تربية وثقافة

محطة رقم ( 1).. مفارقات

أبو عبيدة/ إيطاليا
أبو عبيدة/ إيطاليا

خاص “المدارنت”..

تنتظر قدومهم لتزرع فيهم كل أحلامك، أو ما بقي منها في حقيبة سفرك. تستحضر من عمق ذاكرتك تلك الأغاني التي منحتك معنى الانتماء، أغاني المناجاة بين الروح والمكان، كنت تسمعها وأنت في حضن أمك، بين إخوة وأحبّة حول موقدٍ وليلة شتاء، خلف فلاحٍ يجرّه محراثٌ في رقصة على إيقاع سحري.

… تكتب لهم قصصاً كثيرة وأنت تنتظر، بعضها تنفض عنها غبار السنين وأخرى يستنبطها وجدانك المهاجر، فأنت تعلم جيداً بأن ابنك سيرى هذا العالم في مكانٍ بعيد، مكانٌ هادئٌ حتى الرهبة، فلا ضجيج في الأروقة لأهل واصحاب ينتظرون.

تنادي الولّادة معلنة عن اسم مولودك، وتنطق اسمه بجهدٍ، فيفقد بعضاً من سحره، فأنت كنت قد أمضيت أشهراً وانت تبحث عن اسمٍ، فيه كل عشقك للغتك ووطنك، ويُكتب في السجلات.. ولدت فلانة من أبوين أجنبين. وحده الغريب، يرى نور الكون في أرضٍ، فيحمل أوراقاً تعرّف عنه لها صلاحية وتاريخ انتهاء.

ابنتك ولدت في مكان بعيد، وستبقى أجنبية غريبة، بأوراق ثبوتية مختومة بتاريخ انتهاء الصلاحية، لتبقى قيد الدرس الى أجل غير مُسمى، وربما الى أبعد من ذاك الأجل.

… وأنت، تعيش فرحتَك كاملةً، وبأدق تفاصيلها، تسرع لتقوم بطقوس استقبال مولودتك، فتناديها باسمها كما يجب، وتلقّنها اسمك، واسم جدّها وجدِّك، تغسل خدييها بدموع الفرح، تناجيها الى أن يهدأ روعها، وتوعدها بأن بعضاً من وطنها لم ينقطع مع حبل خلاصها، بل سيكون في رحلة كل يوم، في ضحكاتنا وبكائنا، في حنينا واشواقنا… في كل ذكرياتنا.

… أحوالك المادية، نادراً ما تسمح، لكنكَ تعضّ على جوع الأيام وتدّخر، لتؤمّن لهم ولو زيارة واحدة الى وطنك في كل عام، فأنت تعرف جيداً، بأنه لن يكون لهم يوماً وطناً جغرافياً، فتحاول آملاً أن يكون وطن الخيال في قلوبهم قبل عقولهم، أنت ترجو أن يجدوه في حنان جدّة، في صدر عمّة أو خالة، في ضجيج الأسواق ورائحة المدن.

تشعر بشيء من الفرح والفخر، حين يتبسّم ثغر ابنتك، وهي تردد لك في كل مرّة، “اشتمُّ رائحة بيروت عندما أدخل هذا أو ذاك الشارع من المدينة حيث نعيش”.

كنت دائما ً أتساءل! ما هذا السحر الفريد؟ ما سرّ هذا العبق في رائحة الأوطان؟

… أنت تحاول أن توثّق كل التفاصيل في طفولة أولادك، ولكنك تدرك جيداً بأنها ستكون مختلفة عن طفولتك.

طفولتك، كانت قد أعطتك أجمل صورة للوطن، ولن تمحوها أسفار ألف عام، فهل سيكون لاولادك طفولة، تصنع وطنا؟!

وهم ليسوا إلا قطعة من جسدك الغريب، في هذا المكان البعيد.

… كنت أعود طفلاً وأنا بينهم، وأحاول جاهدا استعادة ألعاب الطفولة من عمق ذاكرتي، فأنفض عنها غبار السنين، الفكرة كانت تصل احياناً، ولكن مهارة البالغ كانت تنقصها غالباً جمال لحظة إبداع من طفل تلك السنين.

تعاونا في صناعة العربات من الاسلاك الحديدية، وطائرات الورق، ولكن لم أكتشف حتى اليوم لماذا طائرات طفولتي كانت تحلّق أعلى وأكثر.

…تقف عاجزاً، حائراً، وأنت تبحث عن أجوبة مقنعة، أجوبة! غالباً ما تكون كاذبة، ولكن يجب أن تكون مقنعة، أمام عشرات الأسئلة المرسومة بحزن على أفواه أولادك.

أسئلة رافقت سنين أعمارهم ومراحلهم الدراسية، كانت تتغير أعماقها وأهدافها، ولكنها كانت دائما حزينة، فيها من العتاب ما يشعرك بأنك مذنب أو متهم، وجريمتك هي انك صنعت لهم وطناً افتراضياً.

– هل في اسمائنا ما يضحك؟!

– لماذا يجد الآخرون صعوبة في نطقها؟!

– لماذا لا نأكل هذا الصنف من الطعام؟!

– هل أمُّنا تقربُ مريمَ العذراء فاعتنقت وضع الحجاب!

– لماذا نغادر المدرسة في بعض الحصص ويبقى الآخرون!

– هل نحن هنا لأننا نحب هذا المكان؟! أم أن مكاناً آخراً قد لفظنا لأنه لا يحبنا؟!

– ماذا تعنون انتم لهذا المكان؟! وماذا سنعني لذاك المكان إن عدنا يوماً؟!

– أتحبّون هذا المكان كما نحبه؟!

وهل سنعشق يوماً ذاك المكان كما تعشقنوه؟!

… أنت تحاول أن تجد أجوبة مقنعة، فلا تسعفك لغة هم يتقنونها، ولا تنفعك لغة أحاسيسك ومشاعرك، وهم لم يعيشوها.

قال لي يوماً أستاذ كريم، إن كنت تريد أن تعطي معنى أو هدفاً لإقامتك الطويلة في بلد ما، عليك أن تنهَم من قصص كتّاب المكان. قرأنا وبناتنا مئات القصص، وها نحن ننتظر جلاء الضباب عن حدود هذا الوطن الافتراضي، وما زلنا ننتظر!

 

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى