مقالات

مدن عربية مشرقية عند حافة الخريطة!

“المدارنت”..
إذا نظرنا نظرة بانورامية لحصاد العقد الماضي، لرأينا أن هناك ست مدن عربية كانت الأكثر التهاباً في المشرق العربي، الملتهب برمته، وهذه المدن هي من الجنوب إلى الشمال والشرق، غزة، درعا، حمص، حلب، دير الزور والموصل. بالتدقيق نجد أن ما يجمع هذه المدن، هو أنها المتأذي الأكبر من معاهدة سايكس بيكو.
مع العلم أن كامل المشرق متأذ من هذه المعاهدة المشؤومة، التي عملت تقطيعاً وتوصيلاً معقداً في الجسد المشرقي، ما أدى إلى عزل مدن كثيرة عن فضائها الجغرافي والاقتصادي والسياسي، فتحولت بعض المدن إلى أشبه بنقاط البتر في الجسم البشري، تمتلك حساسية خاصة، فهي مؤلمة أكثر من غيرها، كما يتأخر اندمال الجرح فيها، بل إن دماغ الإنسان المبتور، وفي كثير من الأحيان، يتصرف على أن الطرف المبتور موجود، حتى إن بعض المرضى يشكون آلاماً مبهمة في الطرف الذي لم يعد موجوداً ( الألم الشبحي). ونشير هنا إلى أن المدن في المشرق العربي ليست كمثيلاتها في أماكن أخرى من العالم، فهي منذ أقدم العصور وحدات سياسية واقتصادية واجتماعية، فقد اشتهرت هذه المنطقة بنمط الدولة ـ المدينة.

إذا نظرنا إلى محور بلاد الشام الممتد من جنوب دمشق إلى شمال حلب، نجد أن له بوابتين هما: دمشق وحلب. وخاصرة تسمى بالرخوة لأنها تتصل عبر البادية بالعراق هي حمص وحماة، استهدفت مشارط سايكس بيكو هذه المدن بشكل خاص، لذلك نجد أنها وامتداداتها هي الأكثر التهاباً.

تدمير محور حلب ـ الموصل
نبدأ بحلب، التي كانت المدينة الثالثة في الدولة العثمانية بعد كل من إسطنبول والقاهرة. لكن سايكس بيكو دمرتها، فخسرت ولاية حلب امتدادها الأناضولي، كلس وعينتاب، ثم خسرت ميناءها في إسكندرونة، كما عُزلت عن خطوط تجارتها مع كل من الموصل وبغداد.
يُعد خط إسكندرون ـ حلب ـ الموصل من أهم خطوط التجارة الدولية، التي تصل أوروبا بآسيا، حتى إن بعض المفكرين الاستراتيجيين يعتبره أكثر أهمية من قناة السويس، لكن هذا الخط تم تدميره بالكامل بعزل حلب عن كل من إسكندرون والموصل.
والأمر لا يتعلق بالتجارة والاقتصاد فقط لأن المدن في بلاد الشام وحدات اقتصادية ـ اجتماعية ـ ثقافية، كما قلنا، فدمار خط الموصل ـ حلب، يعني قطع خطوط تواصل الكتل السكانية التي تسكن حوله، ومن ثم إفقارها وتهميشها سياسياً، على سبيل المثال عانى الطرب الموصلي المميز، الذي يشبه الطرب الحلبي، من العزلة والتهميش، كما توقف تطوره بسبب انقطاع تواصله مع قاعدته في حلب طيلة سنوات القرن العشرين. كان لتدمير هذا الخط بالغ الأثر على مستقبل سوريا السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فقد تراجعت مكانة حلب سياسياً واقتصادياً، وعانت الكتلة السكانية الممتدة من شرق حلب إلى الموصل مروراً بالجزيرة السورية، من تهميش شبه تام.

في عام 2008 حازت الطالبة تماضر حسن السرحان المرتبة الأولى على محافظة حلب في امتحانات الشهادة الثانوية الفرع الأدبي، فاكتشف السوريون أنها درست على ضوء السراج لأن قريتها التابعة لناحية الخفسة التابعة لمدينة منبج، ليس فيها كهرباء، وفي تلك المناسبة أثيرت مشكلة التجمعات السكانية، التي ما تزال من دون كهرباء في هذا الريف.
فرغم وضع خطة لإنارة كامل الريف نهاية عام 2008 إلا أن 700 تجمع سكاني لم تصل إليه الكهرباء، وكانت بالآلاف قبل وضع هذه الخطة! كما بلغ الفقر في تلك المنطقة الواقعة شرق حلب مستويات غير موجودة في مناطق أخرى في سوريا. تقول دراسة أجريت بعد الثورة عام 2011 أن نسبة القرى الفقيرة يبلغ 100% أي أن كل سكانها يصنفون فقراء. أما أزمة دير الزور فلا تخرج عن هذه السياق فهي شرفة شامية تطل على العراق فكانت ضحية إغلاق محور حلب ـ بغداد وبالتالي عُزلت عن عمقها الفراتي ـ العراقي.

تدمير الخاصرة
تكرر الأمر نفسه في الخاصرة الرخوة، حمص وحماة، فقد فصلت المدينتان عن ميناء طرابلس غرباً، وعن بغداد شرقاً، ولو بقيت طرابلس مع سوريا، لكانت هي الميناء الرئيسي على الساحل الشامي لعدة أسباب أولها أنها متصلة بالداخل بفتحة طبيعية، وليس كبقية الموانئ الشامية المفصولة عن الداخل بحاجز جبلي.
كما أنها أقصر الطرق من المتوسط إلى بغداد لهذا يتفوق محور طرابلس ـ حمص ـ بغداد على قناة السويس بأمرين، أولهما أن النقل البري مفضل على البحري، وثانيهما أن المسافة إلى الخليج العربي وآسيا عبر هذا المحور أقصر. لو بقي هذا الميناء في سوريا وكان ذلك ممكناً إذ أن سكان طرابلس ظلوا يطالبون بضمهم إلى سوريا حتى عشية الاستقلال ولم تمانع النخبة المارونية بحدوث ذلك، لأن طرابلس العربية – السنية شكلت صداعاً ديموغرافياً هدد الطبيعة المارونية للكيان الوظيفي اللبناني.
لكن النخبة السياسية السورية التي كانت تصغي لنصائح البريطانيين صمت أذنيها عن هذه المطالب، بل إنها ساهمت بإقناع أهل طرابلس بالبقاء في لبنان! لو أن هذا الميناء بقي في سوريا وفُتحت حدود العراق لكان محور طرابلس ـ حمص ـ بغداد أهم محور تجاري واقتصادي في العالم، وحتى في حال عدم فتح الحدود مع العراق.
إن طرابلس ومحيطها العربي المسلم كانت ستشكل مع كل من مدينتي حمص وحماة مثلثا في قلب سوريا، ترتكز عليه الحياة الاقتصادية، لأن نقل البضائع والركاب من وإلى بقية المناطق سيمر حكماً بهاتين المدينتين، فالبضائع الآتية من الجنوب أو المتجهة إليه ستمر عبر حمص وتلك الآتية أو المتجهة إلى الشمال ستمر عبر حماة، وما يعنيه ذلك من ازدهار اقتصادي وعمراني ونمو سكاني للمدن الثلاث، ليتحول هذا المثلث إلى مركز سوريا سكانياً واقتصادياً وسياسياً.

بوابة دمشق
نأتي أخيراً إلى دمشق، البوابة الثانية لبلاد الشام، التي تعرضت هي الأخرى لمثل ما تعرضت له حلب وبعدوانية وشراسة أكبر، إذ شُنت عليها حرب مفتوحة فحُرمت من منافذها البحرية في كل من صيدا عبر وادي التيم وفي حيفا، وتم إغلاق خطوطها التجارية إلى الجزيرة العربية التي ظلت قائمة لآلاف السنين (رحلة الصيف والشتاء).
كما سُلخت أجزاء كبيرة من ولايتها عنها، وأُنشئت عليها دول وظيفية، وبالتالي، تم عزلها عن مصر وعن الجزيرة العربية. وبعد كل ذلك حلت بيروت مكانها كمركز لبلاد الشام اصطنعه الغربيون بدلاً عنها، زمن الانتداب الفرنسي. وبالمحصلة تهمشت دمشق وتهشمت وخسرت كثيراً من مكانتها الاقتصادية والسكانية والسياسية، لاسيما أنها باتت موضوع عدوان دائم من دولة الكيان الصهيوني. وما درعا إلا بوابة دمشق الأساسية، وكل حرائقها ناجمة عما تعرضت له دمشق.

تبقى غزة، التي تشكل معبراً تاريخياً وجسر وصل بين بلاد الشام ومصر، فقد عانت طوال سنوات القرن العشرين، لأنها قضت أغلب تلك السنوات في احتلال وحصار، فقد عُزلت عن كل من بلاد الشام وعن مصر، وكان يمكن لها أن تكون ميناءً ضخما يتوسط بلاد الشام ومصر والجزيرة العربية.
خلقت معاهدة سايكس بيكو كائنات مشوهة نجمت عنها نقاط التحام غير مستقرة ونقاط بتر حساسة، انفجرت تباعاً في ست مدن هي درعا باعتبارها بوابة دمشق، حمص، دير الزور، حلب، الموصل، غزة، انفجارات هذه المدن يجمعها هدف واحد هو إعادة وصل ما مزقته تلك الاتفاقية، أي إعادة وصل الأجزاء المفصولة قسراً عن بعضها، ولو لم تعبر عن ذلك صراحة. مدن تريد إزالة الحواجز والسدود التي جففت مجاري الأنهار.

ثائر دوري/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى