ إن الباطل هو شيء لا وجود له”.
وعلى الرغم من توهاني بين العيادات وبين نفسي التواقة إليها وإلى أوراق مختمرة بالحكايات، عصرت بقبضة يدي ورقة إرشادات أولية، ومن الشق الذي راقني تأهبت لأبحث عنها في جلبة السؤال: هل تكون بعثت من ذلك التمثال في لحظات الهاجرة؟ أم أني واهم ومشتاق؟ ومن أي زاوية سجّلت انسحابها الأول؟ أتكون من جهة المعبد؟ أم من جهة التنور في الناحية المقابلة له؟ وما الحاجة إلى التنور بالقرب من المعبد؟ وليمة؟ وهل في الموت ولائم وخبز وملح؟ أوافقها… قد تكون عادات شعائرية من مثل التي جرت في المدن القديمة حيث تدور الولائم في مراسم دفن الميت بالقرب من المدفن لطهو المأكولات وتحضير الخبز، وفي الختام يعمد الضيوف إلى تحطيم الأواني الزجاجية والصحون عنوة.
وإلى جانب التنور عثرت على رسم لا يبدو بالغاً في القدم، كأنه حديث في تدوينه، يُظهر إلينا تعانق طفلاً مذعوراً. وبجوار رسمها تسمّرت، لا حركة، لا صوت، لا إشارة. وبقيت أنتظر إلى وقت لم أحدده، ممدداً على صخرة باردة برائحة الصوان الممزوج بالرطوبة، أعاين الثقوب المعدة للنذور الموزعة في زوايا أعمدة الأروقة، وأصغي إلى حشرجة الريح تشكّل إنساً من الحجر وحكاية تفردها الأوراق المتسلسلة، وتبدو مطعمة بكتابة تصويرية تحدد الزمان والمكان لمدينة جميلة محفورة حروف اسمها على بوابة عملاقة، وبجمعها تكون “أرتوزيا” النائمة تحت سهل عكار في الشمال اللبناني، وهي رومانية على بيزنطية بمساحة تصل إلى 170 ألف متر مربّع.
تأخذني إلى هنالك إذاً، وكأنها تتعمد نكأ جرح لا يزال فتياً، منذ تكشّفت حرب مخيّم البارد في الشمال اللبناني عن أنقاض لمدينة أثرية ثبت أنها أرتوزيا. وكنت واحداً من بين قلة فرحوا بخروج المدينة القديمة الى الضوء، في حين توافقت الغالبية العظمى على طمر التل الأثري بأكمله .وكانت الذريعة: “البشر قبل الحجر”، وهو مبدأ أيقنت بعده بأنه خاص بالبلد ولا يمت إلى المبادئ العالمية في التعاطي مع الآثار بأي صلة علمية.
وكان أن ترجمت حزني على المدينة التي تمددت حضارتها إلى أصقاع الأرض، بمقالة طويلة تشبه الرثاء صدرت في صحيفة مغمورة في حين تخلفت بقية الصحف عن نشرها “لحساسية مضمونها” بحسب التبرير الذي حصلت عليه. وكنت استذكرت عراقتها واستراتيجية موقعها حيث كانت تعبر القوافل من خلالها من مدينة بوردو الفرنسية إلى القدس، وعلى أرضها كانت تستريح مستفيدة من خدمات الحمامات العامة الموصولة بشبكة مياه ضخمة، ومدارج وملاعب ومدرجات…
وكانت هذه حكايتي مع أرتوزيا، أما الأوراق فماذا تخبئ؟
عريقة تشكّلت المدينة في الرسوم التي تظهرها الأوراق، مثلما كونتها في خيالي، على غرار مدينة صور لجهة أعمدة معابدها المشيدة من الغرانيت والمزينة بتيجان ومنحوتات ضخمة، بعضها مستمد من الفن الفرعوني الذي عاصرته. وكانت كمن تكشف عن وجهها بخفر على تل أثري تخبر كل طبقة فيه عن حضارة وحقبة متعاقبتين. وكنت كمن يتناهى اليه هدير معاصر زيت الزيتون وشجار صبية في الساحات العامة وبائع يحصي أرباحه من عملة خاصة سكّتها المدينة، ويتوسطها رسم يصور معبد عشتار إلهة الخصوبة الذي كان قائماً في “أرتوزيا”.
وبحسب الصور المرفقة بالأوراق، يظهر جدار كبير مجاور للمدينة يسور قرية قديمة لابد أنها “تل عرقا”، وخلف الجدار رسم لفتاة تراقب الغزاة في اجتياحهم المدن والقرى، فيما الناس يفرّون من بيوتهم ويلجؤون إلى الجبال والتلال المجاورة، وآخر للفتاة نفسها تستقبلهم باسمة بينما يعودون ليسطّحوا الأرض ويعيدوا بناء البيوت بالشكل الهندسي نفسه، ورسم لمجموعة فتيات يمسكن بأيديهنّ سلال من القش يجمعن بها غلّتهن من أزهار ملونة. فتيات جميلات مشرقات لكنّهن أيضاً لا يشبهن “إلينا” لا في الشكل ولا في الزيّ.
واستسلمت لهمس خافت، ولدغدغة الصخرة في برودتها حيث تمددت. كان خدر النعاس يسري في جسدي إلى حين اخترقت أنفي رائحة أنثى بعطر خشب الأرز ، فوسعت حدقتي متأهباً للبحث عن أثر لحياة، لكنّ الساحة بدت خالية إلا من حرباء أخذت تتسحب بين الشقوق إلى داخل المعبد.