مقالات

معسكر الموت!

“المدارنت”..
يعيش الناس في أماكن مثل المواصي ودير البلح، من دون طعام أو ماء أو أدوية أو رعاية طبية، وسط بحيرات من مياه الصرف الصحي الخام في مشهد مروع من المذابح، وظروف غير صالحة على الإطلاق للسكن البشري.
ويزداد الوضع سوءًا كل ساعة؛ حيث تأمر “إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) مليون شخص يتضورون جوعًا، ومرضى بإخلاء أنفسهم مرة بعد المرة -16 عملية إجلاء حدثت مسبقًا في آب (أغسطس) -والعثور لأنفسهم على مأوى في مكان ضيق محدد يشكل 11 في المائة من قطاع غزة، والذي يقصفه الجيش الإسرائيلي بلا توقف.
منذ العام 2007، عندما فرضت دولة “إسرائيل” حصارها الذي ما يزال قائمًا على قطاع غزة الفلسطيني، ظهرت عدة ألقاب مختلفة لوصف ظروف الفلسطينيين الذين يعيشون في القطاع الخاضع للحصار “الإسرائيلي” المتواصل. والآن، بعد مرور نحو 11 شهرًا على بدء الهجوم “الإسرائيلي” (الإرهابي الصهيوني) القاتل على شعب غزة، من الضروري مرة أخرى إعادة النظر في تسمية ما فرضته دولة “إسرائيل” على القطاع. إن ما أنشأته دولة “إسرائيل” في قطاع غزة ليس أقل من ‏‏معسكر موت‏‏ شبيه بتلك التي أنشأها النازيون لتنفيذ المذبحة ضد اليهود وغيرهم ممن كانوا يُسمون أعداء الرايخ.‏
‏لسنوات عديدة، ظهر الوصف المختار لغزة -بشكل مفاجئ- من تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، في العام 2010 أثناء رحلة كان يقوم بها إلى أنقرة في تركيا، حين وصف قطاع غزة بأنه “أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم”. وبينما يتحدث إلى جانب نظيره التركي رجب طيب أردوغان، أصر كاميرون صراحة على أنه “لا يمكن -ولا يجب السماح بأن تبقى غزة معسكر اعتقال”. ويشبه هذا التوصيف لغزة ‏‏ كـ”سجن”‏‏ المجاز الذي استخدمه المفكر ميشيل فوكو لوصف الركود وإجراءات منع الحركة التي فرضتها السلطات على المدن الأوروبية التي ابتليت بوباء الطاعون في أواخر العصور الوسطى، والذي أصبح يشكل تمثيلاً قياسياً للوضع الذي تعيشه غزة تحت الحصار “الإسرائيلي”.‏
‏بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، في الأسابيع الأولى من حملة الانتقام الوحشية التي يشنها الجيش “الإسرائيلي” (الإرهابي الصهيوني) على المدنيين في غزة، كتب ماشا جيسن في مقال استفزازي للغاية ‏‏لـ”مجلة نيويوركر”،‏‏ أن استخدام تشبيه السجن لم يعد صالحًا لوصف ما يعيشه الفلسطينيون حقاً في غزة.
وأصر جيسن، بدلاً من ذلك، على الإشارة إلى غزة على أنها “غيتو”، واقترح أن ما تقوم به “إسرائيل” في غزة اليوم هو بالضبط ما فعله النازيون في أماكن مثل “غيتو وارسو”. وفي ما كان ملاحظة شجاعة وثاقبة، كتب جيسن أن الإسرائيليين يعكفون على “تصفية” غيتو غزة، تمامًا كما قام النازيون بتصفية غيتو وارسو.‏
‏الآن، بعد 11 شهرًا من القصف اليومي المتواصل وقتل السكان العزل إلى حد كبير من دون نهاية في الأفق. ومع وجود شعب بأكمله، بمن فيه النساء والأطفال، قيد المعاناة بلا طعام ولا مياه نظيفة، مع أمراض من دون أدوية؛ ومستشفيات مدمرة إلى حد كبير؛ مع وجود مدنيين في غزة محبوسين داخل مساحة القطاع من دون مكان يفرون إليه، يعيد الجيش الإسرائيلي إنشاء مشروع مشابه لمعسكرات تريبلينكا وسوبيبور وأوشفيشيم، وإنما على نطاق مكاني أوسع. أي شيء آخر غير معسكر موت يمكن أن يصف المذبحة اليومية المنظمة التي تقوم بها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين في مكان ضيق؟‏
في مثل هذه الظروف، فإن السؤال الذي يطلب الإجابات هو: كيف يمكن لأمة تطالب باستخراج تراثها من رماد المحرقة ومعسكرات الموت النازية -وتفخر بالتمسك بشعار “لن يتكرر هذا أبدًا”- أن تستدير استدارة كاملة لتتسبب بالنوع نفسه من المعاناة تقريبًا لمجموعة أخرى من المدنيين، وتفعل ذلك على ما يبدو بلا ندم أو تبكيت ضمير؟ على الرغم من عدم وجود إجابات سهلة لهذا اللغز المحير، يأتي أحد أماكن البدء من رؤى اثنين من المفكرين عاصرا بعضهما بعضا في ‏‏القرن‏‏ التاسع عشر، وكانت لهما قناعات سياسية مختلفة إلى حد كبير.‏
‏في عمله الشهير، “‏‏النظام القديم والثورة” The Ancien Régime and the Revolution ‏‏ (1856)، تساءل ألكسيس دي توكفيل عن كيف صاغ نجوم الثورة الفرنسية، “بحبهم للمساواة والرغبة في الحرية” في نهاية المطاف نظام حكم استبدادي لا يختلف كثيرًا عن الحكم المطلق الذي كانوا قد عملوا بحماس على قلبه. وفي محاولة لشرح هذه المفارقة، شخص دي توكفيل حقيقة مراوغة بشأن الثوار، مثل روبسبير وسانت جست، فأصرَّ على أنهم “كانوا رجالاً شكَّلهم النظام القديم”. ربما أراد هؤلاء الأفراد أن ينأوا بأنفسهم عن النظام ‏‏”القديم”‏‏ الذي كانوا يرغبون بشدة في تدميره، لكن سنوات من التكييف في ظل الحكم المطلق الفرنسي أثرت على نظرتهم وسلوكهم. ومع أنهم حاولوا خلاف ذلك قدر الإمكان، فإن هؤلاء الثوار، “ظلوا كما هم في الأساس، وفي الواقع… لم يتغيروا أبدًا بطريقة تجعلهم مختلفين بطريقة تجعل من الصعب التعرف عليهم”.‏
‏وقبل أربع سنوات من كتاب توكفيل “النظام القديم”، كتب كارل ماركس في كتابه “‏‏الثامن عشر من برومير لويس بونابرت” Eighteenth Brumaire of Louis Bonapar‏‏، كيف يصنع البشر تاريخهم الخاص، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم. إنهم يصنعونه “في ظل ظروف ووجهت مباشرة وأعطيت ونُقلت من الماضي”. وقد استخدم هذا التصور المتبصر -لا لإظهار كيف يتكرر التاريخ، وإنما بدلاً من ذلك كيف أن التاريخ “يرجّع الصدى” بحيث يعيد الفاعلون البشريون في الحاضر خلق ما واجهوه من تجربة سابقة في الحاضر. ووصف ماركس تكرار الماضي بأنه مأساة وملهاة على حد سواء.‏
‏بهذه الطريقة، يؤكد كل من دي توكفيل وماركس على كيفية خروج الفاعلين البشريين من الظروف المحيطة بهم، ليعيدوا، بطريقة غريبة، تمثيل ما يعرفونه والذي اختبروه هم أنفسهم مسبقًا. وما تكشفه هاتان الشخصيتان العظيمتان هو أن التاريخ يثقل كاهل الأحياء بينما يسعون إلى إعادة تشكيل عالم الحاضر. ما نوع “العبء الثقيل” الذي ألقت به المحرقة وتجربة معسكرات الموت النازية على كاهل الصهيونية، واليهود، ودولة “إسرائيل”؟
في الرد على هذا السؤال، سيكون الخاطر المنطقي -وإنما الساذج في نهاية المطاف- هو تخيل ضحايا محرقة مليئين بالتعاطف مع أولئك الذين يعانون من مصائر مماثلة. ويُفترض أن أولئك الذين تحملوا ويلات معسكرات الموت سيخرجون من مأساتهم مفعمين بالتعاطف مع معاناة الآخرين. وفي بعض الحالات، هذا صحيح بلا شك.‏
‏لكن الواقع الأكثر صدقية هو الاحتمال المزعج لأن يكون الهولوكوست قد أنتج ورثة مليئين تمامًا بالحقد والمرارة تجاه الإنسانية، مع القليل من التعاطف مع الضحايا الآخرين للوحشية والظلم، وشعور بالاستياء العميق -إن لم يكن الفريد من نوعه- من موقف الضحية. في الواقع، كان هؤلاء ضحايا تعساء لجريمة لا توصف رعتها الدولة، ونقلوا مشاعر المرارة والاستياء هذه إلى الأجيال اللاحقة، بما في ذلك الجيل الحالي من “الإسرائيليين” الذين يدعمون تمامًا، وفقًا لجميع حسابات الرأي العام، الأنشطة القاتلة للأشقاء في المعاناة، التي تمارسها حكومتهم، ويبدون غافلين تمامًا عن معاناة جيرانهم الفلسطينيين في غزة. وإلا كيف يمكن تفسير القسوة الفظة التي يكشف عنها هؤلاء المدنيون الإسرائيليون الذين ينهبون ويدمرون إمدادات المعونة المخصصة لشعب غزة الذي يتضور جوعًا ويعاني؟ إنه مشهد فاسد حقاً يستحضر في الذاكرة صور الأسرى اليهود الذين كانوا يعانون ويتضورون جوعًا ويشبهون الهياكل العظمية في معسكرات الموت النازية؟‏
ثمة مشهد قرب نهاية الفيلم الذي تم إنتاجه مؤخرًا والحائز على جوائز، ‏‏”منطقة‏‏ ‏‏الاهتمام”‏‏ The Zone of Interest؛ حيث يجتمع قادة معسكرات الموت النازية والعديد من الخبراء المدنيين، جالسين حول طاولة كبيرة، ويناقشون كيفية إدارة اللوجستيات لتصفية وحدة من 700.000 يهودي مجري يتم نقلهم إلى مواقع المعسكرات المختلفة. ويردد صدى الحوار الصريح ببرود، بل وحتى المبتذل في هذا المشهد حول التحديات اللوجستية التي يطرحها إرسال هذا العدد الكبير من الجثث إلى الموت، صدى عمل حنة أرندت، “تفاهة‏‏ الشر” Banality of Evil.
وفي الوقت نفسه، يشبه المشهد البصري في إعادة الخلق السينمائية هذه للاجتماع النازي، إلى حد مخيف الصور المتداولة الآن في نشرات الأخبار لما يسمى بـ”مجلس وزراء الحرب” الإسرائيلي، التي عادة ما تظهر فيها الوجوه العابسة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت. وفي حين أننا لا نعرف بالضبط الكلمات المتبادلة بين هؤلاء الجنرالات “الإسرائيليين” والقادة المدنيين، فإن العمل اليدوي لهذه المجموعة كان واضحًا تمامًا وقيد العرض للعالم ليراه على مدى الأشهر الأحد عشر الماضية.‏
‏في مؤتمر صحفي مثير للاهتمام عقد في 26‏‏ آب (أغسطس)‏‏، وصف مسؤولان مخضرمان في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، منخرطان بشكل مباشر في جهد توزيع المساعدات الطبية والغذائية على الأرض لسكان غزة، هما لويز ووتريدج وسام روز؛ وصفا الكارثة الإنسانية التي يعتبرانها غير مسبوقة، والتي لم يريا لها شبيهًا من قبل خلال عقود من عمل الأمم المتحدة:
يعيش الناس في أماكن مثل المواصي ودير البلح، من دون طعام أو ماء أو أدوية أو رعاية طبية، وسط بحيرات من مياه الصرف الصحي الخام في مشهد مروع من المذبحة، في ظروف غير صالحة على الإطلاق للسكن البشري. ويزداد الوضع سوءًا كل ساعة، حيث تأمر إسرائيل مليون شخص يتضورون جوعًا ومرضى بإخلاء أنفسهم مرة بعد المرة -16 عملية إجلاء حدثت مسبقًا في آب (أغسطس)-والعثور لأنفسهم على مأوى في مكان ضيق محدد لا تزيد مساحته على 11 في المائة من قطاع غزة، والذي يقصفه الجيش “الإسرائيلي” بلا توقف.
‏في نهاية المطاف، تكمن الطريقة لفهم كيفية حدوث مثل هذا الوضع الذي وصفه مسؤولو الأونروا في المشهد المذكور من فيلم “‏‏منطقة الاهتمام”‏‏ حول تصفية 700.000 يهودي مجري، ومقارنته بصور مجلس الحرب الإسرائيلي. ثمة تناظر مقلق في هذه المقارنة، والذي يتطلب منا التفكير في كيفية وصول دولة إسرائيل إلى هذه اللحظة وذبح كل هذه الآلاف من الأبرياء، مع إبقاء أولئك الذين ما يزالون على قيد الحياة مثبتين في المكان، وتجهيزهم للموت بحرمانهم من أي طريق للهروب.‏

‏* غاري فيلدز Gary Fields: أستاذ في قسم الاتصالات في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ومؤلف كتاب: ‏‏”إحاطة: مشاهد فلسطينية في مرآة تاريخية‏‏”Enclosure:  Palestinian Landscapes in a Historical Mirror. يقيم في سان دييغو.‏
* نشر هذا المقال تحت عنوان: Death Camp
 المصدر: ترجمة “الغد الأردنية”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى