مقالات

مفهوم الهوية.. هل للأمة هوية؟! هل للوطن هوية؟!.. الجزء (3/3).

د. مخلص الصيادي/ الشارقة

الأخطار على الهوية الوطنية
في الأوضاع الطبيعية لا يمثل وجود أقليات في المجتمع ـ أي مجتمع ـ خطرا حقيقيا على الهوية الوطنية، بل على العكس من ذلك فإن وجود أقليات عرقية ودينية وثقافية يمثل مظاهر قوة وغنى للهوية الوطنية، ودليلا على أن هذه الهوية تتمتع بالخصائص الإنسانية التي تتيح وجود هذه الأقليات، وتتيح تفاعلها مع مكونات المجتمع المختلفة، وكلما كان وجود هذه الأقليات راسخ في المجتمع كلما كان دور هذه الأقليات إيجابي.
لكن في الأوضاع غير الطبيعية قد يمثل وجود الأقليات خطرا على البنية الاجتماعية الوطنية وعلى الهوية الوطنية ومن المهم أن نقف على الظروف والأوضاع التي من شأنها أن قد تحول وجود الأقليات إلى وجود خطر:
1ـ أول هذه الظروف وأخطرها يتمثل بوجود سلطة سياسية في المجتمع تعتبر نفسها أو تصف نفسها بأنها “حامية للأقليات”، أو أن هذه من أولى وظائفها، ولقد أعطت سلطة الاحتلال الفرنسي لسوريا نفسها هذا الدور، وعملت بشكل مبكر على إقامة دويلات طائفية في سوريا، ولما فشل هذا المسعى بوعي السوريين جميعهم طبقت هذه السياسة على الجيش الذي اصطنعته لنفسها من أبناء البلد والبلدان التي تحتلها تحت مسمى “جيش المشرق” وتم بناء هذه القوة العسكرية على أساس طائفي وعرقي (علوي شركسي كردي درزي). ولم يكن هذا التوجه في السياسة الفرنسية خاص بسوريا وإنما نهج استعماري طبقته في كل الدول التي احتلتها، لكن الوعي الوطني، وعي أبناء الوطن أقليته وأكثريته لهذا النهج أمكن من إبطال مفاعيله، وإجهاضه بسرعة.
وإذا كان خطر وجود المحتل الفرنسي في سوريا خطر عابر وبالتالي فإن سياسته في حماية الأقليات لم تعد تعني شيئا، فإن هذه السياسية وجدت صداها في نظام الحكم الأسدي الذي صار وصفه بأنه حامي الأقليات مصدر اعتزاز له وميزة يشير إليها، وبات وصفا معتمدا من قوى النظام العالمي، شرقه وغربه، ولم يتخذ النظام الأسدي هذه الصفة إلا لأن حقيقة هذا النظام “طائفية أقلاوية”، ولهذه الطبيعة فإنه نظام استبدادي قمعي.
هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية السابقة كانت السباقة ومنذ العام 2011 إلى الحديث عن دور الأسد تجاه الأقليات وكيف أنها تلتف حوله، وفي مارس 2012، وفي أكتوبر 2012 ولعدة مرات بعد ذلك تحدث وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن خطورة وجود نظام سني في دمشق حال سقوط نظام الأسد مؤكدا عزم روسيا على منع قيام مثل هذا النظام، وعن قلقه على مصير الأقليات المسيحية والأقليات الأخرى كالأكراد والعلويين والدروز، كما تحدث عن نظرة موسكو الى الأسد باعتباره ضامنا وحاميا لوجود الأقليات.
2ـ وثاني هذه الظروف وجود مشاريع لأقليات داخل الوطن طامحة لإقامة كيان مستقل لها، وهذا لا يتأتى إلا بوجود دعم إقليمي، يستغل ويوظف هذا الطموح، وقد تمثل هذا الخطر في سوريا بالمشروع الكردي الانفصالي، الذي يلقى مثل هذا الدعم من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، ويلقى تفهما واستعدادا ضمنا من روسيا. ويعتبر القائمون على هذا المشروع وجود مثل هذا الدعم بمثابة الفرصة التاريخية لمشروعهم، لذلك يعملون على تعزيزه، وتسليط الضوء عليه، فالحضور الإسرائيلي واضح ومعزز في كل الفعاليات والتحركات والنشاطات التي يقوم بها هؤلاء في كل مكان.
وإذا كانت واشنطن تبرر دعمها للقوات الكردية الانفصالية التي تعمل تحت مسمى قسد ـ وهي امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي ـ وذلك بدعوى محاربة الإرهاب، وهي دعوى كاذبة، فإن الدعم الصهيوني والإسرائيلي للمشروع الانفصالي الكردي قديم، ومستمر، وهو سابق على تمدد هذا المشروع إلى سوريا، حيث ظهر الدعم والوجود الإسرائيلي موثقا الى جانب المشروع الكردي في العراق منذ الخمسينات، وبتعاون مع شاه إيران.
إن وجود مثل هذه الحالة يمثل خطرا حقيقيا على الهوية الوطنية، لأنه قائم بالأصل على تفتيت الهوية الوطنية واستبدالها بهوية “أقلية اثنية” تجزئ الوحدة الوطنية، وتقسم الجغرافيا الوطنية، على أحسن تقدير.
3ـ وثالث هذه المخاطر تتمثل في المشروع الإيراني في سوريا، وهو مشروع طائفي عرقي، شديد الخطورة، أساسه فيما يتعلق بسوريا هدم الطبيعة الدينية الاسمية للمجتمع السوري، وهدم كل البنى التاريخية والثقافية والروحية المتصلة بهذه الطبيعة، وهذا يحتاج قبل كل شيء الى إعادة صياغة هوية المجتمع السوري بما يتفق وهذا التوجه “الشيعي / الفارسي”، الذي تمثله نظرية “ولاية الفقيه”.
ونحن هنا لسنا أمام أو في مواجهة المذهب الشيعي الذي لا وجود مؤثر له في سوريا، وإنما في مواجهة، فكر عنصري يستتر بالمذهبية الشيعية من خلال نظرية تجعل المسلمين السنة ـ الذين يمثلون في سوريا نحوا من تسعين بالمائة من مسلميها ـ هدفا لتغيير انتمائهم “الديني المذهبي”.
إن عناصر الهوية السورية الثلاثة: اللغة والدين والتاريخ مستهدفين في هذا التوجه الذي تمثله نظرية ولاية الفقيه في لونها الفارسي. الذي يتابع ما يجري الآن في سوريا سيجد شواهد لا تحصى على هذا الاستهداف، وعلى حقيقة هذا الخطر.
4ـ لا شك بأن الاستبداد والظلم الاجتماعي يمثل تهديدا للهوية الوطنية، لكنه من حيث الفاعلية هو أدنى عوامل التأثير والفعل في الهوية الوطنية، لأن الاستبداد والظلم الاجتماعي إن لم يكن قائما على ” الطائفية والاثنية” فإنه يصيب بشروره الوطن كله، كل أبناء الوطن، وكل مناطق الوطن، وكل فعاليات الوطن الثقافية والفنية والأدبية والروحية، لذلك فإن الوعي الوطني قادر على تشكيل جبهة مقاومة واحدة تتصدى لهذا النوع من الاستبداد والظلم.
ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يتفاوت الشعور بالاستبداد والظلم من مكون اجتماعي وطني الى مكون آخر، ومن منطقة جغرافية الى منطقة أخرى، وتتحكم في هذا التفاوت عوامل عديدة لكن الوعي الوطني العام من شأنه أن يتجاوز هذا التفاوت وينمي حالة مقاومة وطنية شاملة لنظام يحمل خاصتي الاستبداد والظلم الاجتماعي.
والأمر هنا يشبه على نحو ما التصدي الوطني للسياسات الاستعمارية التي أرادت أن تفتت الوحدة الوطنية للسوريين وتقيم تناقضات مزعومة بين أبناء الوطن الواحدة بإغراء الامتيازات والمصالح، لكن ذلك انهار أمام الوعي الوطني الذي تبدى لدى السوريين جميعا بكل تكويناتهم وفي كل مناطقهم.
فرص البحث عن هوية سورية جديدة
كل تلك المخاطر التي أشرنا اليها موجودة ماثلة في المجتمع السوري الراهن، غذتها ونمتها الحقبة السدية المستمرة، وفي وجود هذه المخاطر هل نحن مدعوون للبحث عن “هوية سورية جديدة تجمع السوريين على اختلاف أديانهم وطوائفهم وقومياتهم وايديولوجياتهم” كما بات البعض يطرح؟
إن المشروع الانفصالي الكردي هو المهدد الرئيسي لوحدة المجتمع السوري ولوحدة الوطن السوري، وهذا المشروع يقوم على خلق ” هوية كردية” مستقلة عما سواها، مستقلة لغة وتاريخا وقيما وجغرافيا، وهي في إطار مبتغاها تعمل على تحطيم كل العناصر المشتركة مع مكونات الشعب السوري الأخرى، بل هي تعمل في إطار المشروع الكردي الكبير على إعادة تقسيم المنطقة كلها، وتقسيم دولها الأربعة.
وحين يتحدث قادة هذا المشروع عن حقوق الأقليات الأخرى فهذا حديث يأتي في إطار تزوير المشكلة التي تطرحونها بتصوير أنها ليست خاصة بهم وأنها تمس مكونات عديدة أخرى.
والذي يبحث ويدعو إلى بناء هوية سورية جديدة جامعة عليه أن يطرح سؤال أولي قبل أن يدقق في معنى الهوية، والسؤال المحدد: هل مما يحفظ وحدة سوريا اجتماعيا وجغرافيا وسياسيا أن نخترع لها هوية جديدة؟ وهل سيقبل المشروع الانفصالي الكردي بهذه الهوية ويتخلى عن هدفه في إقامة كيان كردي منفصل مباشرة أو على مراحل؟ ثم هل يقبل حزب العمال الكردستاني، أو الكيان الصهيوني، أو الولايات المتحدة، أن تتخلى قسد وتنظيمها العسكري الرئيس “بي يي دي” عن مشروعها الانفصالي من أجل الحفاظ على وحدة سوريا!
وحين نتمكن من الإجابة الصحيحة والصريحة على هذه التساؤلات يأتي السؤال الحاسم الخاص بالهوية: هل يمكن البحث عن هوية! وهل الهوية ثوب نلبسه ثم نخلعه لنلبس غيره!
لا يمكن للسوريين أن يبحثوا عن هوية جديدة لوطنهم ولوجودهم، لكن عليهم أن يستعيدوا الهوية التي شوهها النظام القائم، وشوهتها سياساته وما تخلف عن هذه السياسات من تشوه في الحياة السياسية والاجتماعية السورية.
على السوريين أن يستعيدوا المعنى الحقيقي للمواطنة وهو المعنى الذي مسح لكل الأقليات العرقية والدينية والمذهبية أن تبقى في سوريا وأن تأتي إليها، وأن تستقر فيها، وأن تمارس فيها كامل حريتها.
على السوريين أن يبنوا بأنفسهم نظاما سياسيا يصون المعنى الحقيقي للمواطنة ولكرامة المواطن وحقوقه، فيكون جميع المواطنين أمامه سواء، وتكون ثروات الوطن كلها لرفاه المواطنين جميعهم.
على السوريين أن يعيدوا لوطنهم معنى أنه موئل الناس المظلومين في محيطه الإقليمي، يلجؤون إليه بحثا عن الكرامة والمساواة، فيجدون فيه ما فقدوه في بلدانهم، دون أن يفقدوا شيئا من خصائصهم وثقافاتهم وعقائدهم.
على السوريين أن يعيدوا لوطنهم معنى أنه قلب العروبة النابض “لغة وعقيدة وثقافة وأدبا وحضارة” الملتزم تجاه أمته العربية وقضاياها، لا يثنيه عن ذلك ما مر به من محن، ولا ما تمر به الأمة من ضعف.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى