من أجل خطة وطنية للتعليم عن بعد..
خاص “المدارنت”..
“التعليم عن بعد”، هذه العبارة المنتشرة على “الموضة”، وإن كان منتشراً نظرياً وعملياً في كثير من دول العالم، إلا أنه واقعياً يحتاج الى مقومات وظروف وشروط لانجاحه في أي دولة تريد تطبيقه. ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار “الارتجال” في اختيار البرامج المساعدة والوسائل الرقمية على كثافتها، هي الآلية الناجعة والاستراتيجية الناجحة في تطبيقه على عجل، لضرورات خارجة عن إرادة المؤسسات التربوية.
“التعليم عن بعد” نظرة حداثية للتعليم، وينبغي أن يكون مترافقاً مع حداثية المعلم، وحداثية المنهج، وحداثية القوانين، وحداثية وسائل الاتصال، وحداثية البلد ككل، إن لم نقل رفاهيته في بعض المجالات.
في لبنان، وخلال أزمة “كورونا” التي عصفت به مثل كثير من بلدان العالم، ما تزال المؤسسات التربوية تدور في حلقة مفرغة من أجل تطبيق التعليم عن بعد، وذلك لغياب الاستراتيجية المسبقة الجاهزة لهكذا آلية رديفة، تنقذ العام الدراسي، وتدفع مئات آلاف الطلاب الى الاستمرار بالمواكبة معرفياً بانتظار انجلاء الأزمة. هذه الآلية الرديفة ينبغي أن تكون موجودة من الأساس، قبل كورونا وغيرها، لا سيما في بلد مثل لبنان، حيث لا تنفك الأزمات من التزاحم على أبوابه لتدفعه الى اجتراح الحلول الرديفة. ولكن للأسف، لا تنفك العقلية اللبنانية تعمل على الصدمة، والمؤسف أنها لا تنفك تتلقى الصدمة تلو الصدمة، حتى وصل الوطن ككل الى الانهيار، بل لتنكشف عوراته على صعيد الميادين كافة، من دون استثناء. فلا صحة، ولا تربية، ولا شؤون اجتماعية، ولا عمل، ولا …
وللنجاح في ميدان “التعليم عن بعد”، لا بد من العمل على عدة مستويات، بشكل متوازٍ ومنسق، لتنجح هذه الآلية الرديفة، ولتبقى جاهزة للاستعمال وفق الحاجة. فعلى المستوى القانوني، لا بد من تحديث القوانين اللبنانية، ولا سيما آلية التعليم عن بعد، وإعطائها التشريعات اللازمة؛ لأن هذه التشريعات حتى الآن معارضة لكل ما هو عرفي رقمي. ومنها تنطلق مكونات نجاح استراتيجية التعليم عن بعد، وهي كالآتي:
1 – تعمد الوزارة الى تفعيل “بريد الكتروني لكل تلميذ”، وهو مشروع سبق أن عملت عليه وزارة التربية في عهد السيدة (النائب) بهية الحريري، ثم أهملته باقي الوزارات، التي عادت إحداها لتطلب بريد الكتروني عشوائي لكل تلميذ في آلية ضبط الامتحانات الرسمية. المفروض، أن يرافق البريد الالكتروني كل تلميذ طيلة مدة دراسته، وأن يكون منشأ على “سيرفرات” الوزارة بامتداد رقمي تابع للوزارة، على غرار الرقم الآلي الموجود اليوم لكل تلميذ، وهو خطوة في محلها.
2 – تعمد الوزارة أيضاً الى إنشاء بريد الكتروني لكل معلم، على سيرفرات الوزارة أيضاً، ويكون بمثابة الوسيلة الرسمية للتواصل، على غرار ما فعلت الجامعة اللبنانية مع أساتذتها.
3 – تعتمد الوزارة منصة (Platform) موحدة للعمل عن بعد، بدل الارتجال، والتخبط، وتكون هذه المنصة وحدها بمتناول الأساتذة والطلاب على السواء، ويتم التدريب الالزامي عليها لكل أساتذة المواد؛ ويتم اختبارها عدة مرات في المؤسسات التربوية، بالتعاون مع أساتذة المعلوماتية في كل مدرسة وثانوية. هذه الطريقة تجعلها بمتناول الجميع، بحيثياتها وتفاصيلها مع وجود الخبراء بتشغيلها على مستوى واسع من المؤسسات التربوية.
4 – دعم الطلاب بكومبيوترات لوحية، مفعلة ببريدهم الالكتروني الرسمي، ومثبت عليها التطبيق، ومجربة عبر أكثر من سيناريو في حصص تعليمية عن بعد، ومستعملة في أكثر من مناسبة، لتكون جاهزة في حالات الطوارئ كاستراتيجية بديلة شاملة. وتبقى هذه الألواح بمتناول الطلاب لأكثر من سنة، وتحمل في طياتها الكثير من الموارد الرقمية المختصة بسنواته الدارسية. وتتولى وحدة رقمية في كل مؤسسة تربوية، تفعيل هذه الألواح، من خلال المفكرة الأسبوعية، والتواصل أيضاً من خلالها مع أولياء الأمر في مسائل متعددة متعلقة بسير العملية التربوية ككل.
5 – دعم الطلاب والأساتذة بباقات انترنت عالي السرعة، بكلفة رمزية طيلة فترة دراسته، على أن تأخذ الدولة بعين الاعتبار تحديث شبكات الانترنت ليكون بمتناول الجميع، وبسرعة تتجاوز 8 ميغا/ث، وليكون من السهل التنقل بين تحميل الميديا، وإنشاء الفيديو (Conference) بين أطراف العملية التعليمية.
6 – تترافق هذه الآلية مع تحديث المناهج، وإضفاء طابع المرونة على المحتوى التعليمي، لأن التعليم عن بعد يفرض طرائق مختلفة، وعرض محتوى مختلف، وسير درس مختلف عن ما هو متعارف عليه اليوم. فـ”صوت” المعلم الوسيط بين المعرفة والمتعلم، سوف يكون في الحد الأدنى من التدخل، فيما يدخل التعلم الذاتي في ميدان هذه الطرائق، وهو بالأساس من أحد أهم أهداف المنهج اللبناني. من هنا أهمية صياغة الدروس بطريقة مزدوجة، ينتقل فيها المعلم بين الميديا والكتاب، الذي يصبح دليل لموارد رقمية بدل ازدحامه بالمعلومات وازدياد وزنه على حساب الوزن المنطقي للحقيبة المدرسية. فثنائية الموارد الورقية والرقمية، والتوازن بينها، ستؤهل حتماً طلابنا على دور ريادي في زمن الرقمية دون نسيان الكتاب الورقي وأهميته المعرفية.
7 – تتحول الفروض المنزلية اليومية، الى مشاريع شهرية، يتم تقييم الطلاب من خلالها وفق المواد المختلفة، وبأساليب مختلفة: قراءة جهرية لقصة، إخبار قصة جهرياً وكتابياً بلغات مختلفة، تطبيق حسابي، مشروع يربط الجغرافيا بالحياة اليومية، وعرض شخصية تاريخية في ميدان التربية على المواطنية والتاريخ.
لعل هذه الخطوط العريضة، لخطة وطنية للتعليم عن بعد، قد يكون فات الأوان عليها اليوم، إلا أنه تبقى هي خشبة الخلاص لخطط مستقبلية، حيث ستستمر الحياة، وكي لا نقع في المحظور في ظل ظروف مشابهة. إن الدولة التي تريد أن تبني لنفسها صرحاً في الرعاية لأبنائها لا بد وأن تبدأ، ولو لمرة، بالتفكير عن بعد، الى المستقبل المتوسط والبعيد، وأن تسعى الى إيجاد وسائط صمودها ومقومات نجاحها في عالم، باتت الرقمية جزءاً من اقتصاده المنتج، ومكوناً رئيسياً من مقومات معرفته الحداثية. التخطيط أولاً، وإلا فاتنا القطار وتجاوزنا الزمن.
* أستاذ محاضر وأخصائي في دمج التكنولوجيا بالتعليم