مقالات

منهجية التفكير العربي بين اللغة والدين/ الجزء (1-2)

أديب الحاج عمر/ لبنان

خاص “المدارنت”..
اللغة أداة تعبير لما تجول به العقول، وما تنتجه من أفكار ومفاهيم ومصطلحات، فهي الحاضنة التي منها تفقس الحضارة وتخرج إلى العلن بكل ما تحويه من قيم وقواعد، إنسانية ترتقي بالأمة، وإما تذهب بها إلى حضيض التفاهة والانهيار. فالعلاقة جدلية بين لغة قوم وبين ما ينتجه عقلها الفاعل والمنفعل، جراء عمليات التعقل والتفكير والتدبر.
وننوه أن لغتنا العربية، قد أشرقت مع إشراقة شمس الإسلام، في تاريخ العرب خاصة، وتاريخ البشرية عامة. فكانت المنطلق الفصل نحو صحوة روحية وإعلان نور حضارة في حياة الامة، هذه الأمة التي توجهت إلى اجتياز، عن طريق مصادر لغتها، أسوة وأصالة وتطبيقا، كل الشدائد والعقبات، متحركة ناهضة إلى أهداف اصالتها ورسالتها وعقيدتها، متحدية ما حولها،ومع كل امل، لتجاهد عن ارضها وعن قرانها وعن شريعتها السماوية. ذلك بعد صمت الأدب وترجل فارس الشعر، خجلا أمام الحديث منه، حيث فقدت الفصحى نضارتها، ولحق التمزق وحدة كيانها، الحي المبين، آخذة التحصٌن، من العجمة والضياع، بكتاب الله الحافظ لها. وهذا مما سبب احتضار الأقلام والافواه، وايضا، فُقِد المرشد والعاصم والغيور.
لا شك أن الفصحى هي مصدر الأمل في تضامن العرب ووحدتهم، ثم التراجع عن محاكات المجتمع الاوروبي ولغاته الحاملة والناقلة إلينا ثقافة التفكك والتحلل والتي تتضمن متابطة أحقاد الكراهية والعدوانية، لاعتقادهم أن تدهور اللسان العربي وعجزه التعبيري، سيؤدي به إلى حتمية الضياع والانقراض، كما حصل لأمتيّ الرومان واللاتين عبر التاريخ. ولكن لغة الضاد، ومنذ فجر حياة البشر، وبالمشيئة الالهية، والتي بها نزل القرآن العظيم، الحافظ للدين الحق. لا يمكن لتلك اللغة أن تموت، بل الحياة تنتظرها من جديد، في كل وقت وفي كل حين.
ينبع جهل وغباء الشعب العربي واختلافهم، من تركهم بيان لسانهم، لأن العلاقة، جدلية علمية، بين اللغة ومنهج التفكير، فالبعد والتباعد، وتعاقب القصور عن رعاية اللغة والاجتهاد في علومها، كان السبب فى ضعف الامة وتفرق كلمتها، حيث تأثر العرب بالعجمة الطارئة، فأصبحوا اقرب للهوى والابتداع، في الأفكار والثقافات، مما أدى إلى الاقتداء والاتباع، بتقليد أعمى يقتل ذاتية الوجود، وينقض منهج القرآن وبلاغ رسوله (ص) في دعوته إلى الحق، بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذا ما ظهر في انطلاق فتنة الخوارج عبر التاريخ، وحاضرا ظهرت الفتن على مدٍ عينك والنظر. حيث تسللت ظواهر العقم اللغوي ومرفقا بتخلف طرق مناهج تعليم اللغة الفصحى، بجميع مراحلها التعليمية، وهذا ما برز مع بداية القرن العشرين، حيث توجهت المناهج للتمسك بما جنده العدو، من ثقافات صبيانية من أجل تقويض مقومات اللغة العربية والدين والانتماء القومي.
لا شك أن منارة الأمل المتجدد في حفظ اللغة، وفصيح لسانها، وتحقيق وحدة الامة، إنما هو القرآن العظيم، أحكاما ولغة، بيانًا وتشريعًا، لأنه المرجع المحفوظ والمسند في مواجهة كل المخاطر والمخططات العدوانية. لذلك وجب الانطلاق من مفردات وعبارات النصوص القطعية اليقينية في دعم بيان اللغة، وأصول منهج تعلمها كي يتمّ تنشئة الطفولة على استقامة وصوابية الألفاظ والمعاني والدلالات، كي تنمو عليها الأجيال العربية المؤمنة، ومن ثم بها تستقيم المفاهيم والأفكار والمصطلحات، بكافة علومها العلمية، تطبيقا لمنطق الجدل والربط بين منهج التفكير وبين اللغة والدين. من هنا، ومن هذا المنطق الجدلي، وجب مواجهة التخطيط المعادي بتخطيط وطني قومي، يجمع بين العلم والصدق والتعاون، لبلوغ الاهداف، مهما كان الجهد، ومهما كان الثمن، ومهما طال الزمن.
ينطلق منهج العقل العربي من رابطة إنسانية عضوية، بين العقل وبين الإيمان، حيث تذهب بك تلك الرابطة إلى ما يماثلها بين العقل والحق، بمعنى أن العقل مؤهل لإدراك الحق وبيانه، وتذهب بك ايضا، إلى ما يماثلها، بين العقل والحكمة، بمعنى بلوغها، ثم البلاغ عنها. وزد على ذلك، فلا شك أن تلك الرابطة تحمل العقل العربي للارتقاء والسمو، بمنهج تفكيره، وقدرة ما تنتجه عملية تعقله،إلى مرتبة البناء الحضاري والتطور العمراني
واستمراره باستمرار منهجه القويم، استنادا لبيان ووضوح ما يحمله من دلالات تعبيرية لغوية موضوعية، تحقق المبتغى، جراء ما طوته اللغة الفصحى في بيانه القرآني ولسانه المبين.
كلمة الحق، تعني ما تعنيه، من معان ودلالات، فالحق اسم من أسماء الله، ويعني الموجود حقيقة، أيّ المتحقق ألوهية. ويعني القرآن العظيم، وهو ضد الباطل ونقيضه، ويمضي الحق بسلطان الله وينتصر، حيث يتلاشى الباطل وينهار. ويعني الأمر المقضى، والاسلام، والصدق، والعدل.ويعني اليقين، تحقق يعني تيقن، واحققت الأمر، يعني اوجبته، أي ثبت ووجب. وهذا ما يمكن بلوغ المؤمن، حقيقة الإيمان. (انظر لسان العرب، مج4، دار صادر. ص/49).
وما بعدها.
ومن شواهد هذه المعاني والمرتبطة بالإيمان في رؤية العقل العربي، وبيانه ودعوته الممنهجة، فالحق بمعنى الله.. “فذلكم الله ربكم الحق”/ يونس/ 32.. بمعنى القرآن “لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين”.ز يونس/94.. بمعنى الاسلام والدعوة اليه: “ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، “التوبة/ 29.
بمعنى الصدق “وأن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون إنه الحق من ربهم”.. البقرة/144، وقوله تعالى
“نزّل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه”..آل عمران/ 3.
بمعنى الأمر المقضى”فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون”.. الأعراف/ 118، بمعنى اليقين “أن الظن لا يغني من الحق شيئا أن الله عليم بما يفعلون”.. يونس/ 36.
هذا عن الحق في لغة الدين الحق، وفي العلم والعدل الصدق، أي في لغة العقل العربي ومنهج رؤيته ودعوته وإدراكه. فماذا عن الحكمة وبلوغها؟!
الجواب مع الجزء الثاني.
(يتبع)

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى