من أدب الشتات الإفريقي.. قراءة في رواية: “ما وراء الأمل” للأديب الإرتري محمد صالح علي حيد
خاص “المدارنت”/ ابتداءً من النصف الثاني من القرن العشرين، وشيئًا فشيئًا، وتأثرًا بما يطلق عليه النقاد “أدب ما بعد الكولونيالية” post colonial literature “الاستعمارية”، أخذ ما سوف يعرف بأدب الشتات يظهر في الكتابات العربية شعرًا ونثرًا، وبخاصة بعد نكبة 1948 التي أدت إلى ارتحال الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني إلى خارج أرضه التاريخية، وتفجر المعاناة الإنسانية القاسية التي وجدت من المشتتين أنفسهم من يصورها ويعبر عنها.
ورأيي أنه لا أحدَ يمكنُه أن يدرك حجمَ ما يعانيه أهل الشتات سواهم، ولا أحد يستطيع أن يصِفَ تفاصيلَ مأساتِهم الإنسانيةِ المؤلمةِ بمثلِ ما يستطيعون؛ وحدَهم هم الذين يعرفون عمق الوجع ولهفة النفس وانكسار الروح؛ إنهم هؤلاء المنفيون عن أوطانهم رغمًا عنهم، المُبعَدون عن بلادهم قَسْريًّا، الذين أُخرِجوا من ديارهم وأوذوا في حياتهم، وكُتِب عليهم الشتاتُ في هذا العالَم المُوحشِ، بعيدًا عن أرضِهم وبيوتِهم وأهليهم. إنهم “الضحية التي جُرِّبت فيها كلُّ أنواع القتل، لكنهم الأعجوبةُ التي لا تموت، ولا تستطيع أن تموت”، ولعل الأدب الذي أبدعه شعراؤهم وكتابهم وروائيوهم هو الدليل الحيُّ الخالد الذي يسجل قصة هجرتهم الاضطرارية ويصور مدى غربتهم القاسية.
مفهوم أدب الشتات
يسميه النقاد المعاصرون “أدب الشتات”، أو أدب الدياسبورا diaspora ويقصدون به أدب المجموعات التي تعيش خارج وطنها الأم، وأصحابه هم الكتاب الذين مارسوا ويمارسون فعل الكتابة خارج أوطانهم ولغاتهم الأم، في وضعية اللا استقرار، وبحس فجائعي، وإحساسٍ بالاضطهاد والخوف والاقتلاع؛ لأنهم يكتبون عن وطنٍ في “الذاكرة” سيستوطن بدوره “الورق”، يكتبون عن أوطان افتراضية، وبحسٍّ عنيفٍ بالرفض، وعدم القدرة على التلاؤم والاندماج في المجتمعات المُضيفة، وحنينٍ ممضٍّ إلى العودة، هنالك يتجلَّى الوعيُ بإشكاليات المنفى العميقة، وتداعياته التي تنشأ بفعل التهجير والنفي القسري، ورحلة الخروج وإشكالية الهوية واللغة، وانبثاق مشاعر الحنين والتذكر، ناهيك عن محاولة بناء متخيَّل طوباوي للوطن، بالتجاور مع بروز سمات السخرية، أو السخط وردة الفعل، وسوى ذلك مما يمكن أن يتخلل آداب الشتات والمنفى، وهو ما سوف يكون له أثره الواضح في مضامين كتاباتهم وصيغتها وأهدافها.
وأدب الشتات بهذا المفهوم يختلف عن “أدب المهجر” الذي نجد أوضح نماذجه في إبداع الشعراء اللبنانيين الذين اضطرتهم الحروب الأهلية والفتن الطائفية إلى الرحيل القسري عن وطنهم الأم بحثًا عن الأمان والاستقرار، فوجدوا ملاذهم في المهجر الشمالي، حيث الولايات المتحدة التي استقر فيها أمثال جبران ونعيمة وأبوماضي، وأنشأوا فيها “الرابطة القلمية”، وفي المهجر الجنوبي حيث أمريكا اللاتينية التي عاش فيها أمثال إلياس فرحات ورشيد الخوري وشكرالله الجر، وشكلوا فيها العصبة الأندلسية، وهناك أصدروا جرائدَ وكتبًا ودواوين، وبرز منهم الشعراء الذين صاروا يُعرَفون في تاريخنا الأدبي باسم “شعراء المهجر”.
ويلتقي أدب المهجر مع أدب الشتات في أن كليهما أدب اغتراب، اضطر إليه أديبٌ فُرِضَ عليه أن يرتحل من وطنه إلى غيره، ولكنهما يفترقان في أن المهجر في أغلبه ارتحالٌ بقرارٍ ذاتي من الأديب، لظروف اقتصادية أو غير اقتصادية، كما هو الحال في شعراء المهجر، أمَّا المنفى فأمرٌ مختلف؛ فهو فعلٌ خارجٌ عن إرادة الأديب ومفروضٌ عليه، إمَّا من سلطة احتلال، أو من سلطة دولة قمعية، البقاء فيها يعني إهدار دم الأديب.
وتشير مادة (شتت) في لسان العرب إلى معاني التفرق والتشعب والانتشار، وتوحي دلالاتها بالبعثرة واقتلاع الإنسان من جذوره ليعيش بعيدًا، أو مبعَدًا، عن أهله ووطنه. وفي المعاجم الغربية يطلق مصطلح الشتات diaspora على أماكن تواجد شعوب أو جماعات مهجَّرة من أوطانها في مناطق مختلفة من العالم، ليصبحوا مشتتين فيها كمجموعات متباعدة، تتفاعل فيما بينها بمختلف الوسائل والآليات للتنسيق ومحاولة العودة إلى أوطانها. وهو مأخوذٌ من الكلمة اليونانية diaspeirein والتي تعني ينثر أو ينتشر.
ومن الصعب أن نقدِّمَ معنى محدَّدًا للشتات ضمن الظروف المعقدة من عمليات النزوح والاغتراب والنفي، والرحيل الطوعي أو الهجرة بحثًا عن الحرية، لقد صارت هناك مجتمعات كاملة تبتعد عن أوطانها، طوعًا أو كَرهًا، وتضطر في كثيرٍ من الأحيان إلى التخلي عن لغتها الأم وثقافتها الأصلية، لتصبح جزءًا من المجتمعات والثقافات الجديدة، مثل الأفارقة الذين يعيشون في فرنسا، والهنود الذين يعيشون في بريطانيا، وهؤلاء وأولئك يتخذون من الفرنسية والإنجليزية لغةً يعبرون بها عن أنفسِهم، يما يتضمنه ذلك من مصاعبَ في التعبير عن الذات وانشقاقات في طبيعة الهوية.
***
رواية “ما وراء الأمل” نموذجًا
وبين يديَّ الآن رواية “ما وراء الأمل” للأديب الإرتري محمد صالح حيدر، وهي واحدةٌ من الروايات التي تُعَدُّ نموذجًا متميزًا لرواية الشتات الإفريقي المكتوبة باللغة العربية. وعادةً ما تشير عبارة “روايات الشتات الإفريقي ما بعد الاستعمارية” إلى الأعمال التي كتبها المهاجرون الأفارقة وأنسالهم منذ خمسينيات القرن العشرين، من أمثال تشينوا أتشيبي في روايته “قرى النمل في سافانا”، وبن أوكري في روايته “طريق الجوع”، وبوتشي إيميتشيتا في روايتها “السفر إلى بيافرا”، وعبد الرازق جورنه الحائز على جائزة نوبل في الآداب، في رواياته: “الجنة” و”ذكرى الرحيل” و”الإعجاب بالصمت”.
لم تكن “ما وراء الأمل” أولَ رواية إفريقية باللغة العربية أستمتع بها قارئًا، أو أقترب منها دارسًا؛ ولكنها أولُ عملٍ سرديٍّ مطوَّلٍ ينقلني بلغته الأنيقة وطريقته الجذابة ومضامينه الإنسانية، إلى عالم “الشتات” الذي تبعثر فيه كثيرٌ من الإرتريين الذين تركوا بلادَهم رغمًا عنهم، في رحلة إجبارية، أو ترحيلٍ قسريٍّ إذا شئت، قذفت بهم إلى بلادٍ غريبةٍ عنهم، حيث وجدوا أنفسهم يعيشون ضيوفًا على هامش البلاد التي لجأوا إليها، وقد يصل بهمالأمر إلى أن يكونون منبوذين أو مضطهدين أحيانًا، ولكنهم سوف يظلون غير مرغوب فيهم طول الوقت.
ولا بأس أن نبدأ قراءتنا لها بعرض موجزٍ لمجمل أحداثها؛ أزعم أنه سيعيننا كثيرًا على فهم بنائها وإدراك غايتها، ولعله يعوض القارئ الذي لم يتمكن من مطالعتها بعض التعويض، وإن كان لا يُغنيه عن ذلك بطبيعة الحال.
ملخَّص الرواية
تبدأ هذه الرواية، وإن شئت فقل إنها ستنتهي، تحت زخات الثلج في يومٍ شتوي باردٍ في أحدِ شوارع السويد، بحوارٍ قصيرٍ بين ناصر وابنه فؤاد، لم يكن للابن فيه إلا سؤاله لأبيه وهو يقتسم معه حمل الثلج بعد أن تحول إلى كومةٍ بيضاء تتحرك:
– وهل تُنزل السماء غير المطر؟
وما كاد الأب يسمع هذا السؤال حتى أخذ يستدعي له كل جوابٍ ممكن؛ وبدا وكأنه لا يجيب عن سؤال ابنه، بل يرد على سؤالٍ لم يُسأل، وخواطر لم تَدُر إلا بذهنه ولا تعيها غيرُ ذاكرته، فيجيبه بأن السماءَ (هل كان يقصد الأقدار؟) تحملُ تحملُ جبالًا من سحبٍ متنوعة تتفتق عن مطر، وأخرى تبعث زَخَّاتٍ من بَرَد وفي بعض الأحيان بارودًا، وثالثة قد تمطر سُمرةَ الأمسيات وظلمات الليالي.
ثم استطردَ يذكُرُ له أن الأمكنة مثل البشر، تتباين وتختلف، ةيسفر عن ذلك في غالب الأحوال إمَّا الاستقرار أو دوامة التجوال؛ بحثًا عن الأفضل، وهروبًا من واقعٍ أسوأ حين ينيخ بثِقَلِه ويجثم على صدورٍ، هي بحاجةٍ إلى رحابةٍ وهواء نقي، في طقسٍ أنظمتُه معتدلة غيرُ متطرفة.
طرق هذا الحديث نافذة الذاكرة التي قفزت بناصر إلى مواقف كان يخالُها انزوت وتلاشت بالتقادم الزمني، غير أنها كانت لا تزال ماثلة، تصاحبه وقد خمل نشاطُها في انتظار لحظة النتوء المناسبة. وهنا أخذ يروي القصة من أولها، ويعود بذكرياته إلى طفولته الأولى.
في مطلع سبعينيات القرن الماضي؛ ذات مساءٍ أطلَّت مقدمة ليل الفراق الطويل برأسها، أحسَّ “ناصرُ” أن أمرًا غريبًا يُنسَجُ خلال تلك الساعات، فالتفت إلى شقيقته الكبرى حليمة متسائلًا: ما الذي يجري؟ فردَّت عليه وهي شاردة: رجاءً يا ناصر، لا تثرثر، هذا ليس وقت الكلام.
وكانت والدته “زهرة” مستغرقةً في عناق أبيها وضم والدتها، التي بدت وكأنها تريد أن تتلاشى في تفاصيلها. وفي غمرة هذا المشهد تنحدر الدموع في صمتٍ، ساعتها سأل ناصر والدته: ما الذي أصاب حدي وجدتي؟ ما بهما؟ فقالت له: لا شيء؛ فقط وددت أن أحظى برضاهما، وهل من العبث أن أقبِّلَ والدَيَّ؟ وهي إجابة لم يقبلها الصغير؛ فالموقف أبعد من أن يُحصَر في بر الوالدَين، وكل شيءٍ ينذر بحدوث أمرٍ غير عادي، فبادر أمَّه قائلًا: لكن أين المرح الذي عهدتُه في صوت جدتي الطاغي حين نجتمع؟ فتظاهرت بالانشغال عنه لَمَّا بدا لها أنها لن تستطيع كبح جماح أسئلته وملاحظاته.
في جانبٍ آخر كان الجيران هم الآخرون يحزمون من المتاع ما خفَّ؛ فالجميع في مركبٍ واحد، يصارعون مشاعر الشوق المبكر وهم يشعرون أنهم إنما يُنتزَعون من صميم أصلهم انتزاعًا، حين قرَّروا التخلي عن أرض تنبض بأوردة بصماتهم. وسرعان ما عاد ناصر إلى والدته وكانت تقبل أباها على مفرق رأسه ويده اليمنى، وكذلك فعلت مع أمها “سعادة قنقو” التي جاء صوتُها مختنقًا مبحوحًا يرتعش من صقيع الفراق: وداعًا، رافقتكم السلامة. ولمَّا سألها ناصر: ما الذي تقولينه يا جدتي؟ وإلام ترمين؟ أشاحت بوجهها مرتبكةً ولم تستطع الرد عليه. وحين التفت إلى جَدِّه الوقور وجد أناملَه ترتعش وهي تداعب عبثًا سُبحته التي لا تفارقه، فتلعثم ليخرج عبارات الوداع بصعوبة:
في حفظ الله وصونه أحبابي، فقط لا تنسَوا أننا الآن هنا، وسنبقى هنا؛ لأن أمكنةً غير هذا المكان لم يعد في واردها أن تتسع لنا ولكم، مهما توشحت ببريق آنٍ مزيَّف، ولا تنسَوا هذا المكان؛ لأنكم منه، والمكان بكم يتسع، وسيزدادُ رحابةً وسعةً لمن يأتون من بعدكم.
كان أكثر ما أثار إعصارَ القلق لدى ناصر هو أن والده “صابر” كان مشغولًا كأنما يتفقد أشياءه الثمينة في زمن وجيز، يمسك هذا ويترك ذاك في حركةٍ دؤوب، فعلم أن الأمر ينطوي على الرحيل، والرحيل أو السفر غالبًا ما يبعث السرور في نفوس الصغار؛ لكنه في تلك الأمسية الموحشة كان يبعث القلق، لأن المجال كان تحت سيطرة الوجوم فضلًا عن غموض الوجهة.
ولم يَكُفَّ ناصر عن السؤال، فأمسك بيد أبيه وقال له: أين ننشُد؟ ولماذا نترك جدي وجدتي والخال والخالات؟ فردَّ عليه أبوه هذه المرة: يا ولدي لقد أطبقَ على البلاد ليلٌ طويل يترصد الحياة ويصيبُها في مقتل، ويقيننا أن الفجر سيمزق أستار الليل وإن طال، نستعد لمغادرة هذا المكان، ننشُد الأمان في مكانٍ ما إلى حين، نغادر الأرضَ الطيبة بعد أن حوَّلها المغتصبون إلى بقعةٍ لا ينبتُ فيها إلا الشوك والصبَّار؛ حيث يتعسر السير فيه على بسطاء مثلِنا.
لم يستوعب ناصر هذه الإجابة، لكنه فهم منها أنهم سيرحلون ويغادرون بعد أن خلَّفوا وراءهم بعض أهم جذورهم. وتذكر والده حياة الفقر والشقاء التي تسبب فيها المحتل البغيض، وكيف أنه أراد لابنه أن ينشأ في بيئة أخرى، أكثر راحةً وأمنًا، فقال له: أنت تستحق حياةً أفضل، وأن توفر لك طلباتك من قبل أن تنشغلَ بها، لكنه العدو يا بني، اعتمد على تجفيف مصادر رزقنا، ليتسنى له وجودُه الغريب، ويبسط على أرضنا أدوات تدميرنا والقضاء على كل ما يمُتُّ إلينا بِصِلة، ليعلن عبثًا فشلَنا، ويمهد لوجوده الشاذ.
ويستطرد والد ناصر في الحديث عن أهل القرية المجاورة، وكيف أباد العدو الغاشمُ عائلاتٍ بأكملها ومحاها من سجل الحياة، ثم تمدد على قريتنا وتعمد وأد البراءة في مهدها، ففتح أطفال القرية أعينهم ليروا والدًا يصرعه العدو أمامهم، وحاملًا يُبقَرُ بطنُها كي لا تضيف إلى رصيد الثورة مولودًا يمتشق السلاح ضده غدًا. حينها أيقن ناصر أن الخطر الداهمَ دومًا يعطل منطق الأشياء، ويفت في عضد سبك الخطة، ويُربك تسلسلها فيجيء تصرفنا على غير هدى.
كان الجميع يحزمون حقائب الشتات، يتلمسون أسباب الحياة في دهاليز واقعٍ محفوفٍ بالمخاطر والموت، ويطلبون في هذا الخضم منطقة الأمان، بعد أن تركوا مرغمين كل شيء ثمين. وشعر ناصر في ذلك المساء أن كل شيءٍ يودع، حتى الكلاب أدركت أن أصحابها يتهيأون لرحلةٍ طويلة، فشيعتهم بأصوات يتحشرج في الجوف بعد أن طغى عليها وجع الفراق.
وعلى بساط طلائع ظلام تلك الأمسية، غادر الجميع القرية عبر وادي “دِرفو”، لينعطفوا يسارًا بالصعود على مسارٍ يُفضي إلى “شِقّريني” على الطريق الرئيسي أسمرا مصوَّع، حيث كان في انتظارهم حافلة تقلهم إلى جراج حجي حسن؛ وودعوا “قُرنقورا” بقندع، وودعوا معها ليالي السمر وكلَّ شيء جميلٍ ألفه الناس هناك وتعلقوا به.
بدأت إذن رحلةُ الشتات، ونزلوا عند قراج حجي حسن في المساء، وأمضوا هناك ليلةً طويلةً قارسة البرد، بلا معاطف أو أغطية؛ فافترشوا الأرض والتحفوا بسقف زنكٍ يقطُر بالندى المشبَّع بالقُرِّ اللاذع، وكأنما يستعدون لمسلسل طويل من المعاناة في طريق أولئك الذين أُرغِموا قسرًا على مغادرة الأرض والتاريخ، تحت وطأة سكين الإبادة والتطهير العرقي.
في فجر اليوم التالي انطلقت الحافلة ستاي غربًا، تنسرب في طريقٍ ملغومٍ بنقاط تفتيش تقرأ على وجوه جنوده الغيظ والكراهية، وعند أول نقطةٍ اشتبه جندي إثيوبي في عبد الله، شقيق ناصر، واقتاده خارج الحافلة، ولولا أن الركاب والكمساري أجمعوا على أنه أصم لذهب به إلى حيث لا يعلمون له مكانًا.
كانت رائحة الديزل تثير الغثيان والتقيؤ عند كل منعطف في المسافة ما بين عَدْ تِكّلزان إلى هَبْرنْقاق، وكان الجنود في نقاط التفتيش ينشرون الرعب بنظراتهم التي تنبعث منها بوادر الموت والفناء، وشعر ناصر كأنما يقولون: اذهبوا إلى الجحيم من غير عودة، المهم أن تَخلو هذه الأرض من وجودكم. وعند الأصيل وصلت الحافلة إلى مدينة بارنتو، وفي فجر اليوم التالي توجهت نحو مدينة تسني، ومن بعدها واصلت القافلة المهاجرة مسيرَها إلى بلدة ستمو، وهناك بقيت حتى حلول الظلام لعبور الحدود؛ حيث تم استئجار الحمير لتعبر بالنساء والأطفال على ظهورها. نحو المنفذ السوداني لتقلهم عربة لوري نحو السودان، ليصلوا بعد ساعات محدودة إلى معسكر اللجوء ود شريفي، حيث استقبلتهم مفوضية شئون اللاجئين، ووقفت على وضعهم واطلعت على أحوالهم.
وفي هذا المعسكر كانت الحياة على موعدٍ غير مرغوب فيه مع الموت؛ فثكلت الأمهات فلذات أكباها، وترملت النساء، ومات المسنون، وقضت أسرة بكامل أفرادِها، وكان الناس يلازمون المقابر، حتى في جوف الليالي على ضوء مصباحٍ خافت، بالكاد يضيء حول الحفرة، حيث تتابعت مواكب الجنائز.
وبعد مُضِيِّ عامٍ في معسكر ود شريفي، كان الترحيل بالقطار إلى معسكر جديد في منطقة الرهد؛ حيث قام موظفو مفوضية اللاجئين بتوزيع مقدار قبضة من التمر لكل فرد، هي زاد الطريق إلى قلع النحل، حيث عاشوا هناك حياةً ليست بأفضل من سابقتها،وتكفل نهر الرهد بتنغيص حياتهم، فقد غيَّب في جوفه أفرادًا منهم، وأسكنهم في قراره العميق، ثم لفظهم إلى البر حيث ينتظرهم رقادهم الأبدي. وهناك أيضًا كانت أسَرٌ كاملة تلازم الفراش وتقاسي آلام الروماتيزم، وقيل إن السبب في ذلك يكمن في مواد الإغاثة التي لم تتناسب ونظام اللجئين الصحي، فقد نشأوا على الأغذية الطبيعية الطازجة، عكس الزيوت والبقوليات والمعلبات والحليب المجفف والدقيق الأسترالي. ولقد كان مخيم بحر هو الآخر مؤقتًا للعبور، مكثوا به عامًا، انتقلوا من بعده إلى المحطة الأخيرة، في معسكر دهيماء، وهو آخر مخيم للتأهيل في مشروع إسكان اللاجئين بسَمسَم، حيث غرزت القافلة أوتاد رحالِها.
شرعت الأسرُ في التأسيس لحياة الاستقرار شيئًا فشيئًا، وفي بعض الأوقات كانت تنشب صراعات ويندلع عراكٌ بين اثنين من الصبيان، وقد يتطور الاشتباك أحيانًا إلى شجة في الرأس أو كسرٍ في اليد أو تمزيق قميص، لكن ذلك لم يمنع ناصر ورفاقه من المتعة العاطفية واللهو البريء في منتدى العشاق، حيث تفتحت مشاعر الحب الأولى، هناك في ساعة اللقيا؛ إذ تذوب المشاعر وتفر المفردات وتزيد نبضات القلوب، وينطلق المحبون في فلك يسبح بخيالهم إلى عوالم تتقاطع في منعطفاتها أجمل الخواطر.
وفي هذا المعسكر أقام لهم الأستاذ موسى أول مدرسة، وأكد لهم أن الحاجة إلى التعليم كحاجة النبات للضوء، وبه تنمو العقول وتزدهر الأفكار، وكان تأثيره في حياة الصغار الناشئين كبيرًا وعميقًا، وكان ناصر أول من تأثروا به؛ فقد نشر هذا الأستاذ شعاع العلم والتعلق به في أرجاء المنطقة، ونقل عدوى حبه للتعليم لكثيرين من الآباء الذين لمسوا فيه روح الإخوة الصادقة، ليضع الجميع على مدار جادة الطريق، وقد وجدت دعوته الإقبال في الأمسيات في ذلك الكرنَك لمحو الأمية التي كان معظمهم ينطقها “نحو الأمية”، فيصوبهم الأستاذ مبتسمًا: نحن نمحو الأمية، ولا ننحو إلى الأمية.
وفي الخريف فقد ناصر والده الذي غادر هذا العالم متأثرًا بضربةٍ على أذنه، كان قد تلقاها من أحد الجنود الإثيوبيين الذين كانوا يزرعون الموت بالجملة في أركان البلاد. وظل الوالد منذ تلك الضربة القاسية يتحاملُ على الوجع، إلى أن تدهورت حالة أذنه، وساءت حالته الصحية في ظل غياب تامٍّ لأي مرفق صحي في المخيم. وودع الجميع ذلك الرجل الذي كان مِلْحَ المناسبات الاجتماعية، بشوشًا لم يقطِّب يومًا جبينَه في وجه أحد، كما كان يمتلك أدوات الحل للخلافات التي تنشب عادةً بين أفراد المجتمع.
وفي هذا المعسكر ارتبط الخريف دومًا بالصواعق والزواحف الخطرة من الأفاعي القاتلة والعقارب والحشرات، وكان ذلك مبعث خطر شديد، أثار الرعب والقلق في نفوس أغلب سكان المعسكر؛ وكانت الثعابين سببًا في موت كثيرين، وقد تعرضت إحدى الفتيات للدغة ثعبان كمنَ لها خلف منزلها، فانفجر كبدها وتقيَّأت دمًا من فمها وماتت في الحال. أمَّا البعوض فقد كان وراء انتشار الملاريا، ولا يزال ناصر يذكر العم صالح وهو يرتعش من الحمى ويشعر بآلام في المفاصل ومرارة في الحلق، وفقد شهية الأكل، وراح يتصبب عرقًا ويهذي بعد أن فقدت غرفة التحكم في رأسه السيطرة على المنطق المألوف.
وبعد أربعة أعوام فكَّرَ رمضان شقيق ناصر في استثمار ذكاء أخيه ورغبته الجامحة في التعليم، فكانوا يستدعونه في الاجتماعات التنظيمية ليقرأ لهم بيانات عسكرية وتعميمات وإصدرارت دورية، وكان الحادي عشر من نوفمبر سنة ستٍّ وسبعين وتسعمائة وألف، منعطفًا في مسيرة ناصر؛ إذ كان عليه أن يخوض تجربةً طالما كان توَّاقًا لها، فلقد عرض عليه أخوه أن يكمل دراسته، ولو اضطره هذا إلى أن يتكبد مشقة السفر والغربة؛ فالعلم قيمةٌ كبيرة يهاجر المرء في طلبه لأبعد مكان، وهو سلاحٌ لا يُهزَم صاحبه، ورفيق العمر الذي لا يخذل قرينه أبدًا ولا يتخلى عنه البتة.
ولم تمضِ أيامٌ حتى التحق ناصر بمدرسة في ديار العم طاهر، وقُبل في الصف الثالث، وبدأ مشواره التعليمي، وجلس لأول مرة على مقاعد دراسة نظامية، منضدة خضراء تتسع لثلاثة تلاميذ، ولكلٍّ واحد منهم درجٌ يضع فيه أغراضَه. وبدأ في بناء علاقات مع أصحاب ورفاقٍ جدد، وشيئًا فشيئًا شعر بأنه واحدٌ من الطلبة الذين عُرفوا بالتميز في المدرسة خلال فترةٍ وجيزة.
حصل ناصر على الشهادة الابتدائية، والتحق بمدرسة قلع النخل المتوسطة، حيث كانت النقلة النوعية والمرحلة المفصلية في مسيرة تشكيل الوعي والحس الوطني، وقد عمل سكرتيرًا للخلية التي انتمى إليها، وتدرج في العمل النقابي وتحمل مسئولية الدفاع عن الحق المشروع، وعدالة القضية الإرترية التي تعرضت لظلم تاريخي، كان نتاجه الاستيلاء على وطن الآباء والأجداد.
اشتهرت المدرسة بالإضرابات تلو الأخرى، وقد لعب بعض المعلمين دورًا في ذلك، لتحاملهم غير المبرر على الطلاب الإرتريين، ومرَّ عامان تخللهما عدد من الإضرابات، جعلت ناصرًا يفكر في تغيير هذه المدرسة، وهذه المرة كانت وجهته إلى مدرسة الشوك المتوسطة التي يدرس بها بعض زملائه الذين انتسبوا لها من مدارس ابتدائية مجاورة، لكن مديرها رفض أن يلتحق بها طابٌ من قلع النحل، الذين كانت سمعتهم تتلخص في أنهم مثيرو الشغب والمشاكل والاضطرابات، بينما كان الواقع على النقيض من ذلك بكثير.
انتقل ناصر بعد ذلك إلى المرحلة الثانوية، وتم قبولُه في مدرسة الفاو النموذجية، وقد مرَّ في تلك الفترة بظروفٍ قاهرة وقاسية، فكان يمضي يومه في الغالب على وجبة واحدة، واضطرَّ أن يخدم بدون مقابلٍ مع صاحب متجرٍ إرتري لقاء السماح له بالإقامة معه، ومرت سنوات ثلاث بدت ثقيلة كما لو أنها كانت تسير بخطى السلحفاة، كان ناصر خلالها يرصد نبضات ثوانيها بدون مبالغة، لكنها انتهت حين فاز بمنحة دراسية إلى ليبيا، وكانت من أهم العلامات الفارقة في مسيرته، ولم يشأ ناصر إشاعة الخبر للتحوط، حتى يصبح أمام الأمر الواقع، وهو ما لم يمكنه من وداع أسرته اضيق الوقت حين طُلِب من الذهاب إلى الخرطوم لاستكمال إجراءات السفر إلى ليبيا.
كانت ليبيا هي الانتماء وخطوط التقاطع لطلاب إرتريين عاشوا في كنف شعبها الطيب، حياة لم تكن على درجة من الرفاهية بكل تأكيد، ولكنها كانت مهمة، ولها مذاق خاصٌّ محبب إلى النفس. كانت دراسته في جامعة قاريونس أجمل الفترات الدراسية في حياته، التجوال بين المكتبة وقاعة المحاضرات، رغم الظروف المادية التي حرمته من معرفة موقع الكافتيريا في الجامعة.
أكمل ناصر تعليمه الجامعي، وحظِيَ بموافقة القسم الذي تخرج فيه لمواصلة دراساته العليا، لولا أن حالت الظروف بينه وبين أن يكمل السير في هذا الطريق. لم يشعر ناصر بالخيبة جراء ذلك، وحسم أمره مقتنعًا بأن الحياة مستمرةٌ ولن تتوقف عند ذلك الحد، غير أننا كبشرٍ نتعلل دومًا بأسبابٍ واهية لنلقي عليها باللائمة. واتجه إلى مكتب التعليم في أوباري، وتم توجيهه إلى مقر عمله الجديد، حيث كان على موعدٍ بالعمل معلمًا وسط مجتمعٍ عاش في كنفه بحفاوة بالغة ست سنوات مرَّت عجلَى، وكان يشعر في بعض الأوقات أنه صار أحد أفراد ذلك المجتمع اللطيف، إذ كانت العوينات تاجًا يزين أجمل مراحل العمر والعطاء، فقد كانت بحقٍّ واحدةً من أهم المحطات في ليبيا، اجتمع فيها بزملاء يملأون خانة الأخوة الشاغرة، وتوثقت عُرَى الصداقة المتينة بينه وبين إخوة سودانيين ومصريين، تطورت إلى علاقات بين بعض الأسَر فيما بعد.
في هذه الأثناء كشف السعدُ عن ثغره الباسم للثائر الإرتري، فرُسمت راية الاستقلال والتحرير مضمخةً بغوالي التضحيات. وكان على ناصر أن يتخذ من القرارات أصعبَها، وهي العودة الطوعية إلى أرضٍ كان جدُّه قد أوصاهم بالعودة إليها، رغم أنه يعلم علم اليقين أن الحياة في وطنٍ خرج لتوِّه مكلومًا ينزف لن تكون سهلةً أبدًا؛ لكنها ضريبة الوطن، وهي دومًا غالية.
وقبل أن يعود إلى وطنه سافر أولًا إلى السودان، وقصدَ إلى منطقة سمسم ودهيماء، حيث لم يجد شيئًا مما كان على حاله: اختفت الطرقات، واندثر السوق العامر، وأغلقت المحال التجارية والمقاهي، ولم يبق أحدٌ من السكان القدامى، ومن تبقى انتقل إلى مناطق أخرى. المنطقة كلها أوشكت أن تكون أثرًا بعد عين، وأطلالًا تهيج ذكريات الأيام الخوالي، في لحظات قاسية ومؤلمة، حين تأتي إلى مرابع الصِّبا ثم لا تجد أحدًا سوى المكان الذي يضوع بنفَسِ الأمس الذاهب.
رجع ناصر مرة أخرى إلى ليبيا، ومنها إلى تونس، حيث بدأت رحلة الطائرة المتجهة إلى أسمرا، ولم يكن يغالي حين قال إن نسمة الوطن تسللت إليه منذ أن جلس على كرسي الطائرة وشرع في ربط حزام الأمان، وكانت لحظات تفوق كل إحساسٍ جميلٍ، حين أنشأت الأقدامُ ترسم أولى الخطوات على الأرض الغالية، بعد طول ليالي الفراق؛ إذ كانت لحظة العودة إلى وطنٍ كافح من أجله، بعد أن تعرَّف عليه في أطلس العالم.
تمَّ استقبال ناصر ورفاقه في معسكر حزحز، ومن هناك انطلق كلٌّ منهم إلى وجهته، وأمضى ناصر يومين في مدينة قندع، واتجه بعدها إلى قُرنقورا، تلك القرية التي كان طيفُها يطارده طول أعوام الفراق، وتجول مع خاله في أنحائها، وتذكر كل تفاصيلها المحفورة في ذاكرة القلب، لكنه وجد الأرجاء التي كانت عامرةً خاليةً، تُصَفِّر الريح في أركانها، كأن لم يقطنها الناس من قبل:
كأن لم يكن بين الحَجونِ إلى الصفا أنيسٌ ولم يَسْمُر بمكةَ سامرُ!
وبعد أن عمل ناصر مدرسًا في المعهد لمدة أربعة أشهر، انتقل ليعمل في مجال الصحافة، وكانت في ذلك الوقت لا تدر دخلًا كبيرًا ولا تؤمن حياةً رخيَّة؛ لكنه كان يتعامل مع الواقع بصورة مثالية، متخذًا من الثائرين المخلصين قدوةً؛ فكان زاهدًا إلا في البذل من أجل الوطن، ولم يرهق نفسه بأحلام خرافية، وأقبل على وظيفته الجديدة التي أحبَّها وأخلص لها، وتعلَّمَ فيها الكثير؛ فالوضع كان يتطلب العمل بتفانٍ للوقوف بصلابة المناضلين أمامَ الدوائر التي كانت تتربص بالبلد ككيانٍ متسق، دوائر بات من طبعها الموروثِ أن تسطوَ على ما عند الآخر.
في تلك الفترة تعرَّف ناصر على جار له اسمه أيوب (وهو مقترنٌ بالصبر كما نعرف)، حكى له أن أباه الحكمدار (وهو هنا رمز للقوة المتسلطة الباطشة) يعامله باستخفاف شديد، ولا يثق في قدراته، ولا يسمح له باستخدام سيارته أو أي شيءٍ من أشيائه، ويطلب منه أن يكون نسخةً مكررة منه، ويكرر عليه أن الأبوة يقضي أن يتفانى في خدمته، وأن عليه أن يتقبل ما يتفضل به عليه، وأن يطيعه في كل أمر؛ لأنه لا يزال قاصرًا، وأمامه المشوار طويل، وفد يأتي يومٌ وينال فيه رضاه.
ورأى ناصر في شخصية الأب “الحكمدار” هذا، صورةً لكل صاحب سلطة في البلاد، فولاة الأمر لا يثقون في الشعب، ولا يطمئنون إلى الشباب، وأدرك هو ورفاقه أن أمثاله في البلد كثيرون؛ فعند كل صباحٍ وليدٍ تكبر سطوة “الحِكمدار)”، الذي يتمدد عند كل منعطفٍ في تعقبهم، يحاسبهم حتى على ما يدور في خلَدهم، ويطاردهم حتى في خلَواتهم، ويريدهم صَكًّا على بياض، يوقع عليه واجبات مجردة من حقوق.
ضاق ناصر بهذا الوضع، ولم يكن لديه طاقةٌ لتحمله، ولا قدرة على تغييره، وبعد شدٍّ وجذبٍ عنيفين مع نفسه، استقر على أن الرحيل عن الوطن مرةً أخرى هو الحل، وهو الخلاص من هذا السجن الواسع الذي تقتل فيه الآمال وتداس كرامة الإنسان تحت النعال. وكان لزامًا عليه أن يشرك رفيقة حياته في الأمر، وظنته يمزح معها، وحاولت أن تثنيه عن عزمه، لكنها وافقته في النهاية وتقبلت فكرة الفرار على مضض؛ وخاصةً أنها تعرف بعضَ ما يتعرض له ناصر من مضايقات ضمن موجة المعاناة العامة، وأنه لم يتنفس نسيمَ الحرية التي عاد فرِحًا بها، متشوقًا إلى مصاف حياةٍ تجاور الثريَّا لقاء غوالي التضحيات.
ساعتها قال ناصر في أسى وهو يودع قريته معتذرًا إليها: عفوًا أيها الدار، أُشهِدُ الله كم أحبُّك، لكنني أستميحك عذرًا؛ فقد استنفدت آخر ما ادخرته من صبر، ولن أحمِّلَ النفسَ أكثر من طاقتها. لست على استعدادٍ أن أعبد صنمًا لا يجلب سوى دهاليز التيه في أتون الحرمان والقمع، هذه المرة أخفقت مثل كثيرين في إيجاد دار تتسع للجميع ولا تكون حكرًا على مسمى محدد، ولا فصيل بعينه.
مرة أخرى وجد ناصر نفسه مضطرًا إلى الهجرة عن وطنه، وكأن الماضي يأبى إلا أن يعيد نفسَه، مع فرق الأسماء والتفاصيل، وإن كانت النهاية الفاجعة واحدة، حيث يجد المرء نفسه منفيًّا عن وطنه، مبعَدًا عن أهله، مقتلعًا من جذوره وذكرياته، لكن البون شاسع بين المرتين؛ ففي المرة الأولى كان صبيًّا رفقة أبيه وأمه، هروبًا من المحتل الدخيل، والأخرى فرارًا من الحكمدار والد أيوب: وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ.
كانت الرحلة هذه المرة معقدةً ومخيفة، من محطة عداقا حموس، حيث استقل هو وولداه فؤاد ومراد حافلة، وزوجته وابناه عماد ومرح حافلةً أخرى، وانطلقت الحافلتان في الخامسة والنصف صباحًا نحو مدينة تسني، ثم بدأت مغامرة الفرار الكبرى عبر الظلام والأمطار والفيضان والخوف من الوقوع في فخ حرس الحدود، والمشي في الوحل قرابة سبع ساعات، خاض خلالها ناصر واديًا فأصابه الدوار، وقد نسيَ ابنه الأوسط الذي كان يمسكه بيده وكادت مياه الوادي أن تقتلعه من يده لولا عناية الله.
وبعد جهد السفر ومشقة مواجهة الأخطار، التأم شمل الأسرة في معسكر شجراب للاجئين، وبدأت رحلة البحث عن الأمن والاستقرار، بعد أن تعذر في الوطن الذي عاد إليه ناصر مسلحًا بإرادة الإسهام في معترك البناء، ففوجئَ بأنه يحرث في البحر لتحقيق أمانيه. وأخيرًا تحقق حلم الهجرة؛ وقُبِل ناصر وأسرته في برنامج إعادة التوطين بالسويد، فارتفع سقف التفاؤل بالعيش الكريم. ولم يتفاجأ ناصر عندما وجد بالسويد بعض رفاق المسيرة، وإلى جانبهم أولئك الذين اختنقوا من القهر بعد ملحمة التحرير المشهودة التي دوَّنوا فصولَها بدمائهم، وكانت عاقبة أمرهم المنافي.
ومهما يكن فإن ناصرًا يؤمن بأن ليل الاستبداد الحالك، وإن بدا عاتيًا إلى حينٍ، فإنه لا محالة ستُفقأ عينه بأصابع المقهورين الذين لم تكسرهم صخور الذل الصمَّاء؛ بل سيشقون من جوفها شعلة مهرجانِ فجرٍ وإن بدا متعثرًا فإنه حتمًا سيعانق آمالَهم.
ثم تنتهي الرواية عند النقطة التي بدأت منها، وربما في المكان نفسه، حيث يقول ناصر لابنه فؤاد:
– وعندها سنلتقي حتمًا على سارية تلك المدينة، نغزل رايةً مطرَّزةً تعانق أحلامنا يا ولدي فيقاطعه فؤاد: ولكن…
***
إطلالةٌ على الرواية
قلتُ من قبلُ في دراسةٍ لي: إننا حين نقرأ روايةً ما، يصبح من الضروري أن نُعنى بمجموعةٍ من العناصر الأساسية التي تشكِّلُ بنيةَ أيِّ نصٍّ سردِي؛ (الرَّاوي ـ الحدث الروائي ـ الزمان والمكان ـ الشخصية الروائية)، وكثيراً ما كنتُ أوجِّه طلابي الذين يحبون قراءة الروايات، أو يريدون أن يشتغلوا بدرسها ونقدها، أن يمسكوا معهم بورقة وقلم، ويدوِّنوا كل ملاحظاتهم وتعليقاتهم أولًا بأول، وأن يسجلوا أسماء الشخصيات التي تقابلهم، وما تقوم به من أحداث، وأن يقسموها في النهاية إلى شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية، وهذا يتوقف على الدور الذي تلعبه كلُّ شخصية، سواءٌ أكان محوريًّا أم هامشيًّا، وما تشغله كل واحدةٍ منها من مساحة، وأن يحدِّدوا موضوع الرواية وزمانها ومكانها، وأن يلتفتوا إلى الأسلوب الذي يكتب بها الروائي؛ هل هو أسلوبٌ درامي أم غنائي أم سينمائي؟، وما طبيعة الإيقاع في الرواية؟ هل هو سريعٌ متلاحق، أم بطيءٌ متثاقل؟ وما التقنيات التي يلجأ إليها الروائي في عرض حوادث روايته؟ هل يغلب عليها السرد أم يشيع فيها الحوار؟ ما نصيب الرمز في الرواية؟ وما حظ الإسقاط النفسي أو السياسي فيها؟ ثم أخيراً وليس آخرًأ، ما نوع هذه الرواية (تاريخية، اجتماعية، بوليسية، عاطفية، تسجيلية، سياسية، أسطورية، تحليلية، رواية خيال علمي، رواية أجيال..)، وماذا يريد الكاتب من ورائها؟ أما قراءةُ ما بين السطور، والتكهن بما وراء الكلام، ومحاولة الوصول إلى المسكوت عنه، فهي أمورٌ لا يجبُ أن تفوت القارئ النبيه، بشرط ألا يسرف فيها، وألا يجمحَ به الشطط في التفسير والمبالغةُ في التأويل، فيحمِّلَ النصَّ فوق ما يحتمل، ويذهبَ بالعمل الأدبي إلى غيرِ وجهته، أو إلى حيثُ لم يُرد له صاحبُه أن يذهب.
طبعًا لا يمكننا في هذه السطور العجلَى أن نتوقف عند ذلك كله، ولكننا سوف نتوقف عند ما يمكن أن يضيء الطريق للقارئ ليلج العالم الروائي للأستاذ محمد صالح حيدر، وأن نأخذ بيده إلى ما يعينه على فهم بعض خصائص الرواية وتذوق أسلوبها، وقديمًا قالوا: «حَسْبُك من القلادة ما أحاط بالعُنُق».
الراوي/ البطل
يقول الكاتب والناقد الفرنسي “آلان روب جرييه” Alain Robbe-Grillet إن الراوي هو العليمُ بكلِّ شيء، الموجود في كل مكانٍ في نفس الوقت، الذي يرمق في اللحظة ذاتها الأشياءَ يَمنةً ويَسرة معًا، ويرى باطنَ الأشياء وظاهرَها، وهو الذي ينقل لنا الأحداث ويحكيها بكل تفاصيلها. ويذهب النقاد إلى أن الراوي غالبًا ما يكون من صنع المؤلف، وفي هذه الحالة يكون موقعه داخل النص، على أنه قد يتماهَى مع إحدى الشخصيات النصية، وقد يتقمص دور المؤلف إلا إنه يعمل على إلغاء دوره وإخفاء معالم وجوده، فهو يقع وسطًا بينهما، بين المؤلف والشخصية، والوظيفة الأَساسية التي يقوم بها لتمييزه هي الكلام.
ولا يحتاج القارئ لرواية “ما وراء الأمل” إلى جهدٍ كبير لكي يدرك أن الراوي هو البطل، وهو المؤلف نفسُه، وتوشك الرواية كلُّها أن تكون ترجمةً ذاتية لصاحبها، الذي تدلنا السطور التي عرَّفت به في آخر الرواية على أنه إرتري مقيمٌ في السويد، وأنه حصل على ليسانس الآداب والتربية من قسم الجغرافيا بجامعة قار يونس الليبية، وأنه عمل معلمًا في ليبيا ست سنوات، وصحفيًّا في إرتريا أربع عشرة سنة، وهذه كلها صفات تنطبق بتمامها على بطل الرواية.
وهو من أول الرواية إلى آخرها شخص طيبٌ مسالم، وذكيٌّ مغامر في الوقت نفسه، يحب رفاقه كلهم، ولا يحمل ضغينة لأحد منهم، وإن كان يضيق ويتأذى من تصرفات بعضهم أحيانًا، كما نلاحظ في حديثه عن زميله عبده مثلًا.
وهو وفيٌّ رائعُ الوفاءِ لأساتذته وأصدقائه، وخير دليل على هذا حديثه الصادق عن الأستاذ موسى وتأثيره في ناشئي القرية وشبابها ورجالها، وحديثه عن عُمَرَ، زميل دراسته الذي كان موهوبًا في نظم الشعر ومدى إعجابه به وحبه له، وزميله الآخر الذي كان يسبقه إلى المركز الأول دائمًا، في اعتراف مباشر يدلُّ على نقائه وبساطته، وأنه ليس معقدًا ولا خبيثًا. وهو ما نجده في حديثه عن شقيقه الأكبر الذي لعب دورًا محوريًّا في توجيهه وتشجيعه.
وهو مناضلٌ ثوري، وإن كان لا يفضلُ القوة في أخذ الحق، ويرى أن لاسترداد الحقوق طرقًا كثيرة، وأن النضال قد يكون بالكلمة مثلما يكون بالبندقية، وقد جاء هذا صريحًا في بعض المواقف حين قال: إن “الاشتباك بالأيدي يعني تعطيل ميزة العقل الذي نلجأ إليه في خاتمة المطاف، بعد أن خسرنا أمورًا كثيرة نتيجة الطيش والتهور، سرعان ما تعقبه الحسرة، فلماذا لا نعتمده منذ البداية وهو ما يميزنا عن سائر الأحياء؟”.
وهو جَلْدٌ صَبورٌ، يتحدَّى الشدائدَ ويصمُد أمام النائبات؛ وقد “وطَّن نفسَه على أن يحتملَ مدَّ الأقدار وجزرها، ويشتد عودُه ويقوَى كلما حاولت جحافل الإحباط التسلل إليه؛ إذ كان على يقينٍ بأن التحدي يكون على قدر الغاية، وأن الغاية لا يبلغها سوى الصامدين”. ص 179.
الزمان والمكان
في رواية الشتات، لا يثبت شيءٌ على حاله، وأكثر ما فيها يتبعثر ويتشظَّى، فإذا كان المشتَّتُ طريدًا، أو مطاردًا، وجد نفسه بين عشية وضحاها بلا مأوى أو طعام، يتنقل غريبًا في الطارئ من الأمكنة والأزمنة، ويعيش على حافة الثقافات الأجنبية، يتهدده قلق الغياب المادي والمعنوي، فإن كل العناصر الروائية التي يدور فيها ويتجلى من خلالها مشتتةٌ هي الأخرى؛ فإن الأرض والمنزل والأشخاص تتعالق بأزمنتها وأحيازها، وحين تتبعثر هذه الأشياء تتبعثر معها أزمنة المكان، والإنسان، وحتى الحلم.
وفي هذه الرواية سوف نجد القارئ مشتَّتًا بين أماكنَ متفرقة، وكأنما تتقاذفه وتلهو به، فنجده مرة في قريته الإرترية الصغيرة، ومراتٍ في الملاجئ التي يُرحَّل من أحدها إلى الآخر وكأنه قطعة شطرنج يحركها اللاعبون ولا تملك من أمر نفسها شيئًا، ثم نجده في السودان وليبيا والسويد. يبدأ قصته وهو كهلٌ جاوز الخمسين، ثم يرتد بنا إلى طفولته وهو حول الخامسة، ويظل يشدُّنا وراءه في دوامة الزمن أمامًا وخلفًا، حتى ينتهي بنا إلى النقطة التي بدأ منها.
وبطل الرواية، أو كاتبها بصورةٍ أدق، كان على وعي تامٍّ بهذا كله؛ فهو يقول: إن “الأمكنة مثل البشر، يختلفون في لون البشرة والثقافة والمعتقدات والأمزجة والأنظمة السياسية، الأمكنة كذلك تتباين وتختلف، ويسفر عن ذلك في غالب الأحوال إما الاستقرار أو دوامة التجوال؛ بحثًا عن الأفضل وهروبًا من واقعٍ أسوأ، حين ينيخ بثِقَله ويجثم على صدور، هي بحاجةٍ إلى رحابةٍ وهواء نقي، في طقسٍ أنظمته معتدلة غير متطرفة”.
مفارقة الوطن
يذهب دارسو الشتات إلى أن أولى معالم الإحساس بالشتات الرفض الكامن المتولد في لا وعي المشتت، جراء ما حصل، فهنالك الصدمة التي تنتج بفعل ذلك الاقتلاع المفاجئ وغير المبرر. وهنا نجد أنفسَنا في مواجهة الحدث الأكبر في رواية الشتات على وجه الإجمال، وفي هذه الرواية على وجه التحديد، وهو ذلك الارتطام الذي يشعر به البطل المشتت حين يفارق وطنه، حتى لو كان لإرادته نصيبٌ في هذا، فرارًا من الظلم والطغيان والإقصاء.
ويذهب بعضُ الدارسين إلى أن النصَّ لا يمكن أن يكونَ معبِّرًا عن أدب الشتات، ما لم يشرع باستعادة “رحلة الخروج”؛ إنها من أهم الثيمات themes أو الموضوعات، أهميةً في أدب الشتات، كونها تنهض على فعل التأمل الذي يتبدَّى على شكل محاولات لإدراك حقائق ربما تكون صادمة، منها فقدان المنزل بتكوينه الأوَلِي، ومن ثَمَّ الوطن كمرحلة لاحقة. ساعتها يتفجَّر سؤالُه الوجودي القاتم: لماذا ساق القدرُ “الإنسانَ المشتت” لأن يكون لاجئًا طريدًا وغريبًا، في حين أنه وُجِدَ في بيت ووطنٍ شأنُه شأن أيِّ إنسانٍ على هذه الأرض؟
ويبدو، كما يقول البطل، أن هذا قدرُ الإرتري، مكتوبٌ عليه أن يتعلق بأرضٍ وشعب، ثم يغادر لوجهة أخرى، فقد بات الترحالُ توقيعًا على صفحة بيضاء يسجل فيه الأمكنة؛ فيرفع من رصيد معارفه أينما سار وحل، ولعل ذلك من زاوية أخرى مكسب إنساني عظيم بكل محاسنه ومآخذه”. ص 149.
= يذهب إدمون جابيس Edmond Jabès، وهو شاعرٌ فرنسي من أصل مصري، إلى أن تجربة الشتات شبيهةٌ بتجربة الصحراء؛ حيث يحيا الفرد بين السماء والرمل، وبين الكل والعدم، ويحمل صحراءه معه كالمترحِّل. والبطل في هذه الرواية يستحضر وطنه بكل تفاصيله، ويستعيد ذكرياته فيه برغم مواجعها، ولعل الرواية كلها قد كُتبَت لتكون بمثابة صورة فنية للوطن، أو تمثالًا جميلًا من المفردات الآسيانة والمعاني الشجية.
ولا يحملُ البطلُ صورةَ الوطن في قلبه وعقله فحسب؛ بل يراوده دائمًا حلم العودة إليه، وهو ما نجده في أول الرواية حين قال الجد لهم وهم يحزمون أمتعتهم استعدادًا للرحيل: ” في حفظ الله وصونه أحبابي، فقط لا تنسَوا أننا الآن هنا، وسنبقى هنا؛ لأن لأن أمكنةً غير هذا المكان لم يعد في واردها أن تتسع لنا ولكم، مهما توشحت ببريق آنٍ مزيف، فكونوا على يقظةٍ، ولا تنسَوا هذا المكان، لأنكم منه، والمكان بكم يتسع وسيزداد رحابةً وسعةً لمن يأتون بعدكم. ص 16
كما نجده في آخرها أكَّدَ قال البطلُ نفسُه أن البلد المضيف ليس بوسعه أن يمحوَ ندوبًا نحتَها البلدُ الأمُّ بإزميلِ الجَور أخاديدَ على النواصي، وقال: “إن ليلَ الاستبداد الحالك وإن بدا عاتيًا إلى حين، فإنه لا محالةَ أن تُفقأَ عينُه بأصابع المقهورين الذين لم تكسرهم صخور الذلِّ الصمَّاء؛ بل سيشقون من جوفها شعلة مهرجان فجرٍ، وإن بدا متعثِّرًا، فإنه حتمًا سيعانق آمالَهم”. ص 180/181.
ولعل من أطرف صور استحضار الوطن، من وجهة نظري، حرصَ الراوي (البطل / المؤلف) على تسجيل بعض الأمثال الشعبية والعبارات بلغة الساهو، وهي اللغة التي يتحدث بها أهلُ بعض المناطق في إرتريا، وبلهجات أخرى غيرها، كما جاء في سياق كلامه عن الصغار الذين بدأوا في ود شريفي بدراسة الحروف الهجائية على يد الشيخ موسى: ألِيف تُمالي، باء قُباكو تِيا لِ، تاء أقَناكو لَمَّا لِ.. إلخ. ومعناه (الأمر يتعلق بالحروف الهجائية: حرف الألف لا نقطة له، الباء له نقطة تحت، التاء له نقطتان من فوق… إلخ). ص 45 ومثل قوله: “مدرسة دين أفرسا” أي المدرسة تهدم دور تعلم الدين ص 65 وقوله” كلكم ناس المعسكر دا الله يقرضكم شت. يعني (الله يقتلكم عن آخركم) ص 90 وقوله: “إنكَتا دَحيني، إنكتا ظُهْر، إنكتا كَسو.” أي حبة صباحًا، حبة عند الظهر، حبة في المساء. ص 97 وقوله في حديثه عن الكدير الذي كان يغني بالتقرايت (التيغرينية) بداء مصبوغٍ بالطرَب: “لالوي وَلَتْ كَرَنْ ظَعْداتا” أي: يا ويلي من حسناء مدينة كرَن، ست الحسن والجمال. ص 114.
بين البداية والنهاية
توشك حياة بطل الشتات أن تكون حركةً في دائرةٍ مفرغة؛ لا يُدرَى أين طرَفاها؛ وهو ما صنعه الكاتب بوعي أو بغير وعي، حين جعل نهاية الرواية تشبه بدايتها؛ وهو ما أشرت إليه من قبل، ولعله يذكرنا بما صنعه نجيب محفوظ من قبل في فيلمَي (الفتوة) و (بين السماء والأرض)، وهما مأخوذان عن قصتين له أيضًا، وما فعله الأديب الإرتري المبدع هاشم محمود في روايته “كولونيا الجديدة” وقد قدمتُ لها بدراسة مطوَّلة، وهو ما نجد مثله الأرقى في سورة (يوسف) التي بدأت بقول يوسف لأبيه ” يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين”، وانتهت بتحقق هذه الرؤيا حين رفع أبويه على العرش وخرُّوا له سُجَّدًا، “وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا”.
وفي الوقت الذي بدأت فيه أحداث الرواية برحيل والد ناصر وأسرته ووصية الجد لهم بضرورة العودة إلى أرض الأجداد، انتهت أيضًا برحيل ناصر نفسه هو وأسرته، وتأكيده لابنه حتمية العودة مهما طال ظلام ليل الفراق. وهو ما تؤكده هذه الفقرة الدالة التي جاءت في صفحاتها الأولى:
“هنا سأردد عليك ما قاله لي أبي، وأبي قاله له ذلك جدي يا فؤاد؛ إن ما يربطنا بتلك الأرض أكبر من أن نختزله في كلماتٍ محدودة؛ ذلك لأنها عشقُنا الأبدي، الذي لا بدَّ أن نبقى له أوفياء. ربما افتقدنا يا بني أدوات بسببها غادرنا، وأتمنى أن تكون في مقامي مع ابنك يا فؤاد، ولا أريد أن يكون حظُّ أدواتنا المفقودة قابعًا في أرفف الحكاية والسرد فحسب، هنا شيءٌ واحدٌ: أريدك أن تعلم أن جدي وأبي ما كانا مستكينَين؛ فقد مهَّد جدي السبيل لأبي الذي وصل إلى نهاية الطريق، ولكن ليس عند كل نهاية طريقٍ نجد المُبتَغَى”. ص 11.
ولعل في هذه الفقرة ما يفسر لنا عنوان الرواية؛ فإذا كانت العودة إلى الوطن هي الأمل، فإن الإحساس بالأمان المطلق فيه هو ما وراء هذا الأمل؛ إذ لا قيمة لوطنٍ لا نحسُّ فيه بالدفء والطمأنينة، ولا معنى للبلد الذي تهان فيه إنسانيتنا وتهدر كرامتنا؛ وهو المعنى الذي يؤكده الأديب الفرنسي الكبير فيكتور هيجو Victor Hugo بقوله: “إن الإنسان الذي يرى وطنه أثيرًا على نفسه، هو إنسانٌ غُفلٌ طريُّ العود، والإنسان الذي ينظر إلى أيِّ تربة وكأنها تربة وطنه فهو إنسانٌ قوي، أمَّا الإنسانُ الكاملُ فهو الذي يرى العالمَ بأسره غريبًا عليه”.
***
وعلى كلِّ حالٍ فقد مثلت رواية (ما وراء الأمل) نموذجًا فريدًا لقضايا الشتات وإشكالياته، على مستوى التعبير والتشكيل النصي؛ ففيها حضرت اللغة مثالًا للتعبير عن حالة الشتات، وفي الآن ذاته كانت أداةً للتعبير عن التشبث بالأرض والوطن، وهذا كان يأتي بالتراصف مع استعادة رحلة العودة، والخروج من الوطن، مع ما يعقب ذلك من فعل الصدمة وارتطام الاغتراب، ومحاولة التأمل، والتذكر عبر استحضار أبعاد ثقافية جمعية، يشترك فيها الإرتريون كالرموز والعادات والمعتقدات الشعبية.
ولقد حاولت في هذه الصفحات أن ألقيَ الضوء على بعض خصائصها كنموذج لأدب الشتات، وإن كنت لا أريد أن أختمها قبل أن أشير إلى شيءٍ مهمٍّ أعجبني فيها كثيرًا، على المستوى الفني، وأسعدني كثيرًا أيضًا على المستوى الشخصي؛ فالرواية رغم أنها لكاتبٍ إرتري، ليست العربية لغته الأم، وهذه هي روايته الأولى، وربما تكون عمله الإبداعي الأول، إلا أنها جاءت نقية اللغة، رائعة الأسلوب، وأوشكت في كثيرٍ من فقراتها أن تكون بلاغية ومجازية، ولا بأس أن أعرض للقارئ الكريم ثلاثة نماذج منها، لعلها تكون مسكَ الختام في هذا المقام:
= على شفق الغروب، أسرج ظهر الرحيل، في انتظار فجرٍ طال بزوغُه، ثم طال وطال. ص 8
= إن ما يربطنا بتلك الأرض أكبر من أن نختزله في كلمات محدودة؛ ذلك لأنها عشقنا الأبدي، الذي لا بد أن نبقى له أوفياء. ص 11
= تتكدَّس في فضائنا يا ناصر سحب ليل المستعمر، لا يشق تماسكها سوى هزيم رعودٍ تنذر بالقصف والفناء، تنشر في المجال رعبًا، بعد أن زُرِعت أركان القرية قلقًا وهلعًا، إبادةً ومذابح، استهدف العدو أي أثر للحياة. ص 18/ 19.
بمثل هذه اللغة الأنيقة المبينة سطَّر محمد صالح علي حيدر روايته الأولى، وأنا على ثقةٍ كبيرةٍ من أنه سيُتبعها بروايات أخرى تماثلها صدقًا وتزيد عليها إتقانًا، وأملي ألا يبطئ في خطاه، وأن يحرص في كتاباته القادمة على مزيدٍ من التجويد في الصياغة والسرد؛ فهو يملك من أدوات اللغة ووسائل الفن ما يجعله قادرًا على أن يكون من مبدعي الصف الأول في بلاده، التي أرجو أن يعود إلى أحضانها الآمنة في أقرب وقتٍ ممكن!
* شاعرٌ وناقدٌ وأكاديميٌّ من مصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان اعتمادي الأكبر في هذه الدراسة الموجزة على الرواية نفسِها:
• ما وراء الأمل، محمد صالح علي حيدر، دار النخبة للنشر والطباعة والتوزيع بالقاهرة، الطبعة الأولى 2024
وقد رجعت فيها إلى كثيرٍ من الدراسات والمقالات النقدية التي تتصل بأدب الشتات، أخص من بينها دراستين كانت إفادتي منهما كبيرة، وهما:
• كتابة الشتات وشتات الكتابة في الرواية المغاربية، للدكتورة عتيقة غازي، وقد نشرت في مجلة ريحان للنشر العلمي التي تصدر عن مركز فكر للدراسات والتطوير، العدد السادس عشر، ص 153 ـ 178
• سرديات الشتات الفلسطيني في ضوء الخطاب ما بعد الكولونيالي: رواية “غريب النهر” لجمال ناجي، د. رامي أبو شهاب، ص 39 ـ 60 وقد نشرت هذه الدراسة ضمن كتابه “في الممر الأخير: سرية الشتات الفلسطيني” الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.